في مسألة التسامح والانفتاح على الآخر في الدين والفكر
تاريخ النشر: 18th, December 2024 GMT
من خلال متابعتي لكتابات العديد من الباحثين والكتاب من دول غربية ودول عربية، ممن أصبح لهم، ولكل ما يطرحه الغرب من انتقادات وأفكار، صدى ونتيجة من نتائج الغريب واختراقه، نجد أن الحديث لا يتوقف عن أهمية الانفتاح على الآخر، وقضية التسامح، وحقوق الإنسان. وقد حاولت مؤخرًا حكومات ومؤسسات وهيئات أن تتبنى الدول العربية قضايا وأفكارًا لا تمت لقيمها ولا حتى للأديان السماوية، مثل المثلية والنسوية وحريات لا تتقبلها الفطرة الإنسانية السوية.
ولا شك أن فكرة التسامح، تعتبر من القيم العظيمة في الفكر الإنساني قديما وحديثا، ولا تزال هذه الفكرة الإنسانية، تلقى القبول من كل الأديان والثقافات والفلسفات، لكن تبقى الإشكالية في التطبيق العملي والواقعي لقيمة التسامح، باعتبارها تسهم في الإخاء الإنساني، والوئام، والسلام الاجتماعي، وهي في الأساس استعداد بأن نسامح بعضنا بعضا، مع اختلافنا في أفكارنا، ورؤانا، ولذلك يتطلب أن يتم التعايش على مبدأ التسامح، في أي قضية من القضايا التي تناقش، سواء كانت فكرية، أو دينية، أو سياسية، أو غيرها من القضايا التي تعد من البديهيات الإنسانية في الاختلاف والتعدد والتنوع، وقد قضت مشيئة الله سبحانه وتعالى، أن خلق البشر مختلفين، وهذا الاختلاف سنة كونية بشرية، وفق ما ذكره القرآن الكريم، بأن جعل الناس مختلفين.. قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، ولذلك فإن المقتضى أن تتقبل النفس الإنسانية هذا الاختلاف وأن تتسامح فيه، هذه المشيئة الإلهية في الاختلاف، وأن يتسامح الناس فيما بينهم في حياتهم وفي رؤيتهم ونظرتهم تجاه الحياة والكون والقيم، فيما هو مشترك إنساني في الحياة الاجتماعية والفكرية، وهذا المبدأ الذي يجمعهم على التعايش، يدفعهم إلى قبول بعضهم البعض، رغم الاختلاف والتعدد في الرؤى الفكرية وغيرها، وفق ما أشارت إليه آيات في القرآن الكريم، وجاء في العديد من الأحاديث النبوية، وشدد عليه الكثير من العلماء والمفكرين المسلمين، قديمًا وحديثًا.
وقد أرسى الإسلام في العصر الأول، مبدأ التسامح رغم الاختلاف الديني، وهذا ما تحقق فعليًا في صحيفة المدينة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم، مع سكان المدينة (يثرب). وهذه المواد الدستورية بالصحيفة، تنبثق من عدل الإسلام تجاه الآخر، والاعتراف به، وقبوله، رغم اختلاف الدين بينهم، ما دام وفيًا بالعهد وملتزمًا بما تم الاتفاق عليه في هذه الوثيقة، وهذه ظاهرة غير مسبوقة في الأديان والأمم والحضارات الأخرى، وهي كذلك جاءت «مبنية على نصوص قرآنية، هي ما يسمى بآيات الإسماح، ومنها ما ورد في سورة الكهف والغاشية والمائدة والحج، وهذه الآيات تشير إلى مبادئ أساسية في الإسلام، وهي مبادئ إنسانية عامة كالحرية، التي هي هاجس فطري لبني البشر، الذين يولدون وهم مجبولون على الحرية، وهو ما دعا إليه الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب حين أطلق مقولته الشهيرة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)، أو ما قاله الإمام علي مخاطبا عامله في مصر مالك بن الأشتر النخعي: (لا تكونن عليهم (أي على الناس) سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..) والذي لقي صداه في الإعلان العالمي بعد نحو 14 قرنًا، حيث ورد في المادة الأولى: (يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلًا وضميرًا، وعليهم أن يعالج بعضهم بعضًا بروح الإخاء). ولهذا فإن الكثير من الباحثين والمؤرخين الذين ناقشوا هذه الصحيفة وبنودها الدستورية، أكدوا ـ كما قال د. عبدالحسين شعبان أنها: «أول تجربة قانونية ودستورية لتأسيس المجتمع الإسلامي الجديد، الذي كاد الرسول أن يضحّي بحياته من أجله. وتؤكد الصحيفة أن المجتمع الإسلامي الذي خاطبه الرسول كان تعدديًا». ومن هذه الأسس العظيمة للصحيفة النبوية، نجد أن الإسلام ومبادئه السمحة العادلة قد أرسى مضامين غير مسبوقة من حيث القبول بالآخر المختلف دينيًا وإثنيًا.
وقد شهد لسماحة الإسلام وما كفله لغير المسلمين من حرية في الاعتقاد وغيره من الحقوق العديد من المستشرقين والباحثين الغربيين، بما وضعه الإسلام من تسامح تجاه الآخر المختلف، فكريًا ودينيًا، ويقول المستشرق البريطاني (السير ارنولد) في هذا الصدد المتعلق بقضية التسامح: «إننا إذا نظرنا إلى التسامح الذي امتد إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام، بعيدة عن التصديق، كما أنه يذكر العديد من الشواهد التي تشهد بأن المسيحيين الذي كانوا تحت الحكم الإسلامي إنما اعتنقوا الإسلام عن حرية كاملة، فالفتح الإسلامي قد جلب إلى القبط -كما يقول- حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان، وقد تركهم عمرو بن العاص (والي مصر) أحرارا على أن يدفعوا الجزية، وكفل لهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية وخلصهم بذلك من هذا التدخل المستمر الذي أنوا من عبئه الثقيل في ظل الحكم الروماني. كما يذكر لنا عن الفتح العربي لإسبانيا أن المذهب الكاثوليكي كان هو السائد في تلك البلاد، وأن القساوسة الكاثوليك كان قد أصبح لهم نفوذ كبير في الدولة وأنهم قد «اتخذوا من وراء هذه القوة التي وصلوا إليها سبيلا لاضطهاد اليهود، وكان من أثر هذه الاضطهادات أن رحب اليهود بالعرب الغزاة وعدوهم منقذين لهم مما حل بهم من المظالم، فساعدوهم على فتح أبواب المدن، كما استعان بهم الفاتحون في حماية المدن التي وقعت في أيديهم، كما اعتنق هذا الدين الجديد كثير من أشراف المسيحيين عن عقيدة راسخة أو عن بواعث أخرى».
وفي العصور الإسلامية التالية -سيما في العصر العباسي- فإن التعايش والتعدد ازدهر بصورة ملفتة ربما يفوق الديمقراطيات الحديثة، من حيث القبول بالتعايش الديني والمذهبي رغم مظاهر أن العديد من المستشرقين لم يعطوا هذا الموقف (الليبرالي)، وفق المفهوم حقه من الكتابة الأمينة البعيدة عن الغرض الإيديولوجي، بالقياس لما جرى في محاكم التفتيش في أسبانيا، فقد كان يجتمع في مجالس العلم -آنذاك- كل أطياف الفكر والمذهب والدين والطائفة في مجلس واحد. إن المبدأ الأول في الفكر الإسلامي هو مبدأ اختلاف الاعتقاد الذي يريده الله تعالى. ومن بين الآيات القرآنية الكريمة التي تعبر عن هذا هي الآية رقم 99 من سورة يونس: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». هذا ما كان عليه الإسلام من قبول بالاختلاف والتسامح مع الآخر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العدید من
إقرأ أيضاً:
غارديان: أرقام صادمة عن كراهية الإسلام في بريطانيا
قالت صحيفة غارديان إن استطلاعا جديدا للرأي أظهر أن معظم الناس في المملكة المتحدة يعتقدون أن القيم الإسلامية لا تتفق مع القيم البريطانية، مما يعطي صورة قاتمة عن نظرتهم إلى المسلمين.
وقالت كاتبة العمود زوي وليامز إن مؤسسة يوغوف التي عملت الاستطلاع أوضحت أن أكثر من نصف السكان لا يرون أن الإسلام غير موافق للقيم البريطانية، إذ أظهر هذا الاستطلاع الأخير أن 41% من البريطانيين يعتقدون أن المهاجرين المسلمين كان لهم تأثير سلبي على المملكة المتحدة، ويعتقد 49% منهم أن النساء المسلمات يتعرضن لضغوط لارتداء الحجاب، كما يعتقد 31% أن الإسلام يشجع على العنف.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"ممداني الثاني".. مسلم مرشح لمنصب عمدة مينيابوليس وهذا برنامجهlist 2 of 2صحف عالمية: حماس لم تسرق المساعدات وموقف الاتحاد الأوروبي ليس حاسماend of listواعتبرت الكاتبة هذه الأرقام صادمة، وخاصة عند مقارنتها برأي البريطانيين في الديانات الأخرى، إذ إن 7% لديهم رأي سلبي تجاه المسيحيين، و13% لديهم رأي سلبي تجاه اليهود، و14% تجاه السيخ، و15% تجاه الهندوس، مشيرة إلى أن هذا تراجع على مدار 25 عاما، من فكرة أن "المتطرفين المسلمين لديهم آراء لا تتوافق مع الحياة البريطانية" إلى "جميع المسلمين"، وهي صيغة لم يكن من الممكن قولها سابقا.
وتتذكر زوي وليامز قول سيدة وارسي عام 2011 إن الإسلاموفوبيا أصبحت مقبولة اجتماعيا، قائلة "فكرت حينها أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا، واعتقدت أنها تقابل عددا كبيرا جدا من المحافظين"، أما الآن فقد وصلنا إلى مرحلة لم تعد فيها الإسلاموفوبيا مقبولة اجتماعيا فحسب، بل مهيمنة اجتماعيا.
فيروس صنع في أميركاوأشارت الكاتبة إلى أن مركز التقدم الأميركي -وهو مركز أبحاث- نشر عام 2015 كتاب "الخوف، شركة 2.0: جهود شبكة الإسلاموفوبيا في صنع الكراهية في أميركا"، وقدم التقرير وصفا دقيقا لكيفية استغلال مشاعر الحزن والتهديد التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 لإنتاج تحيز لم يلاحظ من قبل، وكان قراءته محبطة لجملة أسباب.
أولا: كشف التقرير عن حجم الأموال التي تدفقت على صياغة هذه الرواية ومصادرها، وثانيا: أظهر التقرير مدى التنسيق والتنظيم الذي اتسمت به العديد من مراكز الأبحاث ذات التمويل الهائل، إذ كان بعضها يضخم رسائل البعض، وتحافظ على قاعدة ثابتة من المعلقين الجاهزين لمحطات البث المتعطشة لقضايا ساخنة. وثالثا: كشف التقرير عن مدى فاعلية هذه الشبكة في تحويل ما كان يعرف سابقا "بالآراء الهامشية والمتطرفة" إلى نقاط نقاش رئيسية وقضايا خلافية.
إعلانوأشارت الكاتبة إلى أن المملكة المتحدة لم تكن لديها بعض العناصر الأساسية لهذه الحملة، إذ لم يكن هناك أي ممولين واضحين ذوي ثروات طائلة، ولم يكن للمسيحيين الإنجيليين صوت قوي في السياسة، ولكن المختبر الأميركي صنع هذا الفيروس، "ونحن من أصيب به"، كما تقول الكاتبة.
وتتذكر زوي وليامز أن الإسلاموفوبيا لم تكن آثارها واضحة إلى هذا الحد من قبل، وكان من المستحيل عمليا الوقوف في البرلمان وتبرير مبيعات الأسلحة لإسرائيل، والمعاملة اللاإنسانية لطالبي اللجوء، لولا الأساس الذي أرسته الإسلاموفوبيا.