عربي21:
2025-05-30@15:00:58 GMT

سوريا وسقوط الأيدولوجيا العمياء (1-2)

تاريخ النشر: 11th, December 2024 GMT

بعد مناقشات بيني وبين بعض الأصدقاء الذين كان كثير منهم متعاطفا مع بشار والنظام السوري، بناء على فكرة (محور المقاومة)، لا سيما أولئك غير المطلعين بما يكفي على تاريخ الصراع مع النظام الحاكم، في ظل الأخبار الكاذبة والمنافقة التي تبثها بعض وسائل الإعلام لتشوه المعارضة، وتسيء لمصداقها، متهمة إياها بالتعاون مع الكيان المحتل والولايات المتحدة، وأنها متآمرة على محور المقاومة، فإن هذا ما دفعني لكتابة هذا المقال لأرفع الغطاء عن بعض ما خفي عن كثيرين.



ابتداء يجب أن نعلم بأن حافظ الأسد، الرئيس السابق وهو والد بشار الذي حكم سوريا بعد أن قاد انقلابا عسكريا عام 1971، تحت مسمّى "الحركة التصحيحية"، واستمر في منصبه إلى أن توفي سنة 2000، ليحكم بذلك 29 عاما، كان قد هيأ ابنه "باسل" ليحل محله رئيسا ينتخبه البرلمان المدجن آنذاك، إلا أن وريث العرش "باسل" توفي في حادث سيارة، فحل مكانه بشار الذي لم يكن مهيئا لا نفسيا ولا سياسيا ولا ثقافيا لتولي منصب كبير كهذا، واضطر البرلمان المتواطئ -خوفا من هيمنة الجيش الذي كانت قياداته من الطائفة العلوية- إلى أن يعدل الدستور، ليكون ممكنا تسلّم بشار مقاليد الحكم، حيث كان عمره آنذاك دون السن المنصوص عليه في الدستور.

وعودا على حافظ الأسد الذي كان علويا، فقام سنة 1973 بتغيير الدستور الذي كان ينص على أن يكون الرئيس مسلما، فاستبدل هذه الفقرة؛ فهاج الشعب السوري ضده، ونظمت مسيرات عنيفة وخصوصا في حماة وحمص وحلب، وكانت تظاهرات حماة أعنفها على الإطلاق؛ واستمرت المعارضة في مقاومتها لإجراءاته بشكل متقطع حتى عام 1982، بعد أن تحولت المعارضة إلى مواجهة عسكرية بين عامي 1976 و 1982، صاحبها الاعتقال والتنكيل، حيث قام حافظ الأسد بأكبر عملية انتقام عبر تاريخ الحكومات العربية الحديث؛ حين قصف حماة بالمدفعية والطيران، بشكل عشوائي تسبب في مقتل نحو 40 ألف مواطن سوري مدني. وملأ السجون بمن حمل السلاح ومن لم يحمله، وأعدم عددا كبيرا منهم داخل السجون، ولم تزل مجزرة سجن تدمر التي نفذتها مليشيات رفعت الأسد (شقيق حافظ الأسد) "سرايا الدفاع"، ماثلة بكل إجرامها وساديتها، حين قام رفعت الأسد وعصابته بقتل نحو 1200 معتقل من خيرة شباب سوريا، من علماء ومهندسين وأطباء ومعلمين وأساتذة جامعيين، بدم بارد، داخل زنازينهم، وقد جاءت المذبحة الإجرامية، في اليوم التالي لمحاولة أفراد من الحرس الرئاسي اغتيال حافظ الأسد.

وجدير بالذكر أن كثيرا ممن وضعهم حافظ الأسد في الزنازين، ظلوا في المعتقل حتى تمت إزاحة بشار قبل أيام، فخرجوا مرضى ومقهورين، وقد أكل المعتقل أعمارهم، بعد أن تجاوز وجودهم في الاعتقال أكثر من 40 سنة، ناهيك عن عشرات الآلاف من الذين تركوا سوريا وعاشوا في الشتات بعيدا عن أوطانهم، ومات منهم من مات خارج وطنه، وبقي من بقي ليعود اليوم إلى سوريا المحررة..!

بعد أن تسلم طبيب العيون "بشار الأسد" مقاليد الحكم وهو لم يزل شابا في مقتبل العمر، من خلال مهزلة دستورية، تؤشر على انبطاح مجلس الشعب، ونكوصه عن جادة الديمقراطية التي كان حافظ الأسد يدعيها زورا وبهتانا، بدأ حكمه متحمسا، ارتاح له الشعب في البداية، وظنوا فيه بعض الخير، مع التوجس الذي ظل مخيما عليهم. لكن الرئيس الجديد لم يوقف القمع الأمني وسيطرة حزب البعث، الذي كان يهيمن على كل شيء في البلد؛ فكانت مقار حزب البعث المنتشرة في الأحياء تلعب دور المخابرات، فتراقب الناس، وتتدخل في شؤونهم، وتعاقب وتسجن وتغتال، وتثير الرعب في نفوسهم، ناهيك عن أجهزة الأمن والمخابرات. فقد كان أصغر شرطي يهين أي مواطن سوري، ويا ويل من يعترض أو يحاول الدفاع عن نفسه، ولو بالكلام.. وظلت الرشاوى هي الحل الوحيد لخروج أي سجين في كل مراكز الشرطة وفروع الأمن، في كامل مساحة سورية، حتى لو كان بريئا من التهمة الموجهة له..

في شهر آذار/ مارس من عام 1911، في أثناء موجة الربيع العربي، خرج السوريون إلى الشوارع لإسقاط النظام، وكانت ثورتهم سلمية، تطالب بالحرية والكرامة، ووضع حد للقمع والفساد والدكتاتورية، وإطلاق سراح المعتقلين؛ فواجهها النظام بالرصاص الحي والاعتقال والقتل الميداني، وانتشر ما يسمى بـ"الشبيحة" المسلحين، ولم يتوانوا عن قنص المتظاهرين، وقُتل في الأثناء أعداد كبيرة من المدنيين الرافضين لحكم العسكر الجائر، وبعد أشهر قليلة من المواجهات، تحوّل الحراك السلمي إلى حراك مسلح، بسبب القمع والقتل والاعتقال والتعذيب الذي شهدته معظم المدن السورية بكثير من الوحشية والإجرام.

استعان بشار الأسد بروسيا وإيران وحزب الله، الذين نكلوا بالسوريين وسووا حلب بالأرض بالبراميل المتفجرة التي كانت الطائرات الروسية تلقيها عشوائيا على بيوت الآمنين، بما يشبه، إلى حد بعيد، ما تفعله قوات الاحتلال في قطاع غزة الصامد.

وحين دخلت قوات حزب الله إلى مدينة القصير السورية المحاذية للحدود مع لبنان، كان المشهد الطائفي مرعبا، حيث نقلت كاميرات الإعلام رفعهم الأعلام والشعارات الطائفية وإضافة إلى هتافاتهم الطائفية التي حولت الصراع إلى صراع طائفي، وبلغ الأمر بأحد قادة الفصائل القادمة من العراق -وهو يوجه المقاتلين- أن يعلن بوضوح ضرورة الانتقام من المسلمين السنة، في مشهد مقزز، وكل ذلك موثق. وإمعانا في الطائفية العفنة بدأت تدخل إلى سوريا مليشيات عراقية ومليشيات من شيعة باكستان وأفغانستان، ممن أطلقوا على أنفسهم اسم "الفاطميين والزينبيين"..

ويجدر بنا أن نلاحظ بعقلانية مشهد دخول حزب الله إلى القصير المحاذية للبنان ومشهد المعارضة السنية التي حررت سوريا، وهي صاحبة الأرض، والتي لم تقتل مدنيا ولا عسكريا، ولم تفتش عن أنصار النظام السابق، ولم ترفع شعارا واحدا ضد أي طائفة، وطمأنت الجميع على أرواحهم وممتلكاتهم مع أنهم قادرون على الانتقام.. وأطلقوا سراح جنود بشار الأسرى في مشهد يشبه مشهد فتح مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!

بعد سقوط النظام في ليبيا، في شباط/ فبراير 2011 تجمع ناشطون سوريون أمام السفارة الليبية تأييدا لسقوط النظام، مطالبين بالحرية لسوريا، وكان أن كتب بعض الأطفال شعارات على جدران مدرستهم تطالب بإسقاط النظام، فتم اعتقال الأطفال، وتعرضوا للتعذيب، وحين لم يعد الأطفال إلى بيوتهم ذهب الأهالي في اليوم التالي للسؤال عن أبنائهم، فكان رد رئيس فرع الأمن السياسي بلهجة تهديدية صارمة أن عودوا إلى بيوتكم، وانسوا أبناءكم، وأنجبوا أطفالا غيرهم، مما كان له كبير الأثر في انتفاضة شعبية صارخة في درعا المحاذية للحدود الأردنية.

توالت الأحداث وتضخمت الثورة، وحمل الثوار السلاح، وكان انتصار الثوار قاب قوسين أو أدنى، خصوصا بعد انشقاق أعداد كبيرة من ضباط النظام وجنوده والتحاقهم بالثورة، لكن بشار لم يحاول مجرد التفاهم مع الجماهير الغاضبة والمسلحين الذين ضاقوا ذرعا بالإجرام المتواصل منذ عهد حافظ الأسد الأب حتى ذلك الحين، وقام باستدعاء القوات الخارجية التي حولت سوريا إلى شبه وطن ممزق بالطائفية بعد اضطرار 12 مليون سوري إلى النزوح خارج سوريا وداخلها. وعبر اتفاقات شاركت فيها تركيا وإيران وروسيا تجمّع الفارون من بطش الأسد والثوار من حملة السلاح في مدينة إدلب، ولم يحافظ بشار على الاتفاقات فظل يقصف المدينة بين الحين الآخر، ليسقط الأبرياء بين قتيل وجريح..

وأمام المعاناة التي عانها السوريون في أماكن وجودهم وفي مخيماتهم التي مزقها الثلج وقتَل أطفالها بردا وجوعا ومرضا، وجد المعارضون الفرصة سانحة لتحرير سوريا بعد أن انشغلت روسيا بأوكرانيا، وتعرض حزب الله لضربات موجعة في لبنان من العدو الصهيوني، وانشغلت إيران بصراعات متعددة مع الكيان المحتل والمجتمع الدولي.

ولا يقولن أحد بأن الثوار خانوا الوطن، وتآمروا على محور المقاومة، فقد كانت فرصة سانحة، وإذا كانت ضربات جيش الاحتلال لحزب الله ومقتل حسن نصر الله ساهمت في إضعاف حزب الله، فذلك قدر الله، ومن الغباء عدم استثمار هذه الحالة، لا سيما أن بشار الأسد لم يرحم أحدا، وشرد وقتل وعذب وافتأت على عباد الله، ظانّا أنه خالد في كرسيه، بل ظل يماطل ويتهرب من مبادرات تركيا لحلحلة الأوضاع، إلا أنه جنى على نفسه بتكبره وغبائه السياسي، ومنطقة الأهوج، وإجرامه الذي يصعب وصفه، فربما كان السوريون أقدر مني على وصف إجرامه، لأنهم عاشوه بأنفسهم..

التتمة الثلاثاء القادم..

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأسد سوريا الثورة سوريا الأسد الثورة مقالات مقالات مقالات اقتصاد سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حافظ الأسد الذی کان حزب الله بعد أن

إقرأ أيضاً:

تعرف على السلطان الأحمر الذي أسس الدولة البوليسية في سوريا

كان رجل الظل الذي أدار دفة السياسة في سوريا، بعد إعلان استقلالها عام 1946، مرورا بفترة الحكم المدني الديمقراطي، ثم عهد الانقلابات العسكرية المتتالية، إلى إعلان الوحدة مع مصر، تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة، وانتهاء بانفصالها عن مصر عام 1961.

إنه عبد الحميد السراج -الذي يلقب بـ"الرجل الصامت" وارتبط اسمه بصورة الدولة البوليسية، التي كرسها لقمع معارضيه والتنكيل بهم، بل وتصفيتهم جسديا.

سماه الكاتب غسان زكريا "السلطان الأحمر"، كما وصفه الكاتب المصري صلاح عيسى -في مقال له- بأنه "مهندس" مشروع الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا، ويد الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر الطولى التي حارب بها التمدد الشيوعي، و"مشاريع التحالف الإمبريالية"، في كل من العراق والأردن ولبنان.

المولد والنشأة

ولد السراج في مدينة حماة عام 1925، والتحق بمدرسة الدرك، ثم الكلية الحربية في حمص، وبدأ حياته المهنية في مخفر "باب الفرج" بمدينة حلب، وفي عام 1947 التحق بجيش الإنقاذ الذي حارب في فلسطين، حيث تعرف إلى حسني الزعيم، الذي قاد أول انقلاب عسكري على الرئيس شكري القوتلي في 1949، وعيّن السراجَ مرافقا عسكريا له.

شارك السراج في انقلاب أديب الشيشكلي على اللواء سامي الحناوي، وعندما أصبح الشيشكلي رئيسا في 1953 أرسل السراجَ في دورة عسكرية مكثفة إلى باريس.

إعلان

وبعد الإطاحة بالشيشكلي في 1954، تعرض السراج لمضايقات من الضباط الانقلابيين، واكتفى رئيس الحكومة آنذاك، صبري العسلي، بإبعاده إلى باريس ليكون ملحقا عسكريا.

عبد الحميد السراج رجل مخابرات لمع نجمه في سوريا بعد اغتيال عدنان المالكي (مواقع التواصل) المكتب الثاني.. بداية الصعود

لمع نجم السراج محليا في 1955، وتحديدا بعد اغتيال عدنان المالكي، رئيس شعبة العمليات في الجيش السوري، يوم 22 أبريل/نيسان، حيث تم تعيينه رئيسا للمكتب الثاني، شعبة الاستخبارات، وأعطي صلاحيات واسعة لتعقب المتهمين باغتيال المالكي، كما ورد في وثائقي بثته قناة الجزيرة بعنوان "العقيد السراج.. رجل الرعب".

وتوصلت التحقيقات التي قام بها السراج لاتهام أعضاء في الحزب القومي السوري الاجتماعي بعملية الاغتيال، فشن السراج حملة اعتقالات واسعة في صفوف الحزب شملت سكرتيره الأول وكوادره، ونخبة من المثقفين والشعراء من بينهم محمد الماغوط وأدونيس، إضافة إلى جولييت ألمير زوجة مؤسس الحزب، الراحل أنطون سعادة.

واتسمت الفترة التي لمع فيها نجم السراج بين 1955 و1961 بمعارك سياسية وأمنية خاضها على جبهات متعددة، فالقوميون السوريون متهمون -في نظره- بمناصرة نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي آنذاك ومشروع "حلف بغداد"، وهنالك الشيوعيون الذين رأى فيهم مناهضة الحلم الوحدوي الناصري، بصفتهم داعمين ومدعومين من خصم عبد الناصر اللدود في العراق عبد الكريم قاسم، وفق ما جاء في آخر لقاء صحفي للعقيد السراج عام 2002.

أما البعثيون، فله معهم صولات وجولات، لم يكسبها كلها، وإن كان قد سجل عددا من النقاط ضدهم. وهو، وإن كان محسوبا عليهم أحيانا، ومن أشد مناصريهم، إلا أنه رأى فيهم تهافتا على السلطة، واستغلال الوحدة لمآرب حزبية ضيقة. وظهر ذلك جليا عندما ناصبوه العداء بعد أن استثنى عبد الناصر أغلب مرشحيهم من عضوية المجلس التنفيذي.

إعلان

عُرف عن السراج تعلقه الشديد بشخصية جمال عبد الناصر، وإعجابه بالشعارات القومية والوحدوية التي نادى بها. وكان العدوان الثلاثي على مصر في 1956 نقطة مفصلية في تحويل المشاعر القومية والعواطف الوحدوية إلى خطوات عملية باتجاه الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا.

السراج يخطف نظر عبد الناصر

استغل السراج زيارة رئيس الجمهورية شكري القوتلي لموسكو، من أجل حشد الدعم لعبد الناصر، في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر، فأمر بتفجير خط النفط التابع لشركة نفط العراق، والمتجه إلى تركيا وأوروبا من خلال الأراضي السورية.

وقد شكلت هذه العملية ضربة موجعة لبريطانيا، في حين توجهت أنظار عبد الناصر بإعجاب نحو هذا "الضابط الثائر"، كما ورد في "وثائقي الجزيرة" ومقابلة السراج الأخيرة.

بعد العدوان الثلاثي، تغلغل الفكر الناصري في صفوف الشباب العرب، وبدأت سوريا تسير نحو الوحدة مع مصر، وشهد عام 1957 صراعا شديدا داخل مؤسسة الجيش السوري، وأصبحت التجاذبات السياسية بين ضباطه تهدد تماسك الدولة السورية، ورأى السَراج حينها أن الوحدة مع مصر باتت ضرورية لإنقاذ الدولة.

وكان لدخول جهات عربية وإقليمية على خط الوحدة المصرية السورية -من أمثال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، وكل من القيادتين السعودية والأردنية، ولكلٍ أسبابه- أن مهدت أرضية صلبة للسراج للإطاحة بمناوئيه، بحجة أنهم ضد إرادة الشعوب العربية في الوحدة، وروج لمحاولات اغتياله شخصيا أو اغتيال الرئيس القوتلي المقرب من عبد الناصر.

الغرق في المغامرات الأمنية

في فبراير/شباط 1958، أعلنت الوحدة بين سوريا ومصر، وتنازل شكري القوتلي عن منصب الرئاسة لصالح الوحدة، واختير عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، واشترط حل الأحزاب السورية التي استجابت على مضض، وكان السَراج حينها الفاعلَ الحقيقي في سوريا، حيث عينه عبد الناصر وزيرا للداخلية في الإقليم الشمالي من الجمهورية الجديدة، ثم ما لبث أن عينه رئيسا للمجلس التنفيذي في سوريا.

إعلان

وفي هذه المرحلة وصل السراج لذروة قوته، فأبدع في صناعة الخوف، وأمعن في القتل والإخفاء دون مساءلة، وبدأت معالم الدولة المدنية في تلك الفترة تضمحل شيئا فشيئا. وكان الشيوعيون -المناهضون للوحدة المصرية السورية والداعمون الرئيسيون لثورة عبد الكريم قاسم في العراق- هم أكثر ضحايا السراج عددا ومكانة.

ولعل الحادثة التي تعتبر عنوانا لتلك الفترة الدموية هي تصفية فرج الله الحلو -نائب الأمين العام للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان- بطريقة وحشية في سجون السَراج، ولجأ معاونوه الأمنيون -بعد افتضاح أمرهم- إلى التخلص من الجثة عن طريق إذابتها بالأسيد.

على إثر هذه الحادثة، تعرض عبد الناصر لانتقادات دولية عنيفة، وتلقى اتصالات من الزعيم السوفياتي خروتشوف، ونهرو وتيتو وباقي قادة دول عدم الانحياز، فطلب من السَراج التكتم على الأمر ونفي نبأ اعتقال الحلو، وربما كانت هذه الحادثة بمنزلة مسمار دُقَ في نعش العلاقة بينه وبين عبد الناصر.

واستمرت يد السراج الأمنية بالتمدد، حتى طالت لبنان، واستغل الاحتجاجات التي قادها اللبنانيون ضد كميل شمعون الرئيس اللباني حينها، وهو المعارض للجمهورية المتحدة، حيث عمل السراج على تمويل المعارضين -أمثال كمال جنبلاط وحميد فرنجية وصائب سلام- وإمدادهم بالسلاح والرجال للإطاحة بكميل شمعون، ومنعه من الترشح لولاية رئاسية ثانية.

وقد برر السراج هذا التدخل -في لقائه الصحفي الأخير مع كمال الطويل من جريدة السفير- بقوله: "ليس هناك مخفيات، أنا رأيت من زاويتي أن سوريا في خطر، ما دام ليس لها نفوذ مُقرر في لبنان، وتعززت هذه القناعة أكثر بقيام الوحدة، لم نكن نهتم بأمورهم الداخلية المحضة، وإنما بأن تكون سياستهم الخارجية معنا".

بداية النهاية.. النزول من القمة

تركت حادثة تصفية فرج الله الحلو حالة من الهلع والخوف، مصحوبة بنوع من التذمر والرفض للحالة الأمنية التي وصلت إليها البلاد تحت قبضة السَراج. ومع ظهور حالات أخرى مماثلة في عدة مدن سورية، تساءل الناس عن أعداد الجثث التي لم يتم الإفصاح عنها في أقبية الموت.

إعلان

ضاق الضباط السوريون ذرعا بالملاحقات الأمنية التي يشنها السراج ضدهم، وكذلك بالطريقة الاستعلائية التي يتعامل بها الضباط المصريون معهم، وسياسة التنقلات التي طالت كل من يعارض، أو يُشَكُك في ولائه للوحدة وقادتها، فأوعز عبد الناصر للسراج بتخفيف الوطأة على الجيش والمدنيين.

ثم بدأ عبد الناصر بتحجيم صلاحيات السَراج ونقلها تدريجيا إلى المشير عبد الحكيم عامر، الذي لم تكن علاقته بالسَراج جيدة، وكان الصراع بينهما محتدما على النفوذ في سوريا، فتحدث عبد الناصر إلى السَراج في اجتماع مغلق، وأبدى امتعاضه من العداء الدولي الذي تسببت به تصرفات السَراج، وأخبره بتفويض عامر للوساطة مع تلك الدول وكسب ودها.

أدرك السَراج أنه أصبح خارج دائرة اهتمامات عبد الناصر، فقدم استقالته في 22 سبتمبر/أيلول 1961، أي قبل أيام من انهيار الوحدة، وأخذ يراقب الأحداث عن بُعْد، في الوقت الذي كان فيه الضابط عبد الكريم النحلاوي، مدير مكتب المشير عامر في دمشق، يخطط للانقلاب على عبد الناصر وإسقاط الوحدة بين البلدين.

نهاية الحلم والمسيرة الشخصية

ويوم 27 سبتمبر/أيلول 1961 استيقظت دمشق على أصوات الرصاص، وتلا النحلاوي "البيان العاشر" الذي أنهى قصة الجمهورية العربية المتحدة. وكان من أوائل ما قام به القادة الجدد لسوريا اعتقال السَراج وإيداعه في سجن المزة، الذي تلطخت جدرانه بدماء ضحاياه، وكان مقبرة للمعارضين في عهده.

لم ينس عبد الناصر حليفه القديم، فأمر بوضع خطة محكمة لتهريب السَراج إلى القاهرة، وبالتعاون مع الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، طلب ناصر من الرئيس اللبناني فؤاد شهاب التعاون مع المخابرات المصرية لتأمين هروب السَراج، وكان ذلك بالتنسيق مع أطراف عدة، منهم الضابط الأردني نذير رشيد، المحسوب على حركة الضباط الأحرار، وسامي الخطيب من المخابرات اللبنانية.

وقد وردت تفاصيل تهريب السراج إلى القاهرة متفرقة في مصادر عدة، منها ما جاء على لسانه في حديثه إلى صحيفة السفير، أو تلك التي وردت في وثائقي الجزيرة، وكذلك ما ذكره موقعا "الموسوعة الدمشقية" و"التاريخ السوري المعاصر".

إعلان

تم تهريب السراج أولا إلى لبنان في سيارة عسكرية متنكرا بزي ضابط صف سوري، ومن لبنان إلى القاهرة بالطائرة. وفي اليوم التالي، استقبله عبد الناصر في مراسم استقبال رسمية في قصر الضيافة، حيث شكل فرار السَراج صفعة قاسية للنظام الجديد في سوريا، وبهذا انتهت مسيرة السَراج سياسيا وأمنيا، ومنذ العام 1968 اختفى تماما عن المشهد السياسي.

بعد استقراره في مصر عينه عبد الناصر في وظيفة مدنية في مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وأمضى فيها بضع سنين قبل أن يعتزل الحياة العامة كليا، ويبتعد عن أضواء الإعلام والصحفيين.

لكنه بقي في كنف الرؤساء الذين حكموا مصر بعد عبد الناصر حتى مات في 22 سبتمبر/أيلول 2013، وأقيمت له جنازة رسمية، حضرها مندوب عن وزير الدفاع آنذاك -عبد الفتاح السيسي- بصفته نائبا سابقا للرئيس عبد الناصر في فترة الوحدة.

مقالات مشابهة

  • هذه الأسباب تؤخر عودة اللاجئين السوريين بعد سقوط نظام بشار الأسد
  • سوريا.. أول هجوم لـ"داعش" منذ سقوط الأسد
  • خالد الأحمد .. العلوي الذي ساعد الشرع وكتب نهاية الأسد - فيديو
  • طفرة في التعاون الاقتصادي بين سوريا والأردن بعد سقوط الأسد
  • أساطير انتشار الكنوز تقود إلى رواج البحث عن الذهب في سوريا بعد سقوط نظام الأسد
  • تعرف على السلطان الأحمر الذي أسس الدولة البوليسية في سوريا
  • سوريا.. رئيس منظمة الإنقاذ يكشف لـCNN كيف تختلف المناطق التي كانت تحت سيطرة الأسد عن مناطق المعارضة وكيف ستزدهر البلاد؟
  • ألمانيا تعتقل مشتبهًا بتعذيب معتقلين في سجون نظام بشار الأسد
  • سوريا تؤكد إغلاق المقرات التي كان يشغلها انفصاليو البوليساريو
  • خالد الأحمد.. علوي سوري ساعد الشرع في إسقاط بشار الأسد