عضو مجمع البحوث: يجب التوعية بمخاطر الإلحاد على الفكر في المناهج الدراسية
تاريخ النشر: 16th, December 2024 GMT
شهد اليوم الثاني من فعاليات ندوة دار الإفتاء الدولية الأولى انعقاد الجلسة العلمية الثانية، تحت عنوان "حماية الأمن الفكري: التحديات وطرائق الفتوى في المواجهة" أكَّد الدكتور محمد الشحات الجندي أستاذ الشريعة الإسلامية عضو مجمع البحوث الإسلامية، في بحثه بعنوان "جهود الفتوى في الحفاظ على الأمن الفكري والمجتمعي"، تأثير الإلحاد على الأمن الفكري والمجتمعي في عصر المادة، مشيرًا إلى أن سيطرة المال والمادة على مسار الشعوب يخل بمفهوم الإنسان الذي يتكون من بُعدين مادي وروحي.
ويؤكد أن التحديات الفكرية التي يواجهها الإنسان، مثل الإلحاد الذي يعزز الفكر المادي والإفراط الحسي، تتطلب دورًا فعَّالًا من مؤسسات الإفتاء في تصحيح المفاهيم الدينية وتوعية المجتمع بخطر هذا الفكر على الهُوية والمعتقد.
وقد ركَّز الجندي على أهمية الفتوى في الحفاظ على الأمن الفكري للأمة الإسلامية، مشيرًا إلى أن الفتوى ليست فقط أداة لحل القضايا الفردية، بل أيضًا لتوجيه المجتمع نحو قيم الإسلام الصحيحة. ويُعتبر الإلحاد تهديدًا مباشرًا للأمن الفكري، حيث يساهم في تشويش المعتقدات وتعميق الهوية الغربية في المجتمعات الإسلامية، مما يؤدي إلى تدهور السلوكيات وتفشِّي الفكر المضلل.
وفي ختام بحثه، شدد الجندي على ضرورة تعزيز الجهود الإفتائية لمكافحة الإلحاد والتصدي له بالمنهج العلمي، وكذلك أهمية تضمين المناهج الدراسية التوعية بمخاطر الإلحاد وآثاره السلبية على الفكر والسلوك، كما أوصى بضرورة تعاون المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي لتفعيل الوعي الديني الصحيح والعمل على تصحيح المفاهيم المغلوطة، خاصةً بين الشباب، وذلك لحماية الأمة من الانحرافات الفكرية والاجتماعية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الإفتاء الأمن الفكري الجندي الإلحاد الإفتائية مجمع البحوث الإسلامية الأمن الفکری
إقرأ أيضاً:
المثقف اللبيب الحسَّاس وفضيلة الفكر
الأحداث الكبرى -من حروب وكوارث- تولِّد في نفوس الناس مشاعر مضطربة والتباسات وغوامض وأخلاط من الأسئلة والشبهات.
وهنا تكون الحاجة ملحّة إلى أثمن ما نفتقده اليوم وهو المثقف اللبيب الحسَّاس الذي يبحث ويبيّن ويدقق ويعلل ويجادل ويبرهن، ويضع الأمور في مواضعها الصحيحة، يكشف عن المختلِف بين أشياء وأحوال ومفاهيم ومقامات وإمكانات وفرص تبدو للعوام واحدة متجانسة، أو عن المتفق بين أشياء تبدو للعوام مختلفة متنافرة.
هذا المثقف هو ذاته “الفيلسوف الجاد” الذي وصفه توماس هوبز في أحد كتبه بأنه شخص يسمح لعقله بالتحرك “في أعماق التصورات والتجارب بحيث يقوم بإدراك الأشياء المختلطة المضطربة ويفصل بينها ويعزلها ويميزها، ثم يختم كل واحدة منها باسمها الخاص، ويضعها في نظام محدد وترتيب معين”.
وهو الذي يعنيه الجاحظ حين قال: “إنما يَعرفُ العاقل فضل العاقل في مضايق الأمور، وساعة الجولة، والعجلة والحيرة، وظهور الفتنة، وموجان السفلة، واضطراب العلية، واختلاط الخاصة بالعامة”.
وقد تحدث الفارابي في معظم كتبه عن “الفضيلة الفكرية”، بوصفها المَلَكة التي بها يتمكّن الإنسان من استنباط الأنفع والأجمل لأممٍ أو لأمّةٍ أو لمدينةٍ، في ضوء ما يعرض لها من وقائع وتغيرات.
ينطلق الفارابي من وجهة نظر أرسطية تقول إن الإنسان يتشوّق إلى ضربين من العلم:
علم يُطلب للانتفاع به في سلامة الأبدان، وسلامة الحواس، وسلامة القدرة على تمييز ما يُفضي إلى تلك السلامة، وكذلك سلامة القوة التي تسعى إلى تحصيلها. وهذا هو “العلم العملي”، وتندرج تحته السياسة والأخلاق.
وعلم آخر يُطلب لذاته لا لشيءٍ آخر، وهو فضلٌ وزائدٌ على العلم النافع، ويُسمّى “العلم النظري”.
ثم ينتقل الفارابي إلى التمييز بين نوعين من المعقولات: “معقولات طبيعية” و”معقولات إرادية”.
المعقولات الطبيعية هي التي تُوجد عن الطبيعة، وتقترن بها الأعراض الملازمة لها.
أما المعقولات الإرادية، فهي التي توجد خارج النفس بفعل الإرادة، وتكون أحوالها وأعراضها مقترنة بالفعل الإرادي، لا بذاتها.
تنتمي حوادث التاريخ، من مدن ودولٍ وسنن وسياساتٍ وفضائل وأعمالٍ وحروبٍ وعلاقات، إلى المعقولات الإرادية، وهي معقولاتٌ تتبدّل أحوالها بتبدّل الزمان والمكان. ولهذا السبب، تستحيل إحاطتها بالعلوم النظرية؛ لأن هذه العلوم لا تعنى إلا بـ”المعقولات التي لا تتبدل أصلاً”.
وهكذا، فالعلم العملي موضوعه المعقولات الإرادية، والفضيلة الفكرية تابعةٌ له،
أما العلم النظري فموضوعه المعقولات الطبيعية التي لا تتغير.
يعرّف الفارابي الفضيلة الفكرية بأكثر من طريقة، سنكتفي منها بهذا النص من “فصول منتزعة”:
“الفضيلة الفكرية هي ما يَقْدِر بها الإنسان على جودة الاستنباط لما هو أنفع في غايةٍ فاضلةٍ مشتركةٍ للأمم أو لأمّة أو المدينة عند واردٍ مشترك.
ومنها ما يُستنبط لما يتبدل في مُددٍ قصار، وهذه تسمّى القدرة على أصناف التدبيرات الجزئية الزمنية عند ورود الأشياء التي ترد أولًا فأولًا على الأمم أو على أمّة أو على مدينة.
فأمّا القوة الفكرية التي يُستنبط بها ما هو أنفع في غايةٍ هي شرّ، فليست هي فضيلةً فكرية”، (فصول منتزعة، ص99).
وهنا تظهر الصلة بين الفضيلة الفكرية و”العقل العملي”، الذي يعرّفه الفارابي في موضعٍ آخر بأنه:
“قوةٌ بها يحصل للإنسان، عن كثرة تجارب الأمور وعن طول مشاهدة الأشياء المحسوسة، مقدماتٌ يمكنه بها الوقوف على ما ينبغي أن يُؤثَر أو يُجتنب، في شيءٍ شيءٍ من الأمور التي فِعلُها إلينا”.
وقد نقابل بين “الفضيلة الفكرية” كما صوّرها الفارابي، ومفهوم “الحسّ المشترك” كما ورد عند كانط، وهو يشير إلى القدرة على رؤية الأشياء لا من وجهة نظر المرء نفسه فقط، بل من منظور الآخرين، أي منظور المجال العمومي.
إن أسباب العَوَام من الناس -في الرضا والسخط- حسيِّة لا عقلية، جزئية لا كلية.
يُرضيهم ما يجعل حياتهم أسهل وأرقى وأقل كُلفة وأكثر أمناً، ويُسخطهم ما يسد عليهم منافذ وسُبل الحياة الكريمة الرخيّة، ويكلفهم العناء، ويجور عليهم بالأثقال.
لا يهتم الرجل العادي ما إن كان الحكم جمهوري أو ملكي، ديمقراطي أو استبدادي، ديني أو علماني،
لأنه لا يرى الأمور إلا من زواية تأثيرها المحسوس على حياته وحياة أمثاله من الناس،
فإن كان تأثيرها حسناً، فهي جديرة بالاستحسان، وإن كان مزعجاً ومكدِّراً، فهي جديرة بالذم والسخط.
بينما ينظر المثقف والمفكر ورجل السياسة (الخاصة، صفوة المجتمع)، إلى الحوادث الجزئية والأوضاع المتفرقة ويعلِّلها بالمفاهيم والمبادىء والأفكار الكلية، أو العكس.
يَجمع الأجزاء في كلٍّ موحَّد.
يصنع من الوقائع التفصيلية مقولة منطقية تفسيرية.
يُخبر الناس مثلاً أن فساد وقسوة أوضاعهم ناتجان عن فساد وقسوة مبدأ الحُكم. ثم يعطي المبدأ الفاسد اسماً، ويشجع على الالتفاف حول مبدأ أصلح وأرشد وأعدل منه.
في مقال يعلق فيه طه حسين على كتاب “خيانة المثقفين” للفرنسي جوليان بندا، نقرأ أن المثقف ليس مسئولاً عن عقله فحسب، بل هو مسئول عن نتائج هذا العقل وعن آثاره في معاصريه من جهة، وفي الأجيال المقبلة من جهة أخرى.
فالمثقف الممتاز، كما يقول طه حسين، هو أستاذ، “سواء أشغل منصب التعليم أو لم يشغله، ومن الحق على الأستاذ لتلاميذه أن يكون لهم مثلًا صالحًا وقدوةً حسنةً، وأن يعصم لهم نفسه من الضعف الذي يفسد رأيهم في العقل، ويشككهم فيه، ويدفعهم أن ينظروا إليه كما ينظرون إلى مصادر الإنتاج المختلفة، كالتجارة والزراعة والصناعة، على أنه شيء قابل للبيع والشراء والأخذ والعطاء، وعلى أنه يصلح موضوعًا للمساومة التي مهما تكن شريفةً نقيةً فإنها لا تليق بالحق ولا بالعقل الذي يلتمس الحق ويبحث عنه.
ثم هو آخر الأمر مسؤول عن نفسه؛ فقد ينبغي للرجل الكريم ألا يأتي من الأمر ما يستخذي منه أمام نفسه إذا خلا إليها، وألا يشارك فيما لا يطمئن ضميره الخالص إلى المشاركة فيه”.
إن اليمني المهزوم أمام الآفات التي أطاحت بكيانه الوطني، يعاني منذ سنوات من حالة مريعة من العمى العقلي والأخلاقي، من العجز عن النظر الصحيح في الأعمال والأقوال، والعجز عن الحكم عليها تصويباً أو تغليطاً، بالتحسين أو التقبيح، وعن تمييز النافع من الضار، النفع العام والضرر العام.
فوضى عارمة في القيم والمرجعيات والمبادىء.
وهذا ليس غريباً بالنظر إلى طبيعة المرحلة التاريخية التي يعيش فيها.
ذلك أن الحروب وانهيار الدول هي مناسبات عنيفة تعيد طرح ما هو أساسي وجوهري من أسئلة الوجود الأولى للبحث والتداول: ما الحياة وما الموت؟
ما العدل وما الجور؟ وما الخير وما الشر؟
أسئلة الصواب والخطأ، القوانين والأخلاق والأديان والدول والعادات والطبائع والموازين، الهوية والاختلاف، الواحد والمتعدد، الحرية والأمن، التاريخ والطبيعة، الفرد والجماعة، العقل والغريزة، أصل الأشياء وفصلها، البداية والمصير.
ويقف العقل اليمني، أمام طوفان الأسئلة هذا، عاجزاً عن تجميع الحقيقة المتشظية الجارحة المفسِّرة لألمه وانحطاط أحواله.
فالألم يسأل دوماً عن السبب، بينما تميل المتعة إلى الاكتفاء بذاتها، كما يقول نيتشه.