مدخل.. الطغاة وأوهام الخلود

لطالما اعتقد الطغاة أن سلطتهم لا تُهزم، وأن شعوبهم، مهما انتفضت، ستظل أسيرة الخوف والولاء الزائف. لكن التاريخ أثبت مرارًا أن هذه الأنظمة، مهما بدت قوية، تحمل في داخلها بذور ضعفها. هروب بشار الأسد، كما في هذا السيناريو المتخيل، لم يكن مجرد قرار أناني أو لحظة فرار من مواجهة محتومة؛ بل كان تجسيدًا لانهيار مشروع سلطوي قائم على الخداع والتهديد.

هروبه كشف زيف القوة التي حكم بها، وألقى الضوء على العلاقة المعقدة بين السلطة والطائفة، وبين الطاغية والشعب، وبين الوهم والواقع.

الطغاة والهويات المسلوبة.. تحطيم أسطورة "حامي الطائفة"

لطالما قدّم بشار الأسد نفسه كحامٍ للطائفة العلوية، ضامنٍ لوجودها، وحاميها من المخاطر المزعومة. هذا الدور لم يكن مبنيًا على حماية حقيقية، بل على استغلالٍ متقن لسيكولوجية الخوف. نجح الأسد في ربط مصير الطائفة بمصيره، زارعًا في نفوس أبناء الطائفة شعورًا بأن سقوطه يعني نهايتهم.

هروب الأسد لم يكن مجرد فصل في كتاب الأزمة السورية، بل كان لحظة فاصلة قلبت موازين اللعبة. هذا الهروب أعاد تعريف السلطة في سوريا، ليس فقط من حيث سقوط الأسد، ولكن من حيث تفكيك بنية الخوف التي كان يعتمد عليها. الشعب السوري، الذي عاش لعقود تحت ظل الطغيان، وجد نفسه فجأة أمام فرصة لإعادة تعريف هويته ومستقبله. لكن الهروب الذي اختاره الأسد أفرغ هذه الرواية من مضمونها. لم يكن الأسد في لحظة اتخاذ القرار يملك الوقت للتفكير في الطائفة التي طالما ادّعى حمايتها. كان قراره فرديًا بحتًا، هدفه الوحيد هو إنقاذ نفسه. هذه اللحظة كشفت أن الطائفة العلوية لم تكن يومًا أكثر من أداة استخدمها لتعزيز قبضته على السلطة، وحين حانت لحظة الحقيقة، تركها تواجه مصيرها دون أدنى تردد.

الهروب بهذا الشكل كان بمثابة الصفعة التي أعادت للطائفة إدراكًا غاب عنها لعقود: أنها ليست أكثر من وقود استُخدم لإبقاء النظام حيًا. ولعلّ هذا الإدراك، رغم قسوته، كان بداية لتحرر الطائفة من عبء الولاء القسري وإعادة صياغة موقعها في المشهد السوري.

الهروب كفعل يفضح زيف القوة

من منظور أعمق، يمكن النظر إلى هروب الأسد كفعل يتجاوز السياسة ليصل إلى جوهر السلطة نفسها. السلطة ليست فقط سيطرة مادية على الناس، بل هي شبكة معقدة من الرموز والمفاهيم التي تمنح الحاكم شرعية ظاهرية. الأسد، الذي قضى سنوات يعتمد على هذه الشبكة لإبقاء قبضته على سوريا، وجد نفسه في لحظة حاسمة عاجزًا عن الاستمرار في لعب دوره كقائد.

الهروب كان بمثابة اعتراف ضمني بفشله في الحفاظ على وهم القوة. فالقوة التي لا تحمي أصحابها عند الأزمات ليست قوة حقيقية، بل قناع هش يسقط عند أول اختبار. الأسد، في لحظة هروبه، لم يهرب فقط من غضب الشعب أو ضغط المعارضة، بل هرب من عبء الدور الذي حاول أن يلعبه طوال حياته. لم يعد قائدًا، بل أصبح إنسانًا عاديًا محاصرًا بخوفه، ومن هنا، يمكن القول إن لحظة الهروب كانت لحظة سقوطه الإنساني قبل السياسي.

الأبعاد السياسية للهروب.. سيناريوهات الفشل والنجاة

إن أهمية هذا السيناريو لا تكمن فقط في فعل الهروب ذاته، بل في الخيارات الأخرى التي كان يمكن أن يتخذها الأسد، والتي كانت جميعها كارثية على سوريا:

1 ـ البقاء والموت.. أسطورة القائد الشهيد

لو قرر الأسد البقاء حتى اللحظة الأخيرة وقُتل، لكان موته قد خدم الطائفة كرمز للتضحية، ولكان ذلك سيعزز من انغلاقها على نفسها، متحولة إلى قوة رافضة لأي مشروع وطني جامع. هذا السيناريو كان سيؤدي إلى مزيد من الانقسام والتشدد داخل سوريا، مما يجعل تحقيق المصالحة الوطنية أكثر صعوبة.

2 ـ التنازل السلمي عن السلطة.. انقسام داخلي قاتل

التنازل عن السلطة، رغم أنه قد يبدو خيارًا عقلانيًا، كان ليؤدي إلى انشقاقات حادة داخل الطائفة نفسها. الانقسام بين مؤيدي الأسد ومعارضيه داخل الطائفة كان سيُضعف موقفها السياسي، مما يؤدي إلى تصاعد الصراعات الداخلية، ليس فقط داخل الطائفة، ولكن على المستوى الوطني أيضًا.

3 ـ الهروب.. النهاية التي تكسر السلاسل

الهروب، رغم أنه قرار أناني في ظاهره، كان الأكثر تأثيرًا إيجابيًا على مستقبل سوريا. فهو لم يكسر فقط صورة الأسد كقائد قوي، بل حرّر الطائفة العلوية من أسر الولاء له. كما أن غيابه المفاجئ أتاح للشعب السوري فرصة للتفكير في مستقبلهم دون قيوده، ودون الأساطير التي حاول ترسيخها حول نفسه.

الأثر العميق.. بداية لكتابة تاريخ جديد

هروب الأسد لم يكن مجرد فصل في كتاب الأزمة السورية، بل كان لحظة فاصلة قلبت موازين اللعبة. هذا الهروب أعاد تعريف السلطة في سوريا، ليس فقط من حيث سقوط الأسد، ولكن من حيث تفكيك بنية الخوف التي كان يعتمد عليها. الشعب السوري، الذي عاش لعقود تحت ظل الطغيان، وجد نفسه فجأة أمام فرصة لإعادة تعريف هويته ومستقبله.

بالنسبة لسوريا، كان هذا الهروب بمثابة لحظة ميلاد جديدة. لم تعد البلاد رهينة لطاغية، بل أصبحت أمام فرصة نادرة لإعادة بناء نفسها على أسس جديدة. أما بالنسبة للعالم، فإن هذا الحدث يبقى شاهدًا على حقيقة أزلية: الطغاة يسقطون دائمًا، ليس على يد أعدائهم فقط، بل تحت ثقل أوهامهم. غياب الأسد لم يُنهِ كل مشاكل سوريا، لكنه أزاح العائق الأكبر أمام بناء وطن جديد. فمع سقوط الرمز، بدأ الشعب يُدرك أن الوطن لا يُختزل في شخص أو طائفة، بل هو مشروع جماعي يقوم على العدالة والمساواة.

خاتمة.. هروب الطاغية وعودة الشعب

إن هروب بشار الأسد، رغم أنه جاء نتيجة لجبن فردي، كان يحمل في طياته دلالات أعمق بكثير. لقد كشف عن هشاشة الطغاة مهما بدوا أقوياء، وأظهر أن الشعوب، مهما طالت معاناتها، قادرة على الصمود والانتصار في النهاية.

بالنسبة لسوريا، كان هذا الهروب بمثابة لحظة ميلاد جديدة. لم تعد البلاد رهينة لطاغية، بل أصبحت أمام فرصة نادرة لإعادة بناء نفسها على أسس جديدة. أما بالنسبة للعالم، فإن هذا الحدث يبقى شاهدًا على حقيقة أزلية: الطغاة يسقطون دائمًا، ليس على يد أعدائهم فقط، بل تحت ثقل أوهامهم.

* عضو الهيئة العليا للمفاوضات السورية
@shamsieyad

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السياسة سوريا سوريا سياسة رأي تحولات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بشار الأسد هذا الهروب أمام فرصة التی کان لم یکن من حیث

إقرأ أيضاً:

الانهيار القادم لا محالة

«اعلم أن مبنى الملك على أساسين لابدّ منهما: فالأول الشوكة والعصبية، وهو المعبر عنه بالجند، والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. والخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين... واعلم أن تمهيد الدولة وتأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبية، وأنه لابد من عصبية كبرى جامعة للعصائب، مستتبعة لها، وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة وقبيلة... وتضعف البطانة بعد ذلك بما أُخذ منها الترف فتهلك وتضمحل، وتضعف الدولة المنقسمة كلها، وربما طال أمدها بعد ذلك، فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فيستغني بذلك عن قوة العصائب، ويكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الإجراء على الحامية من جندي ومرتزق، ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم، فلا يكاد أحد يتصور عصيانًا أو خروجًا، إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له، فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده... ثم لا يزال أمر الدولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها، شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء، إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور، ولكل أجل كتاب، ولكل دولة أمد، والله يقدر الليل والنهار، وهو الواحد القهار».

مقدمة ابن خلدون بتصرف.

الكيان الصهيوني، ذلك الوحش الأسطوري الذي لا يتخيل كثير من الناس هرمه وانهياره، وذلك لكثرة من يقف وراءه ويحميه، وقوة أولئك؛ لكن هل تموت الوحوش؟

يجيبنا ابن خلدون في مقدمته البديعة لتاريخه الطويل، وفي الفصل السابع والأربعين «في كيفية طروق الخلل للدولة»، عما يصيب الدول من أسباب الانحسار والانهيار، والموانع التي لا تمنع الانهيار المنتظر ولا توقفه، حتى وإن أبطأته قليلًا.

وإذا ما افترضنا جزافًا أن الكيان الصهيوني دولة - رغم أن من شروط الدولة أن يكون لها حدود واضحة، وهو ما لا يتحقق عند الاحتلال الذي يرى بأنه لا حدود تحده سوى السلاح والمقاومة - فقد بدأ بأيديولوجية قوية وحرارة وحماس عاليين، فقد جاؤوا من أشتاتٍ كثرةٍ مختلفة، ليبنوا الوطن الذي يحميهم من تكرار مآسي الاضطهاد والقتل بعد الحربين العالميتين، لكن هذه الأسطورة القديمة بدأت تتلاشى، إلى أن وصلنا إلى كيان اليوم.

لا يخفى على أحد أن الكيان الصهيوني هو آخر معاقل الاستعمار الغربي، وكما هو معلوم فإن الاستعمار يكون مجديًا إذا حقق للمستعمر أهدافه وثماره المرجوة. فالكيان الوظيفي الحالي، مختبر كبير ومفتوح للأسلحة الحديثة والمتنوعة، من النووي والأسلحة القاتلة الاعتيادية، إلى الفوسفور الأبيض والأسلحة المحرمة على العالم - إلا على الكيان - والتي لها آثارها الطويلة بعد الاستخدام. ولن يستعمل أحد ما يؤثر بالسلب على بلده ووطنه حتى في قتال عدوه، لكن من لا يشعر بانتماء حقيقي إلى الأرض، ويؤمن في قرارة نفسه بالرحيل، لا يجد حرجًا في التخريب الذي يؤثر على من يأتي بعده.

يتحدث ابن خلدون في مقدمته عن أمور نراها رأي العين، فالصراعات السياسية الداخلية التي لم نكن نسمع بها من قبل في «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، والفساد السياسي المتجذر، ومحاكمة رئيس الوزراء وهو في رأس الهرم في قضايا فساد؛ كلها مما بدا خيالًا بعيد المنال. فالمتابع للشأن الصهيوني الداخلي، يجد أن بعض الشخصيات المحسوبة على السلطة الصهيونية كإيهود أولمرت، وإيهود باراك، وإسحاق بريك؛ كلها تنتقد على الملأ رئيس وزراء الاحتلال الحالي، وهو ما لم يكن يحدث من قبل.

ثم إن الصراعات الداخلية بين العلمانيين والحريديم المتشددين، ورؤية كل منهما لما ينبغي أن يكون عليه كيان الاحتلال، تضعف الجبهة الداخلية، والشعور بالانتماء الذي يعبر عنه ابن خلدون بمصطلح العصبية.

الهرم اللاحق بهذا الكيان المنبَتّ أمر حاصل لا محالة، ومن يهرم لا ينتظر سوى الأجل المحتوم. وسواء اعتمدنا في رؤيتنا للكيان نظرة ابن خلدون الذي يرى تآكل الدولة من الداخل، أو اعتمدنا رؤية سمير أمين الذي يرى تفككها وانحلالها من الخارج وانهيار نموذجها الوظيفي؛ فإن كلا الرؤيتين والطريقين والنظريتين تؤديان المؤدى ذاته، وإن غدًا لناظره قريب.

مقالات مشابهة

  • قوى تحذر أصحاب عقود العمل المنتهية بتحول حالتهم إلى هروب
  • أنباء عن ظهور إعلامي قريب لرئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد
  • فتاة تروي لحظات الرعب التي عاشتها مع سقوط لعبة 360 في منتزة الجبل الأخضر بالطائف.. فيديو
  • الانهيار القادم لا محالة
  • أول تنسيق أمني بعد سقوط الأسد.. الداخلية العراقية: ضبط شبكة دولية للمخدرات بسوريا
  • لأول مرة منذ سقوط الأسد.. الشيباني إلى موسكو
  • المارديني لـ سانا: هدفنا هو تقديم تجربة إعلانية تُبرز الوجه العصري لدمشق منذ لحظة الوصول إلى أرض المطار، إيماناً منا بأن المطار هو النافذة الأولى التي يطل منها الزائر على البلاد
  • 120 ألف لاجئ سوري عادوا من الأردن إلى بلادهم منذ سقوط الأسد
  • فرنسا تطالب بمذكرة توقيف جديدة بحق الأسد بعد سقوط الحصانة عنه
  • بعد إسقاط الحصانة: فرنسا تطلب مذكرة توقيف جديدة بحق بشار الأسد