لجريدة عمان:
2025-12-13@14:56:26 GMT

«جلاديتور» والكائن الخرافي الذي لا يشبع!

تاريخ النشر: 8th, December 2024 GMT

لم أستطع للحظة واحدة أن أمنع تفكيري وأنا أشاهد الجزء الثاني من فيلم «Gladiator» عمّا يحدث في وطننا العربي، فبينما تعجُ مُدرجات روما بالبشر المُولعين بالفُرجة، يغدو المتصارعون في الحلبة أشبه بثيران أو ديكة مهمتهم الأسمى تقديم العرض الأكثر إمتاعا ودموية.. هنالك حيثُ يُتركُ الضعفاء والمسحوقون في ساحة اقتتال غير مُتكافئة.

ساحة موت لم يكن لهم يد في اختيارها!

تبحثُ الجماهير الغفيرة عن مُنتصر يصفقون له، فهم لا يريدون إلا أن يُشاهدوا عرضا مُذهلا، قبل أن تُقطع الأجساد وتُشرذم.. فكلما ارتفعت الوحشية تصاعد صياحهم، كمن يُعوض هزائمه وهشاشته الفردية.

في مقعد السينما لم أكن أنا أيضا أكثر من مُتفرج، يتلاعبُ المخرج ريدلي سكوت بمشاعري، لكني لم أستطع أن أوقف هيجان عقلي.. بدوتُ كمن يشد على نفسه أربطة وهمية في قطار الموت. بدت لي تلك الفكرة التي ينهضُ عليها الفيلم قاتمة، أعني استعمال «الغيظ» لتوليد الرغبة في القتال وبالتالي إمتاع الجماهير -وكأنّ هذا العالم لا ينمو ولا يتحول إلا على موجات من مُكثفة من العنف- إلا أنّ المفاجأة لم تكن كامنة فيما شعرتُ به من حنق، وإنّما لأنّ الحنق لم يكن مفهوما لابنيّ المجاورين لي، وكأنّ شعوري ينمُّ عن لا واقعية.. فهما يُسلمان تسليما قطعيا بأنّ كل الحضارات قائمة على العنف منذ الأزلية! وكأنّهما يستمدان فكرتهما من مقولة كارل ماركس: «العُنف مولد التاريخ».

لطالما قرأنا وجهات نظر الفلاسفة التي تشير إلى أننا في حالة صيرورة وتغيّر، لكن العنف هو العنصر الثابت والأبدي، مما يعني أننا لا نستطيع أن نقيس انحسار العنف بقوة العقل والتعليم والتنوير، وإلا فكيف تستشرس تلك الرغبة المحمومة، بل تطور أدوات إفناء الآخر وتعذيبه كما يتطور سوق التقنيات الحديثة!

تحت فوضى السحق العبثي، كان ثمّة ما هو عذب في الفيلم بجزأيه، وأظن لو سُئل أحدنا عمّا يتذكره من الجزء الأول الذي أنتج قبل أكثر من عقدين لأجاب: «ماكسيموس» ممررا يداه فوق محصول القمح، في رحلته إلى الآخرة، وكأنّ كل ما يتمناه الأبطال هو العودة إلى دفء البيت، وتلك الموسيقى التي تأخذنا إلى سماء شاهقة، فهو لم يحلم بمعركة يلتقي فيها بالخصوم بل حلم بالبيت.

وأكثر ما يشع في تجربة الجزء الثاني -حيث بقينا مشدودين لتلك اللوحة التي ترسم روما لساعتين ونصف الساعة- هو استعمال مقطع من ملحمة فيرجيل الشهيرة «الإنيادة»: «أبواب الجحيم مفتوحة ليلا ونهارا، سلاسة النزول، والطريق سهل، ولكن العودة ومشاهدة السماء المُبهجة، تكمن في هذه المهمة والعمل الجبار». إنّها قوة الشعر التي تخلقُ خلودا يربو على حياة المصارعين الذاهبين إلى الفناء والنسيان.

وبقدر إعجابي بتوظيف قصيدة فيرجيل التي كُتبت قبل مئات السنين، بجعلها أيقونة العمل التي تُلملم أطراف القصّة، فقد صدمني ابناي، فهما يعرفان فيريجل أيضا، لكن مصدر تلك المعرفة لم تكن الكُتب - التي أتخاصم معهما طوال الوقت ليقرآها- وإنّما عالم الألعاب.. إنّها المعرفة التي «تسيل» كما يرى زيجمونت باومان، فنحن في مرحلة تفكك المفاهيم بمعناها الصلب، ولذا فكل شيء يُسلع، الأمر لا يستثني العواطف والعلاقات الإنسانية والشعر!!

ولا أدري حقا إن كانت هذه «السيولة» الجذابة بهذا المعنى -والمتجاوزة لنا في آن- تصبُّ في خدمة الشُبان الجدد أم لا، إذ بقدر ما تطرح المعرفة الآن خيارات لامتناهية من أشكالها، فهي تسلبُ منا «العمق» كما أتصور، وأتمنى أن أكون على خطأ عندما أقول إنّه جيل يلمسُ سطح الأشياء ببراعة لكنه لا ينغمس فيها.. جيل يُسلم بأنّ العنف بدهي فلا يرغب بهز هذه اليقينيات أو دحضها وإنّما القفز عليها، لأنّ التقنية علّمته خاصية «التخطي»! ولذا فالعاطفة التي تُنمى على مهل، خدرة تحت أثقال النزعة الاستهلاكية المُطردة.

من المؤكد أنّ العنف مُحايث للتاريخ، وإلا لما انتقل من إنسان الكهف البدائي كعدوى لعينة ليُصاحب مصارعي الحلبة، وصولا للإنسان المتحضر في أبهى عصوره، ولكن ألا ينبغي أن تطرح الأجيال الجديدة الأسئلة وإن بدت بدهية: لماذا ينمو العنف كالعفن، ليقودنا للطرق الأكثر تطرفا ورعونة.. لماذا يبدو ككائن خرافي لا يُشبع نهمه شيء؟!

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

حسين فخري باشا.. القائد الذي دمج التعليم والبنية تحتية بروح مصرية

حسين فخري باشا شخصية لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن تاريخ مصر الحديث، فهو مثال حي على الإنسان المصري الذي جمع بين العلم، الخبرة، والوطنية الحقيقية. 

ولد في القاهرة عام 1843 في عائلة شركسية مرموقة، والده الفريق جعفر صادق باشا كان حكمدار السودان، ما منح حسين منذ صغره فرصة التعلم في بيئة تتسم بالمسؤولية والانضباط. 

منذ أيامه الأولى، كانت حياة حسين فخري باشا شهادة على الطموح والالتزام، إذ بدأ مسيرته الإدارية كمساعد للمحافظة عام 1863، قبل أن ينتقل إلى نظارة الخارجية، ثم ترسل إليه الحكومة المصرية لتأدية مهمة في باريس، حيث درس العلوم القانونية وعاد إلى مصر عام 1874 محملا بالعلم والخبرة، مستعدا لخدمة وطنه في عهد الخديوي إسماعيل.

لم يكن حسين فخري باشا مجرد سياسي عادي، بل كان عقلا منظما وفكرا مصلحيا، فقد شغل مناصب عدة، من ناظر للحقانية إلى وزير للمعارف والأشغال العمومية، وصولا إلى رئاسة مجلس الوزراء لفترة قصيرة، لكنه رغم قصر مدتها، ترك بصمة قوية في المشهد السياسي. 

في وزارة رياض باشا الأولى عام 1879، ترأس لجنة لوضع قوانين جديدة للحقانية وفق المعايير الأوروبية، محاولة منه لتحديث النظام القضائي وتنظيم المحاكم الأهلية والشرعية، رغم أن الثورة العرابية أوقفت هذا المشروع لفترة. 

ولم يكتف بذلك، فقد استمر في مسيرته الإدارية والسياسية، مطورا البنية القانونية لمصر، وأثبت في كل موقف قوته الفكرية وقدرته على الدفاع عن مصالح وطنه ضد الضغوط الخارجية، كما حدث عندما صدم المشروع البريطاني لإصلاح القضاء المعروف بمشروع سكوت.

إنجازات حسين فخري باشا في وزارة المعارف والأشغال العمومية كانت حجر الزاوية لتطوير مصر في شتى المجالات، فهو أول من أدخل تعليم الدين والسلوك في المدارس الابتدائية عام 1897، واهتم بالكتاتيب الأهلية وعمل على تشجيع تعليم البنات، مما يعكس رؤيته المستقبلية لمجتمع واع ومثقف. 

كما أصر على بناء مدارس قوية ومؤسسات تعليمية متينة، أنشأ قسما للمعلمات، وأولى اهتماما خاصا بتعليم المعلمين الأوليين، كل هذا ليضمن للأجيال القادمة تعليما متينا يواكب العصر. 

وفي جانب الأشغال العمومية، كان له دور بارز في مشاريع الري والبنية التحتية، من بناء القناطر والسدود، إلى التخزين السنوي للنيل وضبط مياهه، ما ساهم في تطوير الزراعة وتحسين حياة المصريين في الوجه القبلي، وأدخل مصر عصر التخطيط الحضري الحديث.

حياة حسين فخري باشا لم تكن مجرد منصب وسلطة، بل كانت رسالة وطنية صادقة، فقد جمع بين العلم والخبرة والإدارة، وكان مثالا للمسؤولية والأمانة الوطنية، يظهر حب مصر في كل قراراته وأفعاله. 

ليس أدل على ذلك من اهتمامه بالحفاظ على التراث المصري والانخراط في الجمعيات العلمية والجغرافية ولجنة العاديات، ليترك إرثا حضاريا للمستقبل. 

كذلك حياته العائلية تربط بين السياسة والدبلوماسية، إذ كان والد محمود فخري باشا، سفير مصر في فرنسا، وزوج الأميرة فوقية كريمة الملك فؤاد، ما يعكس أيضا ارتباط عائلته بخدمة الوطن على أعلى المستويات.

حين نتأمل مسيرة حسين فخري باشا، ندرك أن مصر لم تبنى بالصدفة، بل بجهود رجال مثل هذا الرجل الذي جمع بين الوطنية، الكفاءة، والرؤية البعيدة. 

إنه نموذج للقيادي الذي يضع مصلحة بلده قبل كل اعتبار، الذي يفكر في أجيال المستقبل، ويترك بصمته في كل جانب من جوانب الحياة العامة. 

حسين فخري باشا ليس مجرد اسم في كتب التاريخ، بل هو مثال حي على روح مصر الحقيقية، على قدرة المصريين على مواجهة التحديات والعمل بجد وإخلاص لبناء وطن قوي ومزدهر، وهو درس لكل من يسعى لفهم معنى الوطنية الحقيقية وحب مصر العميق.

مقالات مشابهة

  • توقيف سوري بالجرم المشهود في كسروان.. ما الذي كان يقوم به؟
  • ما أهمية إقليم دونباس الأوكراني الذي تسيطر روسيا على معظمه؟
  • "الناجي الوحيد".. لقب "بتول" الذي جردها الفقد معانيه
  • أحمد زيور باشا.. الحاكم الذي جمع القوة والعقل والإنسانية
  • حسين فخري باشا.. القائد الذي دمج التعليم والبنية تحتية بروح مصرية
  • جلال كشك.. الذي مات في مناظرة على الهواء مباشرة وهو ينافح عن رسول الله
  • ما الذي يحسم مصير خطة نزع سلاح العمال الكردستاني؟
  • الفرق بين الورم والسرطان.. ما الذي يجب معرفته؟
  • من الذي فتح باب حمام الطائرة الرئاسية رغمًا عن ترامب «فيديو»
  • العثور على جثمان الطفل الذي جرفته السيول في كلار