أقف على جزء من الآية السابعة عشرة من سورة الرعد "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" وقفة متأمل، فأجد فيها من العدل الإلهي ما يجعل لساني يلهج شكرا له، لأن له وحده القدرة على بقاء النافع المفيد للناس، وذهاب ما لا ينفعهم. فلم يجعل لبشري هذه القدرة، وربما من أسباب ذلك أن الأهواء تتحكم في تحديد ما ينفع الناس وما لا ينفعهم، حال كانت هذه القدرة بيد البشر.
أثرى ابن سينا المكتبة العربية بكتب عديدة أقلُّها جودة، أعلى مما تستطيع الأذهان المتوسطة الوصول إليه وبلوغ مرامه. وقد نبغ هذا العَلَم الكبير في عدة علوم فهي تتنازعه فيما بينها، كالفلسفة والطب وعلم النفس واللغة والموسيقى وغيرها. والكتاب الذي بين أيدينا اليوم ، هو "رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها"، وهي على صغرها تحوي من الكنوز ما يجعل المرء مذهولا من العبقرية الفذة لصاحبها.
يبتدئ ابن سينا رسالته بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، بلفظ حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وحلو رائع، تدلنا على البراعة الأدبية العالية للفيلسوف الكبير. ثم يشرع في وصف رسالته ومنهجها. ومما شدني في رسالته؛ تسميته لعلم النفس بهذا الاسم أولا، وتحديد خارطة الطريق لهذه الرسالة حيث يقول "فهذه رسالة حررتها في علم النفس، وجعلتها ثلاثة فصول. الفصل الأول: في إثبات أن جوهر النفس مُغاير لجوهر البدن. الفصل الثاني: في بقاء النفس بعد فناء البدن. الفصل الثالث: في مراتب النفوس في السعادة والشقاوة بعد مفارقة النفس عن البدن". وهو شيء يندر وجوده في زمن ابن سينا، أعني هذه التقسمية المنهجية الواضحة التي تشبه كتابا منهجيا حديثا. مُتبِعا حديثه عن هذه الفصول بتفصيل ما في الخاتمة من موضوعات.
ثم يفصل ما تشتمل عليه رسالته، أي الفوائد التي يجنيها القارئ من قراءتها وهي "معرفة الإنسان نفسه، وما يؤول إليه حاله بعد الارتقاء... فإن معرفة النفس مرقاة إلى معرفة الرب" ، ولكنه يستدرك كي لا يتوهم القارئ بأنه أمام كتاب عادي يتناول أمر الجسم الخارجي، فيقول "ولو كان المراد بالنفس ... هو هذا الجسم لكان كل أحد عارفًا بربه، أعني خصوص معرفة، وليس كذلك؛ فهذه الرسالة تهديك إلى الأسرار المخزونة في عالم النفس الذي غفل عنه الدهماء من الناس، بل أكثر العلماء عنه غافلون..". ثم يشرع في بسط ما ذكره من الفصول.
يعرض ابن سينا في بداية الفصل الأول من فصول الرسالة أقوال العلماء في "المراد بالنفس" مع نقد لأقوالهم وتبيان قوله ورأيه هو، داعما رأيه بالبراهين المنطقية المُدرَكَةِ بالتجربة البشرية المتماثلة عند كل إنسان. أعني بها تجربتنا مع البدن الذي هو زائل لا محالة، متعرض للزيادة والنقصان، مبرهنا على فنائه وبقاء جوهر النفس بثلاثة براهين أُبسِّطها -مع علمي بقصور هذا التبسيط الذي لا يغني عن قراءة الرسالة- في ؛ الذاكرة، الذاكرة الشرطية، الجوهر. ثم يستطرد في الفصل الثاني "في بقاء النفس بعد بوار البدن" في بسط ما توّصل إليه في الفصل الأول.
أما الفصل الثالث من هذه الرسالة وهو الفصل الذي عنوانه "في مراتب النفوس في السعادة والشقاوة بعد المفارقة عن الأبدان" يذكرني بكتاب معاصره وصديقه، الفيلسوف الكبير مسكويه "تهذيب الأخلاق" ، وفيه من التشابه معه الشيء الكثير، وكذلك الخاتمة. ويرى فيه بأن "النفس الإنسانية لا تخلو عن ثلاثة أقسام؛ لأنها إمَّا أن تكون كاملة في العلم والعمل، وإمَّا أن تكون ناقصة فيهما. وإمَّا أن تكون كاملة في أحدهما ناقصة في الآخر". ثم يشرع في شرح الفروقات بين هذه التقسيمات وأحوالها.
يفرد ابن سينا لرسالته خاتمة بديعة، يذكر فيها "العوالم الثلاثة التي هي عالم العقل وعالم النفس وعالم الجسم"، ثم يستطرد في شرح ما يذهب إليه. ومما تجدر الإشارة إليه، هو السبك المحكم لهذه الرسالة؛ فهي قصيرة مختصرة اختصارا لا يُخِلُّ بالمُراد منها والمطلب التي هي وسيلة للوصول إليه. كما أن ابن سينا يستشهد بالآيات الشريفة والأحاديث النبوية في كلامه وبراهينه التي ضمَّنها رسالته. وهو يذكرنا بأن العبقرية شرح أصعب الأشياء وعرضها، بطريقة سهلة يسيرة يستطيع كل إنسان فهمها.
لا يمكن الحديث عن هذه الرسالة دون ذكر الجهود الجبارة التي تقدمها مؤسسة هنداوي للثقافة العربية، وهي "مؤسسة غير هادفة للربح، تهدف إلى نشر المعرفة والثقافة، وغرس حب القراءة بين المتحدثين باللغة العربية" كما تُعرِّف نفسها، وهي تتيح الكتب العربية والرسائل الجادة كهذه مجانا، وبصيغ إلكترونية عديدة تتناسب مع أجهزة القراءة العصرية كجهاز Kindle، وKobo، وBarnes & Noble Nook، وSony Reader. وهي المؤسسة التي اعتمدت عليها في الحصول على هذه الرسالة النفيسة ورسالة أخرى وكتاب للشيخ الرئيس.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه الرسالة ابن سینا
إقرأ أيضاً:
تحرك استيطاني جديد.. الائتلاف يضغط لرفع العلم الإسرائيلي شمال غزة
قدّم وزراء وأعضاء كنيست من أحزاب الائتلاف اليميني المتطرف، اليوم الخميس، طلبًا جديدًا يعكس تصعيدًا سياسيًا منظّمًا، موجَّهًا إلى وزير الأمن يسرائيل كاتس، للموافقة على إقامة فعالية استيطانية كبرى لرفع العلم الإسرائيلي شمالي قطاع غزة .
وطالب مقدّمو الطلب بتنظيم الفعالية خلال عيد "الأنوار" (حانوكا) في موقع مستوطنة "نتسانيت"، التي أُخليت عام 2005 ضمن خطة "فك الارتباط"، وذلك بالتزامن مع ما وصفوه بأنه "عودة إسرائيل إلى مستوطنات غوش قطيف". وأوضحوا أن توقيت هذا الحدث يأتي بعد عامين على هجوم السابع من أكتوبر، مؤكدين أن الحرب الطويلة "لم تصل إلى تعريف واضح للنصر"، وأن الوضع الميداني "لا يعكس استعادة الردع أو القضاء على قوة حماس ".
وجاء في الرسالة أن "حماس تخرق التفاهمات مرارًا، وأن قوتها لم تُدمَّر بل تتزايد مع مرور الوقت"، في حين تتحدث المؤسسة الأمنية – بحسب وصفهم – عن إزالة التهديد وعودة سكان الغلاف، وهي رواية اعتبرها مقدّمو العريضة غير دقيقة. وأضافوا أن الحرب أثبتت أن الحسم العسكري وحده غير كاف، وأن استمرار العمليات "لا يضمن النصر"، مؤكدين أن "عامين من القتال وسقوط مئات الجنود يثبتان أن النصر لا يتحقق بالسلاح فقط".
وانتقد الوزراء وأعضاء الكنيست ما قالوا إنه "محاولات دولية لفرض ترتيبات على قطاع غزة" ضمن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف الحرب، معتبرين أن غزة "جزء من ميراث الآباء، النقب الغربي". وشددوا في رسالتهم على أن الطريق الوحيد لتحقيق النصر – وفق رؤيتهم – يتمثّل في السيطرة الكاملة على الأرض وضمّها إلى إسرائيل، قائلين: "النصر يتحقق فقط عندما تُؤخذ الأرض".
اقرأ أيضا/ حمـاس ترفض وتستهجن التقرير الصادر عن منظمة العفو الدولية
وأضافوا أن "خطوة من هذا النوع، تقوم على أخذ الأرض وتحويلها إلى منطقة يهودية مزدهرة، ستُحدث ردعًا طويل المدى ضد جميع أعدائنا، وسترسّخ في الواقع وفي وعي العدو والعالم بأسره أن إسرائيل انتصرت في الحرب، والأهم من ذلك أنها ستُثبّت الانتماء الأبدي لأرض إسرائيل للشعب اليهودي".
وتابعوا: "لقد حان الوقت لنقول بوضوح: غزة جزء من أرض إسرائيل، وهي ملك حصري للشعب اليهودي، ويجب ضمّها فورًا إلى دولة إسرائيل"، مشددين على أن "الوضع القائم اليوم لا يستوفي تعريف النصر في الحرب".
وأوضح موقعو الرسالة أن حركة "نحالاه" الاستيطانية تعمل على تنظيم فعالية واسعة خلال "حانوكا"، تتمحور حول رفع العلم الإسرائيلي بشكل جماهيري فوق أنقاض "نتسانيت"، مطالبين الحكومة بالمصادقة على الحدث "دون تأخير".
وجاء في ختام الرسالة: "نطلب الموافقة على إقامة الفعالية في موقع نتسانيت هذا العام، باعتبارها خطوة رمزية وسيادية تعكس انتصار الشعب الإسرائيلي وتُثبّت الانتماء الأبدي لأرض إسرائيل".
ووقّع على الرسالة عدد من أبرز وزراء الحكومة الإسرائيلية، بينهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير الاقتصاد نير بركات، ووزير الرياضة ميكي زوهار، إلى جانب وزراء آخرين مثل زئيف إلكين، إيلي كوهين، ميري ريغيف، عيديت سيلمان، بالإضافة إلى رئيس الائتلاف.
وشارك أيضًا نحو 33 عضو كنيست من أحزاب اليمين واليمين المتطرف، من بينهم تالي غوتليب، دافيد بيتان، تسفيكا فوغل، ليمور سون هار ميلخ، يتسحاق غولدكنوف، غاليت ديستل، أرئيل كالينر، وأوشر شكّليم.
المصدر : عرب 48 اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من الأخبار الإسرائيلية مكان: ضغط مصري على إسرائيل لفتح معبر رفح في كلا الاتجاهين العاصفة "بيرون" تضرب إسرائيل بقوة وتحذيرات من فيضانات خطرة كشف تفاصيل عملية سرّية إسرائيلية بغزة قبل يوم من هجوم 7 أكتوبر الأكثر قراءة زيارة أم البنين كاملة PDF حماس: استشهاد 3 أسرى بسجون الاحتلال يؤكد سياسة القتل المتعمدة لجنة الانتخابات تعلن المدد القانونية للانتخابات المحلية 2026 شهيدة وإصابات برصاص الاحتلال شرق غزة عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025