للغربـيّـين شـغفٌ كبير بالفلكلور يَـلْحظه جميع مَن يلتـقيهم في الأماكن التي تحوي معروضات من الثّـقـافـة الشّـعبـيّـة؛ سواء في الأسواق: منسوجات، فخّاريّـات، معدنيّـات، خشـبـيّـات، تحف قديـمـة...إلخ، أو في المهرجـانات التي تُـقـدَّم فيها عروضٌ من الفـنون الشّـعبـيّـة: الغنائيّـة والرّاقصة، والتي عادةً ما يـتـقاطر عليها السّـياح القادمون إلى «ديار الفرجـة» من كلّ حدبٍ وصوب.
يستطيـع المدافعـون عـن الثّـقـافـة الشّـعبـيّـة وعـن الفلكـلور أن يـروا في ذلك الطّـلـب المتـزايـد عليهما مـن قِـبَـل الأجانـب دليـلَ اعـتـرافٍ من الأخيـريـن بنـفـيـسِ قيـمـة المعـروضـات الثّـقافـيّـة الشّـعبـيّـة: السّـلـعيّـة والغـنائـيّـة والرّاقصة وسواهـا. وقـد يكـون ذلك صحيـحا لـدى بعـضٍ - ربّـمـا كـان كـبيـرا - من السّـائحـيـن الذيـن يغريـهـم سِحْـر الشّـرق، أو يمـيـلون إلى القـديـم الذي لم تَـعْـبـث بـه الصّـناعـة والتّـكـنولـوجـيا، أو من الذيـن قـد يخاطِـب المعـروضُ الشّـعبـيّ ذائـقَـتهـم الجـمـاليّـة ويسـتـثيـرُهـا. غـيـر أنّ مـا لا يَـقْـوى هـؤلاء المدافـعـون على تجاهلـه هـو أنّ الطّـلـبَ المشـارَ إليه مـقـتـرن، دائـمـاً، بتـلك الثّـقـافـة الشّـعبـيّـة حيـن تـأخـذ شـكـل فـولكـلور أو مـادّة للـفـرجـة؛ أي من حيث هي مادّة ذات طبيعـة مـتحـفـيّـة. بعـبارة أخـرى؛ قـلّـما ينـتبـه الذّوق الثّـقـافـيّ الأجـنـبيّ إلى المنـتـوج الشّـعبـيّ من حيـث قـيمـتُـه الثّـقـافـيّـة، فيما يشـدُّه أكـثـر إليـه ما يـقـدّمـه من مـتـعـة.
هذا ما يـفـسّـر لماذا لا يتجـلّـى ذلك الطّـلـب الأجـنـبـيّ السّـياحـيّ على الفلكـلور إلاّ في شـكـل طـلـبٍ على معـروضٍ بـكْـرٍ، خـامٍ لم تـمـسّـه يـدُ التّـشـذيـب والتّـحسيـن والتّـهيـئـة العـلـمـيّـة. يُـقْـبِـل الغـربـيّ على المادّة الشّـعبـيّـة في فـلكـلوريّـتها أو في فطـريّـتها الشّـعبـيّـة لأنّ هـذه، عنـده، مبـعـثُ الجاذبـيّـة والإغـراء؛ بل هـو هكـذا يريد الشّـرقـيَّ عـمومـاً؛ أن يـبـقـى على فطـريّـتـه وسجـيّـتـه مـمـثِّـلاً أمـيـنـاً لـذلك العالـم الغـريب الذي ينـتـمـي إلـيـه! يُـدْرِك الرّأسمـال المحـلـيّ حاجـةَ الأجـانـب إلى إرضـاء أذواقٍ غَـرِيَّـةٍ بالمـوروث الشّـعبـيّ في فطـريّـتـه وسـذاجـتـه الأولى، فيُـنـشئ له عـالمـاً سـياحيّـاً مـزدحِـمـاً بـمـوارِد ذلك المـوروث وبـرامجـه قَـصْـد إشبـاع حـاجـات الطّـلـب الأجـنـبيّ ذاك. لا يتـصـرّف الرّأسـمـال «الوطـنـيّ»، ولا السّـيـاساتُ الثّـقـافـيّـة والسّـياحيّـة في بـلدان المَـقْـصِـد (السّـياحـيّ)، ومنها بـلـدانـنـا العـربـيّـة، بمـنـطـق الحريص على تعـظيـم رأسمـال الثّـقـافـة الشّـعبـيّـة من طـريـق تـنـمـيـتها وتجـويـد وسائـل عـرضـها وتـعـبيـرها عـن نـفسـها، بل يتـعـامـل معـها بوصـفـهـا مـادّةً جـاهـزة قـابلـةً - بـعـقـلٍ ريْـعـيّ - لاستـدرار الرّبـح مـن غيـر عـنـاءِ إنـتـاجٍ وإبـداع! هـكـذا يُـفْـقِـرُ مـوروثَـه الثّـقـافـيّ الشّـعبـيّ ويـمنـع عنـه سُـبُـل الحيـاة والتّـجـدُّد والبـقـاء، مـن وجْـهٍ، ويَـضَـعُـه الضَّـعَـةَ الحـقـيرةَ حيـن يحـوّلـه إلى مجـرّد معـروضات تجاريّـة يُـراد منـها الرّبـح الماديّ السّـريـع من وجـهٍ ثـان.
وراء الطّـلـب الأجـنـبيّ على الفولكـلور أسبـابٌ ثـقـافيّـة عـميـقـة وأحيـانـاً، غـيـرُ مشعـورٍ بـها تـفـسِّـر اشتـدادَه وتـزايُـدَه. أَظْـهـرُ تلك الأسباب اثـنـان منها رئيـسـان:
يَكـمَـن أوّلهـمـا في أنّ مبْـعـثَ انـجـذاب الأجـنـبـيّ/الآخَـر إلى فـلكـلور شـعـبٍ - مـتـأخِّـرٍ في سُـلّـم التّـقـدُّم بقيـاسـاتـه - هـو أنّـه يـرى ماضيـه، أو بعـضَ ماضيـه، في ذلك الفلكلور وفي ذلك العـالـم المحيـط الذي أنـجـب ذلك الفلكلور. في مثـل هـذه الحـال، لا يـتـنـزّل الفلكلور- عـنـد المتّـصِـل بـه اتّـصـالَ فُـرجـةٍ من الأجانـب - منـزلـةَ كـتـابِ التّـاريـخ المفـتـوح يـقـرأ فيه صـفحـات مـاضٍ دَرَسَ رسْـمُـه، ولا منـزلـةَ مـتـحـفٍ يحْـفـظ الشّـواهـد البـاقيـات من الزّمـن الذي تـصـرّم؛ ذلك أنّ الكـتـاب والمـتـحـف لا يَـنْـبِـضـان بالحيـاة بـمـا يكـفـي طالـبَ المـاضـي أن يـعـثُـر عليـه حـيّـاً. إنّـه، بالأحـرى، يـتـنـزّل مـنـزلـة التّاريـخ مستـعادا في أجسـادٍ وأصـواتٍ وإيماءات وأشكـالٍ وألوان تُـضْـفَى عليها حيـاةٌ يجـسّـدها آخـرون، غير الأجـانـب، يعيـشـون ذلك الماضـي. في هـذه الاستعـادة، التي يتـعـرّف فيها الآخـر على مـاضيـه أو، قُـل، على ما يحـسَب أنّـه يشبـه ماضيـه، يقيـس المسافـة بين ما كانَـه مجـتمـعُـه وما كـانـتْـهُ ثـقـافـتُـه، في ما مضى، وما صارت إليه بَـعْـداً. هكذا يكـون آخَـرُ الأجنـبـيّ وفـلكـلورُه تـرمـومـتـراً لقـياس درجـة «الحـرارة الحضـاريّـة»!
أمّـا ثـانيـهـما، ويـتـولّـد من الأوّل، فـيـكـمـن في أنّ الآخَـر يتعـرّف، في صـلاتـه بآخَـره (= الشّـرقـيّ في حـالـتـنا) وبفـلكـلوره، على اخـتـلافـه وعلى تـمـيُّـزِه. كأنّـما هـو يشـدُّ الرّحـال إلى عالـمٍ آخـر ليس يعـنـي عـنـده سوى تلك المرآة التي يرى فيها ذاتـه: في تمايُـزها وفرادتها، بعيـدا من التّـشابـُـه والتّـماثـل اللّـذيـن يفـرضهـما عليه العيش داخـل أنـاهُ الجمـعـيّـة. والمـفارقـة أنّ ذاتَـه تلك لا تـتبـيّـن له إلاّ متى وُضِـعت في مقابـلِ عـالـمٍ يبـدو لها بما هـو عالـمُ غَـرابـةٍ كامـل: عـالَـمُ المُـدهِـش الذي يـغـري إدهـاشُـه بالسّـيْـر في طريـق وضْـع عـلامات المـمايَـزة والاخـتلاف.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ـة الش ـعبـی ـة ة الش ـعبـی ـة الث ـقـافـی التی ت
إقرأ أيضاً:
أكاذيب الكيان الصهيوني التي لا تنتهي
لم يعرف التاريخ الإنساني، وأعتقد لن يعرف حتى قيام الساعة، دولة تكذب وتتحرى الكذب في كل أقوالها وأفعالها مثل دولة الكيان الصهيوني الغاصب التي تكذب كما تتنفس، وتعيش على الكذب الذي قامت على أساسه وتحيا عليه.
الدولة التي قامت على كذبة في العام 1948، لا يمكن أن تستمر وتبقى سوى بمزيد من الأكاذيب التي تنتجها آلة الدعاية الصهيونية المدعومة بوسائل الإعلام العالمية، بشكل يومي لكي تستدر عطف العالم الغربي وتبرر احتلالها البغيض للأراضي الفلسطينية وعدوانها الدائم والهمجي على أصحاب الأرض، وعلى كل من يحاول الوقوف في وجهها وكل من يكشف أكاذيبها ويقاوم غطرستها، وجرائمها التي لا تتوقف ضد الإنسانية.
بدأت الأكاذيب الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر مع نشأة الحركة الصهيونية، بالترويج لأكذوبة أن «فلسطين هي أرض الميعاد التي وعد الله اليهود بالعودة لها بعد قرون من الشتات في الأرض». وكانت هذه الأكذوبة، التي تحولت إلى أسطورة لا دليل على صحتها تاريخيا، المبرر الأول الذي دفع القوى الاستعمارية القديمة، بريطانيا تحديدا، الى إصدار الوعد المشؤوم «وعد بلفور» قبل عام من نهاية الحرب العالمية الأولى بانشاء وطن لليهود في فلسطين. وكان هذا الوعد، كما يقول المؤرخون، الذي صدر عن وزير الخارجية البريطاني أرثر بلفور حجر الأساس لأكبر عملية سرقة في التاريخ، سرقة وطن كامل من أصحابه، ومنحه لمجموعة من العصابات اليهودية دون وجه حق. الوعد الذي لم يعره العالم انتباها وقت صدوره تحول إلى حق مطلق للصهاينة في السنوات التالية، ومن أكذوبة «أرض الميعاد» ووعد الوطن القومي أنتجت الصهيونية العالمية سلسلة لا تنتهي من الأكاذيب التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، والمسؤولة، في تقديري، عما يعيشه الفلسطينيون الآن من جحيم تحت الاحتلال الصهيوني.
الكذبة الأولى الخاصة بأرض الميعاد، والتي صدقها العالم نتيجة تكرارها وبفعل التأثير التراكمي طويل المدى لوسائل الاعلام التي سيطر عليها اليهود طوال القرن العشرين، لم تكن سوى أكذوبة سياسية ذات غطاء ديني غير صحيح. إذ تم تفسير النص التوراتي بطريقة ملتوية لتخدم المشروع الصهيوني. ولم تُثبت الحفريات التي يقوم بها الصهاينة أسفل المسجد الأقصى وجود هيكل سليمان أو وجود مملكة داود وسليمان في فلسطين كما تزعم الرواية التوراتية المحرفة، بل أن بعض المؤرخين الإسرائيليين شككوا في وجود اليهود في فلسطين كأمة قبل إنشاء إسرائيل.
دعونا في هذا المقال نتتبع أبرز الأكاذيب الصهيونية التي روجت لها إسرائيل لاستمرار سياساتها العنصرية والتي لم تكن مجرد دعاية عابرة، بل جزءًا من استراتيجية تم وضعها وتهدف في النهاية الى تحقيق الحلم الصهيوني بدولة تمتد «من النيل إلى الفرات»، والترويج للسردية الصهيونية في الاعلام العالمي وحصار السردية الفلسطينية والعربية.
الأكذوبة الثانية التي تمثل امتدادا للأكذوبة الأولى والمرتبطة بها ارتباطا وثيقا، هي أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب، وبالتالي يمكن الاستيلاء عليها واحتلالها وتهجير أهلها منها، وجعلها وطنا للشعب اليهودي الذي كان بلا أرض»، وبذلك يتم نفي الوجود العربي الفلسطيني فيها. وتم الترويج لهذه الأكذوبة في الغرب المسيحي المحافظ من خلال خطاب إعلامي يربط إقامة إسرائيل بقرب ظهور المسيح (عليه السلام). وقد نجح الإعلام الصهيوني والمتصهين في تصوير اليهود باعتبارهم عائدين إلى أرضهم، فيما تمت شيطنة الفلسطينيين والتعامل معهم باعتبارهم إرهابيين يعارضون الوعد الإلهي. وكانت هذه الأكذوبة من أخطر الأكاذيب الصهيونية لتبرير احتلال فلسطين بدعوى أنها خالية من السكان، في حين كان يعيش فيها قبل إعلان قيام إسرائيل نحو مليون وثلاثمائة ألف عربي فلسطيني من المسلمين والمسيحيين.
وتزعم الأكذوبة الصهيونية الثالثة أن الفلسطينيين غادروا أرضهم طواعية بعد هزيمة الجيوش العربية وإعلان قيام دولة إسرائيل في العام 1948. وتم استخدام هذه المزاعم للتغطية على مجازر التطهير العرقي الذي قامت به عصابات الصهاينة، وأبرزها مجازر دير ياسين، واللد، والرملة، لطرد الفلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم.
لقد ثبت للعالم كله كذب إسرائيل في كل ما روجت له من مزاعم تخالف الحقيقة في الإعلام العالمي المتواطئ معها والمساند لها على الدوام. ومن هذه المزاعم القول بإنها «واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» الذي لا يعرف الديمقراطية. ولم ينتبه العالم إلى أن الديمقراطية الإسرائيلية ترى بعين واحدة، ومخصصة لليهود فقط، ولا تشمل سكانها من الفلسطينيين الذين يعانون من تمييز وفصل عنصري في كل مجالات الحياة. وتستخدم هذه الديمقراطية الأسلحة المحرمة والإبادة الجماعية وسياسات الاغتيال والاعتقال والتعذيب كوسيلة للتعامل مع الفلسطينيين المحرومين من حقوقهم السياسية.
وشبيه بهذا الزعم القول إن «الجيش الإسرائيلي هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم». ومع الأسف ما زالت هذه المقولة تتردد على ألسنة العسكريين والسياسيين الصهاينة وفي بعض وسائل الاعلام الغربية، رغم الجرائم الموثقة من جانب منظمات حقوقية عالمية، والتي ارتكبها ويرتكبها هذا الجيش «عديم الأخلاق» في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا وإيران، واستهدافه المدنيين من النساء والأطفال، والصحفيين والأطباء وغيرهم، واستخدامه لسلاح التجويع في غزة ومنع الإمدادات الإنسانية من الدخول الى القطاع وإتلافها عمدا، وقتل الجوعى.
ولا تتوقف آلة الكذب الصهيونية عند هذا الحد وتضيف لها الجديد من الأكاذيب كل يوم، مثل الأكذوبة المضحكة التي أصبحت مثار سخرية العالم، وهي إن «إسرائيل تواجه تهديدا وجوديا من جيرانها العرب» المحيطين بها، في الوقت الذي يعلم فيه القاصي والداني أن الكيان الغاصب هو الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي تمتلك ترسانة نووية قادرة على محو جميع الدول العربية، وتتمتع بتفوق عسكري يضمنه ويحافظ عليه ويعززه الشريك الأمريكي ودول غرب أوروبا، وتمنع بالقوة أي دولة في المنطقة من امتلاك الطاقة النووية حتى وإن كان للأغراض السلمية، كما فعلت مع العراق وايران. وينسي من يردد هذه الأكذوبة إن إسرائيل فرضت من خلال الولايات المتحدة التطبيع معها على العديد من الدول العربية، ليس فقط دول الجوار التي كان يمكن ان تهددها، وإنما على دول أخرى بعيدة جغرافيا عنها، وفي طريقها لفرضه على المزيد من الدول.
ويكفي أن نعلم أن غالبية الحروب التي دخلتها إسرائيل كانت حروبا استباقية، وكانت فيها المبادرة بالعدوان، وآخرها الحرب على إيران. والحقيقة أن حربها المستمرة منذ نحو عامين على غزة والتي تزعم أنها، أي الحرب، «دفاع عن النفس» ما هي إلا أكذوبة أخرى تأتي في إطار سعيها لتفريغ القطاع من سكانه وتهجيرهم خارجه بعد تدميره وحصاره المستمر منذ العام 2007 وحتى اليوم، وهو ما ينفي الأكذوبة الأكثر وقاحة التي ترددها الآن بأن «حركة حماس هي المسؤولة عن معاناة أهل غزة، وهي من تجوعهم»، مع أن العالم كله يشاهد كيف حولت القطاع إلى أطلال وإلى أكبر سجن مفتوح في العالم بشهادة الأمم المتحدة.