كانت الآداب والفنون على مر التاريخ جزءا من التطور الطبيعي للإنسان وفكره، ودليلا على تفرده من بين مخلوقات الله الأخرى على هذه الأرض. وتعزز الفنون والآداب التي أنتجها الإنسان عبر القرون هُويته وتعزز وحدته وتقدمه، وتكشف عن تصورات الإنسان وتأملاته في هذا الكون ورؤيته للمستقبل عبر الأدب الاستشرافي.

. والفنون والآداب وكل النتاج الفكري الإنساني هي التي تشكل وعي الإنسان وهذا أحد أهم شروط التقدم الإنساني فكرا وخلقا.

والثقافة بكل مفرداتها كانت على الدوام الركيزة الأساسية للهوية المجتمعية، تجسد القيم والتقاليد، وتعكس خبرات المجتمعات وتساهم في التعبير عن الروح الثقافية والحفاظ عليها، ومن خلال الشعر والسرد ومجمل الفنون البصرية تنقل المجتمعات تراثها عبر الأجيال. والأمم والشعوب التي تحتفي بالمبدعين وتكرم المثقفين هي أمة واعية ومدركة لأهمية النتاج الذي يبدعه هؤلاء المبدعون والمفكرون.. وهذا الاحتفاء وإن كان فرديا في الكثير من الأحوال إلا أنه احتفاء بالمنجز الفكري والأدبي والإبداعي كافة، واعتراف بدوره ومكانته.

وعندما أعلنت جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب نتائج دورتها الجديدة اليوم كانت تؤكد اهتمام الدولة في عُمان بالمنجز الثقافي والفكري وبالعقول التي أنتجته وأبدعته. وعُمان عبر التاريخ كانت تحتفي بمبدعيها ومفكريها وشعرائها ولذلك ازدهر الأدب والفكر وأنتج الشعراء ملاحم شعرية ستبقى خالدة تنتقل من جيل إلى جيل، وكذلك أنتج المبدعون مدونات في كل صنوف المعرفة العلمية وفي العلوم الإنسانية في أوقات لم تكن فيه مطابع وكانت الكتب تُخط وتُنسخ باليد ومن يعود إلى دار الوثائق العمانية وغيرها من المؤسسات المعنية بحفظ المخطوطات والوثائق سيقف على المنجز الإنساني في عُمان ويعرف أن ذلك ما كان ليزدهر لولا أن الدولة العمانية والقيادة السياسية فيها كانت داعمة لهذا الإبداع والعطاء الفكري الكبير. والآداب بكل أنواعها وتجلياتها دليل قوة المجتمعات وقدرتها على التأمل والتفكير، وهي بعد ذلك أداة من أدوات غسل الروح الإنسانية وتطهيرها من العناء اليومي وفق تعبير بابلو بيكاسو الذي قال إن «الفن يغسل عن الروح غبار الحياة اليومية».

وجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب واحدة من أهم الجوائز في العالم العربي ليس في قيمتها المادية فقط ولكن أيضا في مكانتها المعنوية لأنها مرتبطة باسم السلطان قابوس وبعُمان التي تلبس الجائزة ذلك البعد الحضاري والتاريخي المستمد من حضارتها وتاريخها العريق.وهذه مناسبة للتأكيد على أهمية الجوائز في دعم الثقافة والمثقفين والأدباء والمفكرين لبذل الكثير من العطاء من أجل أن تبقى مشاعل النور متقدة تضيء للإنسان مسارات المستقبل.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

البُعد الأخلاقي في مسيرة الابتكار الإنساني (1- 3)

 

 

عبيدلي العبيدلي **

 

يلِجُ الإنسان في عصر الثورة الرقمية والتقدم العلمي المُتسارع؛ كي يجد نفسه أمام ظواهر غير مسبوقة في الميادين التي ولدتها هذه الثورة، التي يتقدمها الابتكار، الذي أصبح اليوم الأكثر تأثيرًا في حياة هذا انسان.  لقد تطور الابتكار كي يتحول إلى المحرك الأساسي لتطور المجتمعات والاقتصادات، بل وأداة رئيسية لمواجهة التحديات الكبرى مثل التغير المناخي، والصحة العامة، والتعليم، والفقر.

ومع ذلك، فإن هذا الزخم الابتكاري يضع أمام الإنسانية مسؤوليات أخلاقية متزايدة، وغير مسبوقة؛ إذ لم يعد يكفي أن يكون الابتكار جديدًا، أو فعالًا، أو مربحًا فحسب، بل يجب أن يكون أيضًا مسؤولًا، يحترم كرامة الإنسان وحقوقه، ويخدم الصالح العام دون الإضرار بالفرد أو المجتمع أو البيئة.

ويعرف الابتكار، في إطاره الاقتصادي، بأنه "مجموع الخطوات العلمية والفنية والتجارية والمالية اللازمة لنجاح تطوير وتسويق منتجات، أو خدمات، أو عمليات جديدة، أو محسنة، والاستخدام التجاري لها". ويعد الابتكار المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي والتنمية التكنولوجية، إذ يرفع من إنتاجية عناصر الإنتاج، ويعزز القدرة التنافسية، ويقود إلى تنويع مصادر الدخل وتحسين جودة الحياة. 

هنا، ينبغي تحاشي رؤية العلاقة بين الابتكار والأخلاق، بوصف كونها، علاقة تنافر أو صراع؛ بل علاقة تكامل وتفاعل. فكل ابتكار يحمل في طياته بُعدا أخلاقيًا، سواء في نوايا المبتكرين، أو في طريقة تطبيقه، أو في نتائجه على الناس والمجتمعات. من هنا، يبرز مفهوم "الابتكار الأخلاقي" الذي يضع القيم الإنسانية في صلب العملية الابتكارية، ويشجع على تطوير حلول تقنية وإبداعية تراعي العدالة، والشفافية، والاستدامة، والاحترام المتبادل.

وشهدنا عبر التاريخ أمثلة عديدة على ابتكارات غيرت وجه العالم، لكنها في بعض الأحيان أثارت تساؤلات أخلاقية عميقة، مثل الذكاء الاصطناعي، وتعديل الجينات، وتقنيات المراقبة الرقمية. وفي المقابل، هناك ابتكارات التزمت بقيم أخلاقية راسخة، فحققت نجاحًا واسعًا وقبولًا مجتمعيًا، مثل تطوير اللقاحات مع احترام حقوق المرضى، أو تطبيقات التكنولوجيا المساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة، أو منصات التعليم المفتوح التي تتيح المعرفة للجميع دون تمييز.

إن دمج الأخلاق في الابتكار لم يعد ترفًا أو خيارًا ثانويًا، بل احول إلى ضرورة لضمان أن يكون التقدم في خدمة الإنسان، وأن تظل التكنولوجيا وسيلة لتحقيق الرفاهية الشاملة، لا مصدرًا للمخاطر أو الانقسامات.

البُعد الأخلاقي في الابتكار هو حزمة الاعتبارات والقيم التي يجب أن يلتزم بها الإنسان عند تطوير أفكار أو منتجات أو خدمات جديدة، بحيث لا تقتصر نتائج الابتكار على المنفعة أو الربح فقط، بل تمتد لتشمل احترام كرامة الإنسان، وحماية حقوقه، وتعزيز العدالة، وضمان عدم الإضرار بالمجتمع أو البيئة.

من هنا يضع الابتكار الأخلاقي، على كل ابتكار مسؤولية تقييم كل منتج، ليس من حيث جدواه التقنية أو الاقتصادية فحسب، بل أيضًا من حيث أثره على الأفراد والمجتمع والبيئة، ومدى توافقه مع القيم الإنسانية الأساسية مثل الشفافية، والإنصاف، والاستدامة، والمسؤولية الاجتماعية.

البُعد الأخلاقي في الابتكار

ولضمان مراعاة البُعد الأخلاقي في الابتكار، يمكن اتباع الخطوات التالية:

•        تحديد المبادئ الأخلاقية الأساسية: لا بد أن ينطلق الإنسان من قيم واضحة مثل احترام الكرامة الإنسانية، والعدالة المجتمعية، والخصوصية، وعدم الإيذاء، والاستدامة، والشفافية، والمساءلة.

•        تحليل الآثار الأخلاقية للابتكار: قبل تنفيذ أي ابتكار، ينبغي تقييم الفوائد والأضرار المحتملة على جميع أصحاب المصلحة (المستخدمين، المجتمع، البيئة)، مع الحرص على عدم انتهاك الحقوق، أو التسبب في تمييز أو استغلال.

•        إشراك أصحاب المصلحة: من المهم التشاور مع الأطراف المتأثرة بالابتكار (عملاء، موظفون، جهات تنظيمية، مجتمع محلي) للحصول على وجهات نظرهم ودمجها في عملية اتخاذ القرار، مما يُعزِّز الشفافية والثقة 136.

•        الامتثال للأطر القانونية والتنظيمية:  يجب التأكد من أن الابتكار يتوافق مع القوانين المحلية والدولية، خاصة تلك المتعلقة بحماية البيانات، والملكية الفكرية، وحقوق الإنسان.

•        التوازن بين المخاطر والمسؤولية: على المبتكر أن يوازن بين السعي لتحقيق التقدم، أو جني الأرباح، من جهة، وبين المسؤولية تجاه المجتمع، وذلك من خلال تقييم المخاطر المحتملة وتبني استراتيجيات للحد منها، من جهة أخرى.

•        تعزيز ثقافة الابتكار الأخلاقي: يتطلب الأمر تثقيف وتدريب الفرق على القضايا الأخلاقية، ومكافأة السلوك المسؤول، وتبني سياسات واضحة تشجع على الابتكار المسؤول.

•        التعلم والتحسين المستمر: مراجعة نتائج الابتكارات بشكل دوري، والتعلم من الأخطاء، وتحديث السياسات والممارسات الأخلاقية باستمرار.

هنا لم تعد الأخلاقيات عائقًا أمام الابتكار؛ بل هي محرك محفز له، لأنها تساعد على تحديد المشكلات الحقيقية، وتوقع الآثار السلبية، وتعزيز الثقة والشرعية في المجتمع.

وبهذا النهج، يصبح الابتكار وسيلة لتحقيق التقدم الإنساني المستدام، ويظل في خدمة الإنسان والمجتمع دون المساس بالقيم الأخلاقية أو الحقوق الأساسية.

الابتكار يحترم كرامة الإنسان وحقوقه

ولضمان احترام الابتكار لكرامة الإنسان وحقوقه، يجب اتباع نهج متعدد المستويات يشمل:

•        تضمين مبادئ حقوق الإنسان في التصميم: يجب أن تدمج المبادئ الأساسية مثل الكرامة، العدالة، الخصوصية، وعدم التمييز في جميع مراحل تطوير الابتكار، من الفكرة إلى التنفيذ.

•        إجراء تقييمات أثر حقوق الإنسان (HRIA): هذه التقييمات تحدد وتقيّم الآثار الإيجابية والسلبية للابتكار على حقوق الإنسان طوال دورة حياته.

•        إشراك أصحاب المصلحة المتنوعين: تضمين المستخدمين النهائيين، والخبراء، والمجتمعات المهمشة في عملية التطوير لضمان أن الابتكار يلبي احتياجات الجميع ولا يضر بأي فئة.

•        آليات الشفافية والمساءلة: وضع آليات واضحة للشفافية والمساءلة، بما في ذلك مراجعات خارجية وتدقيق مستقل، لضمان الالتزام بالقيم الأخلاقية.

•        التحسين المستمر والتعلم: مراجعة وتحديث السياسات والممارسات الأخلاقية باستمرار استجابة للتغيرات والتحديات الجديدة.

** خبير إعلامي

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • جامعة السلطان قابوس توقع برنامج تعاون مع "كازان" الروسية
  • «الأغذية العالمي»: الوضع الإنساني خرج عن السيطرة في غزة
  • البُعد الأخلاقي في مسيرة الابتكار الإنساني (1- 3)
  • برعاية سعودية وإماراتية .. عصابات الارتزاق تنهب تاريخ اليمن وتغتال موروثه الحضاري
  • برلماني: مصر كانت و لا زالت في طليعة الدول الداعمة للقضية الفلسطينية
  • محام: إذا كانت المرأة معتادة على شرب القهوة في بيت أبيها وجب على زوجها فعل ذلك
  • عادل عوض: تونس كانت تنظم 480 مهرجانا فنيا قبل الربيع العربي
  • حملات نظافة مكبرة للارتقاء بالشكل الحضاري والجمالي ببلبيس في الشرقية
  • محمد محيي الدين والوضاءة التي كانت عبر مناديله العديدة
  • برنامج تعاون بين جامعتي السلطان قابوس و«كازان الفيدرالية»