ثنائية الماء والتاريخ في رواية «عروس الغرقة» للكاتبة أمل الصخبورية
تاريخ النشر: 24th, November 2024 GMT
منذ ظهور أولى الروايات التي اعتمدت جانب التأريخ في سرديتها والتي يعتقد أنها رواية "وايفرلي" لوالتر سكوت والرواية التاريخية تحظى بقبول وشعبية، سيما أنها ارتبطت في أذهان القراء والمتلقين بروائع عالمية تناولت الشأن التاريخي بقلم الإبداع الأدبي المحافظ على روح الأدبية ومزج التاريخ ببعض الخيال. وهذا ما فعله ليف تولستوي في "الحرب والسلم" عندما قدم حالة اجتماعية صاخبة بالحياة وقصص الحب والخيانة واللهو والسعي وراء المال والمكانة الاجتماعية.
وإذا كان تولستوي قد حرص على التفريق بين عمل الكاتب وعمل المؤرخ فجعل ما ينقله الأديب المبدع بقلمه أهم مما يدونه المؤرخ لأسباب تتعلق بنظرته إلى دور كل منهما في نقل التاريخ وتوثيق الإنسان، وما يكتنفه من مشاعر تلازم كل مرحلة حاسمة تمر بها البشرية في بقعة ما من الكرة الأرضية، فإن أمل عبدالله تضع نفسها في خضم مواجهة مع التاريخ من زاوية معينة، وكأنها تعلم أن كتابة التاريخ وحده كما هو لا يسمى أدبا، فكان المحك كبيرا وحساسا ذلك الذي امتحنت فيه قدرة قلمها وخيالها على إحاطة المادة التوثيقية التي تسجل فيها أحداثا ومواقف مرت على بلدها سلطنة عمان بسردية أدبية فيها من الخيال الذي يغذّي حوارات الشخصيات وينمي المشاعر التي تحملها كل شخصية ويمتلئ بها كل موقف، غازلة لخيوط رفيعة تربط الحكاية وتمسك بيد السرد سائرة به قُدما في زمنين متوازيين، لتبدو رواية "عروس الغرقة" نصين لا نصا وسيرتين لا سيرة واحدة وعالمين مختلفين في الظاهر: عالم غدق الشابة العمانية "العروس" وحياتها الجديدة في منزل سعود "الزوج" والذي حددته الكاتبة بعام 2007م، وعالم زيانة حمد المولودة في زنجبار لوالد عماني وأم زنجبارية. وهذه إحالة تاريخية ذكية من الكاتبة التي فتحت نصًا موازيًا على تاريخ غير معلن في الرواية وهو العلاقات التاريخية بين سلطنة عمان وزنجبار التي كانت ذات يوم مرتبطة بسلطنة عمان ارتباطا وثيقا.
"رغم أننا لم نلتق إلا على الورق، إلا أنها زارتني في المنام بلباس تقليدي أخضر تسحب شالها مثل عروس شامخة.. وبقربها طبق فخاري مملوء بالحلوى العمانية حفر على سطحها اسم زنجبار وبجانبه رسمة هلال".
هكذا تبدأ أمل منذ العتبات الأولى للرواية بشحن عقل القارئ وتهيئته للجرعة المكثفة والمختزلة التي سيمتلئ به نصها لعرض الموروث العماني الفكري والاجتماعي، واستخدامه كمؤثث لنص يصلح للمحاكمة الثقافية التي تحدث عنها عبد الله الغذامي في "إشكاليات النقد الثقافي".
لقد اعتمدت الكاتبة على التأثيث الثقافي المستند إلى الموروث العماني اعتمادا واضحا، وهذا يفسره الطبيعة التاريخية للحكائية التي تسردها عن "سيرة انتفاضة الماء". وثيمة الماء تكاد تكون مؤثثًا حاضرًا في كثير من الروايات العمانية ومن أشهرها بلا شك رواية الكاتب زهران القاسمي "تغريبة القافر" التي وصِفت أنها رواية مائية فهل يمكننا إطلاق ذات الوصف على رواية "عروسة الغرقة"؟
الماء حاضر في كل تفاصيل حياة الإنسان وممارساته ولكنه في الموروث العماني يأخذ خصوصية متفردة، فهو من جهة يتصف بالشح والندرة وما يتبعه من سرديات البحث والتنقيب ومتابعة جريانه في الأرض، ومن جهة أخرى يرتبط بالكوارث الطبيعية والأعاصير الناجمة عن غزارة الأمطار والتي أحدثت أضرارا بالغة وخلّفت مآسي كثيرة. وربما ارتبط عنصر الماء روائيا بمفردات البيئة العمانية المليئة بالعيون المتفجرة مثل عين غلا وعين الحمام وعين الفج والمسفاة وعين وضاح وغيرها، التي أضفى عليها العقل الشعبي هالة من القداسة والتبرك وجعلها أسبابا للاستشفاء والعلاج.
وإذا كان دور الحكايات الشعبية استخدام هذا الموروث بطريقة تلائم المتلقي البسيط الذي يرى في توفر الماء نوعا من الأمل بالخير والبركة فإن الروائي له أدوات أكثر صرامة وليونة في ذات الوقت. ومن أهم هذه الأدوات الوصف الذي يشكل مع السرد علاقة عكسية من حيث التأثير على الإيقاع. فالسرد يسرع إيقاع النص والوصف يعرقل مسيرته ويخضعه لمجموعة من الإحالات التي تتناص على تلك المؤثثات التي أشرت إليها. تقول زيانة حمد الشخصية القادمة من 1874م من زنجبار: "أكتب رسالتي الأولى في فناء بيتنا تحت شجرة البيذام" وتقول أيضا: "عملت أمي من باب التسلية وتحسن الدخل مربية لأحد الأمراء في قصر بيت الساحل". وتقول غدق "العروس": "حين تأملت الخالة زيانة الصندوق كانت كمن يغوص في البحر" وتقول في موضع آخر من الرواية: "فبيوت القرية أغلب بنائها الأساسي من الطين ومكوثها تحت الماء لساعات يجعلها عرضة للانهيار بلا سابق إنذار". ولكن سمة الاعتدال بين المتعاكسين: السرد والوصف مكنت الكاتبة من السير بأمان والتنقل بين عالمين راغبة في الوصول إلى نهاية منطقة ومبررة لولوجها خطين من الزمن والتاريخ..فعالم غدق المليء بحكايات القرية وعادات أهلها الاجتماعية التي أظهرتها الكاتبة بوضوح تام في وصف الطعام واللباس والأمكنة التي تتنقل فيها الشخصيات،أما عالم زيانة حمد فيعكس صورة لحقبة تاريخية احتاجت معها الكاتبة إلى العودة إلى بعض المراجع، تلك الحقبة التي قد لا نعرف عنها الكثير ولو لم يحمل الأدب على عاتقه مهمة الإضاءة على المظلمات لظلت غارقة في غياهب الجهل والنسيان.
"عروس الغرقة" للكاتبة أمل بنت عبدالله الصخبورية نموذج من نماذج الأدب العماني الحديث الذي لم يتخلَّ رواده عن هاجس التاريخ العماني الذي ارتبط وثيقا بالماء وسردياته المتنوعة وهي نموذج روائي مكتمل العناصر اتصف بلغة سامقة وتمكن واضح من المكون اللغوي وتوظيف للأداة الوصفية بشكل يساهم في رسم صورة متخيلة لعناصر الرواية.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
نوبة الغريبة.. روايةٌ تتناول مراحل من تاريخ الجزائر الحديث
الجزائر "العُمانية": تتناول أحداث رواية "نوبة الغريبة" الصّادرة عن دار أدليس للنشر والترجمة، بقلم الروائيّ الجزائري، محمد الأمين بن ربيع، واقع الحياة في الجزائر، في فترة الاستعمار، وفي فترة العشرية السوداء.
وتقول الناقدة، سارة سليم، في قراءتها لهذه الرواية "قد تبدو الرواية عن امرأة أو مغنيّة هربت من كلّ ما له علاقة بماضيها، ومدينتها، وأهلها، بحثا عمّا يجعلها تثبت ذاتها من وجهة نظرها، لكنّ الرواية تتجاوز ذلك إلى الحديث عن تحوُّلات وصمت فترة معيّنة من تاريخ الجزائر على لسان امرأة، ومن وجهة نظر مغنيّة تحكي حياتها كما عاشتها. امرأة منحتها الحياة اسمين وحياتين، "بركاهم"؛ اسمٌ يحمل ذاكرتها الأولى، و"بهجة"؛ اسمٌ اختلقه لها "قاسم الدساس" لتكون في البدء بهجته هو.
وتضيف الناقدة "عاشت بهجة حياتين، حياة تبدو للجميع متّسقة مع تلك الفترة من تاريخ الجزائر، وحياة داخلية تعيشها وحدها، بينها وبين نفسها، تذكّرها دائمًا أنّها بركاهم القادمة من بوسعادة؛ هذه المدينة الزاخرة بالفن، وبالتراث، وحكايات لم تحك بعد".
وتؤكّد بالقول "في (نوبة الغريبة)، لا يكتب محمد الأمين بن ربيع تاريخ تلك المنطقة روائيًّا أو يأتي على ذكر حقائق بعينها وأشخاص بذاتهم، لكنّه يحاول قدر الإمكان أن يقبض على الوجوه والملامح التي تؤسّس لهذه الرواية، ملامح قد تبدو قريبة من الواقع، لو حاولنا أن نمعن النظر فيها، لكنّها لا تشبه إلاّ تصوُّرات الرواية نفسها، التي قد تلقي بظلالها على الواقع، لكنّها أبداً لن تعيد طرحه".
وتقول الرواية على لسان بهجة: "حين كنتُ في بداياتي منتصف الثمانينات، كان للفنّ قيمته ولأهل الفنّ مقامهم، أمّا اليوم فقد أضحت تلك الحفلات مجرّد تقليد".
قد يبدو للبعض أنّ "الغريبة"، المقصودة في العنوان، هي "بركاهم" الشّخصية الرئيسة للرواية؛ "بركاهم" التي أصبحت "بهجة" قاسم الدساس، في حين أنّ كلّ شخصيّات الرواية، كالزينيّة، وروفيا، وخولان، وقاسم الدساس، تروي حكايتها وفق منطقها الخاص؛ حكايات تقول إنّ جميعهم غرباء يبحثون عن هوياتهم، والغربة في هذه الرواية حالة روحيّة، أكثر من أيّ شيء آخر، لذا جاء العنوان مركّبًا من "النوبة" التي تعتبر مزيجاً بين الموسيقى العربيّة والأندلسيّة، والغريبة التي تصف هؤلاء جميعا. ويُشبه أبطال رواية "نوبة الغريبة" النبتة التي زرعت في غير أرضها وموسمها.
و "نوبة الغريبة"، هي رواية عن الخطيئة، من وجهة نظر غرباء يتهرّبون من خطايا ظلّت تلاحقهم، خطايا حاولوا جاهدين نسيانها، لكنّها لم تنسَهم، كما أنها رواية عن كلّ الأشياء التي نصمت عنها، لكنّها تستمرُّ بملاحقتنا طوال العمر، لا هي أصبحت قريبة ولا نحن نعدل عن كوننا غرباء. هي نوبة الغريبة بالفعل، لكن لن نختصرها، بكلّ تأكيد، بل نطلع من خلالها على الفن، وتاريخ المدن حين تختصره مدينة اسمُها بوسعادة، هذه المدينة التي عبّر عنها محمد الأمين بن ربيع روائيًّا، بقوله: "المدينة البعيدة الرابضة بين الجبال كأنثى مدلّلة ترفض أن تمنح نفسها لمن يريدها".