قد يبدو هذا موضوعًا دقيقًا لا يهم سوى المتخصصين في اللغة، ولكنه موضوع نعايشه في الواقع من خلال استخدام اللغة. وربما يكون من اللائق أن نبدأ أولًا بالإشارة إلى بعض الخلافات النظرية حول حرف «الجيم»، ومن هذه المسائل النظرية التي يكثر فيها الجدال: هل الجيم حرف حلقي أم شجري، أي: هل هو حرف يُنطق من أقصى الحلق كما في لفظها القاهري أم يُنطق من طرف اللسان والشفاه كما في الجيم الشامية التي تُنطَق مُعطَّشة، وتسمى أيضًا الجيم المثلثة (وفقًا لطريقة كتابتها) تمييزًا لها عن الجيم القاهرية؟ فما الأصل في نطق هذا الحرف؟ الواقع أن الجيم الشجرية أو المعطَّشة توجد في وسط الجزيرة العربية وغربها وشمالها، فضلًا عن كثير من مناطق الشام، والمناصرون لنطق الجيم على هذا النحو يظنون أن هذا النطق هو الأصل؛ ومن ثم يرون أن هذا النطق هو الذي ينتمي إلى العربية الفصحى.
ولكن الخلاف حول أصول حرف الجيم ومدى مشروعيتها قد امتد إلى مسائل أخرى من قبيل هل يجوز قراءة القرآن بالجيم القاهرية؟ وفي حين أن يرى البعض أن ذلك لا يجوز، فإن البعض الآخر يرى أنه لا يجوز تعطيش الجيم في قراءة القرآن لأن ذلك يفقد ما تتميز به من طابع الشدة والجهر والقلقلة. ولقد حظيت هذه الجيم القاهرية باهتمام الدارسين والباحثين بما تنطوي عليه من خصوصيات صوتية وقدرات تعبيرية ودلالات جمالية. وربما تكون تلك الخصوصيات التي تميز هذا الحرف هي التي دفعت الشاعر الكبير حسن طِلِب إلى كتابة ديوانه الشهير بعنوان «آية جيم»، الذي يصف فيه قوة هذا الحرف في التعبير عن الحالات المختلفة من الشدة كما في جيم «الجهر» وجيم «الزجر» وجيم «الجيشان»، إلخ. حيث يقول فيه: «باسم الجيم والجنة والجحيم ومجتمع النجوم... إنكم اليوم ستُفجأون»، ويقول:
«فالجيم مُعجبة إذا نجحتْ
ومُرجِفة إذا رجحتْ
ومفجِعة إذا جنحتْ
ومُجحِفة إذا جمحتْ
ومُجرِمة إذا جرحتْ»
ولكن بصرف النظر عن المسائل التأملية والجدالية حول حرف «الجيم»، فإن الخلاف حولها لا ينبغي النظر إليه من خلال المفاضلة بين موقفين، وإنما باعتباره خلافًا بين اللهجات العربية التي تختلف باختلاف أهلها وموطنها، ولا أكثر من ذلك. وعلى هذا، فإن الإصرار على استخدام الجيم الشجرية في بعض المواضع ينطوي على نوع من الحذلقة التي تجعل صاحبها يقع في الخطأ، ومن ذلك الإصرار على استخدام الجيم الشجرية حتى في نطق أسماء الأعلام الأجنبية التي تُنطَق فيها الجيم حلقية.
أما المشكلة الحقيقية فيما يتعلق باستخدام «الجيم»، فتتمثل في قلب «الجيم» إلى حرف «الغين» حتى فيما يتعلق بنطق أسماء الأعلام الأجنبية وكتابتها، حين تكون فيها الجيم حلقية، فنجد على سبيل المثال: اسم هَيدِجر يُكتب هيدغر، واسم جادامر Gadamer يُكتب غادامر وغادمير، وهيجل Hegel تُكتب هيغل، والهيجلية تكتب الهيغلية، وغير ذلك كثير من الكلمات التي تشير إلى أسماء الأعلام والمفاهيم أو المصطلحات. ومكمن الخطورة هنا هو شيوع هذا الخطأ، ليس فقط في الكتابات الأكاديمية، وإنما أيضًا في المقالات الصحفية وعلى شاشات التليفزيون كما تَرِد على ألسنة المذيعين حتى في القنوات الرصينة التي يجيد مذيعوها التحدث بعربية سليمة (كما في قناة الجزيرة على سبيل المثال). وربما يكون مصدر هذا الخطأ آتٍ من أهل الشام، وربما يكون آتيًا من المغاربة، وهذا الاحتمال الثاني هو الأرجح؛ فلسان المغاربة متأثر في لكنته بالفرنسية التي يكثر فيها استخدام حرف الغين، فتراهم ينطقون أسماء الأعلام ويكتبونها وفقًا لنطقها في الفرنسية، حتى لو كانت أسماء أعلام ألمانية أو إنجليزية: ففي الألمانية- على سبيل المثال- تنطق الجيم حلقية أو مجهورة، أما حرف الغين فيها فلا ينطق إلا مختلطًا بحرف الراء R حينما يأتي وسط الكلمة.
وعلى هذا، ينبغي أن نحرر لغتنا العربية المستخدمة أكاديميًّا والمتداولة إعلاميًّا من مثل هذه الأخطاء: ذلك أن الأسماء في أية لغة حينما تُترجَم إلى أية لغة أخرى؛ فإنها ينبغي أن تُنطق في اللغة المنقولة إليها كما تُنطق في لغتها الأصلية؛ وهي تُكتب على هذا الأساس من النطق وفقًا للإمكانيات الصوتية لحروفها. وهذا الكلام يصدق على اللغة العربية مثلما يصدق على أية لغة أخرى؛ فلا يجوز نطق الأصلي للأسماء وفقًا للغة أخرى مختلفة عن لغتها الأصلية. هذه قاعدة عامة لا يجوز الاستثناء منها إلا إذا كانت هذه الأسماء قد تم تعريب نطقها منذ زمن طويل حتى أصبح تعريب نطقها مستقرًا في اللغة نطقًا وكتابةً وتداولًا، على نحو ما نتداول اسم أفلاطون وأرسطو على سبيل المثال.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على سبیل المثال لا یجوز على هذا ا الجیم کما فی التی ت
إقرأ أيضاً:
سلامة داود يوضح دلالة «إن» و«إذا» في القرآن والسنة وأثرهما في ترسيخ اليقين بالله
أكد الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر الشريف، إن من أدوات اللغة العربية الدقيقة التي تكشف عن عمق المعاني الإيمانية أداة الشرط «إن» وأداة الشرط «إذا»، موضحًا أن علماء اللغة قرروا أن الفرق بين الأداتين أن «إن» تُستعمل في الأمر المشكوك فيه غير المجزوم ولا المقطوع به، أي في الأمر الذي يدور في دائرة الشك، بينما تُستعمل «إذا» في الأمر المتيقن المجزوم به المقطوع بحصوله، فيقال: «إذا جاء زيد فأكرمه» عندما يكون مجيء زيد أمرًا متحققًا، ويقال: «إن جاء زيد فأكرمه» عندما يكون مجيئه أمرًا غير متيقن.
وأوضح رئيس جامعة الأزهر، خلال حلقة برنامج "بلاغة القرآن والسنة"، المذاع على قناة الناس، اليوم السبت، أن هذا الأصل اللغوي الدقيق تجلّى بوضوح في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله في دعائه: «اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة… فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير»، مشيرًا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم أداة الشرط «إن» لأن مدلولها الشك وعدم الجزم، وكأن المعنى أن خذلان الله لعبده أمر مشكوك فيه وغير متيقن، بل هو بعيد الوقوع، وذلك لشدة يقين النبي صلى الله عليه وسلم بالله، وعظيم إيمانه بأن الله معه، وأنه لا يخذل عبده المؤمن.
وبيّن الدكتور سلامة داود أن هذا الأسلوب النبوي يربي في نفس الداعي معنى جليلًا، وهو أن الأصل المقطوع به أن الله لا يكل عبده إلى نفسه ولا إلى غيره، وإنما يتولاه وينصره ويؤيده، كما قال سبحانه: «إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين»، لافتًا إلى أن حرفًا واحدًا في اللغة، وهو «إن» الشرطية، قد يحمل هذا المعنى الإيماني العميق الذي يزيد المؤمن ثقة بالله ويقينًا بنصره.
وأشار إلى مثال آخر من السنة النبوية في غزوة بدر، حينما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة وهم يلتحمون مع المشركين في أرض المعركة، فرفع يديه وقال: «اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض»، موضحًا أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم «إن» الشرطية لأن هلاك المسلمين يوم بدر كان أمرًا مشكوكًا فيه وبعيدًا للغاية، بل غير وارد في يقينه، إذ إن نصر الله لهم كان أمرًا مجزومًا به ومتيقنًا، أما الخذلان والهزيمة فأنزلهما منزلة الشك لا اليقين.
وتوقف رئيس جامعة الأزهر عند لفظ «العصابة» في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، مبينًا أن العصابة في اللغة مأخوذة من العصبة، وهم أهل الرجل الذين يحمونه وينصرونه ويؤازرونه، وهم أقرب الناس إليه، موضحًا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وصف الصحابة بأنهم «عصبة» أفاد أن التفافهم حوله يوم بدر كان التفاف العصبة بأهلها، وأنهم كانوا بمثابة أهله وعشيرته، يحيطون به وينصرونه ويفدونه بأموالهم وأنفسهم وأرواحهم.
وأكد الدكتور سلامة داود أن هذه الدلالات اللغوية العميقة تكشف كيف استُخدمت أدوات الشرط في السنة النبوية لترسيخ معاني اليقين بنصر الله، وتعظيم الثقة في معيته لعباده المؤمنين، وتعليم الأمة أن خذلان الله لعبده ليس هو الأصل، وإنما الأصل الثابت المقطوع به هو التأييد والنصرة والتولي، رضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
https://youtu.be/FuBxrV_QKd4?si=fmpovlX97QXDvGOP