يمكن القول ضمن مناخ غير مغرق في التفاؤل وليس محكوما بالتشاؤم، أن الأسابيع القليلة الماضية، منذ هروب الأسد، أسقطت سرديات كبرى كانت مرسخة في الوعي الجمعي، بعضها لدى إخواننا في الطائفة العلوية، وبعضها الآخر في الوعي الجمعي لدى جمهور الثورة.
أولى هذه السرديات التي سقطت هي أن النظام السوري باق إلى أجل غير معروف، وأن ثمة قرار إقليمي ـ دولي ببقائه، باعتباره نظاما يمكن التعامل معه دوليا، وأن قوته العسكرية ـ رغم هشاشتها ـ تبقى أقوى بكثير من قوة الثوار العسكرية، وأن إيران وروسيا لا يمكنهما التخلي عنه مهما صعبت الأمور.
ثاني هذه السرديات التي سقطت هي فعل التسامح الذي أعلنه الثوار تجاه جمهور النظام، خصوصا تجاه الطائفة العلوية، باستثناء من مارس القتل المقصود وشارك في إجرام النظام.
منذ بداية الثورة، سمع كاتب هذه السطور، من بعض زملائه من الإخوة العلويين في الوسط الإعلامي بدمشق، أن الثورة عبارة عن إرهابيين سُنة، سيقضون على الطائفة العلوية ويحولون نسائهم إلى "سبايا" وخدم.
رغم حجم العنف والقتل الذي مارسه النظام، ورغم وقوف بعض الأقليات بقوة إلى جانبه، لم تنشأ حرب طائفية، بل نشأت حرب أهلية، وبين الإثنين فارق كبير، على الرغم من أن الخلفيات الفكرية المضمرة لا تخلو من أبعاد طائفية في الوعي الجمعي للأقليات، ذلك أن التفكير الأقلوي هو بطبيعة الحال منافي للتفكير الوطني العام.إن فعل التسامح هذا، لا يُعبر فقط عن تغير في المزاج الأيديولوجي لفئة ذات توجه ديني أيديولوجي فحسب، بقدر ما هو نابع أيضا من مقتضيات بناء الدولة الجديدة.
وما حدث خلال الأربعة عشر سنة الماضية يؤكد ذلك، فرغم حجم العنف والقتل الذي مارسه النظام، ورغم وقوف بعض الأقليات بقوة إلى جانبه، لم تنشأ حرب طائفية، بل نشأت حرب أهلية، وبين الإثنين فارق كبير، على الرغم من أن الخلفيات الفكرية المضمرة لا تخلو من أبعاد طائفية في الوعي الجمعي للأقليات، ذلك أن التفكير الأقلوي هو بطبيعة الحال منافي للتفكير الوطني العام.
على مدار العقود الماضية، ولا سيما مع اندلاع الثورة السورية، أخذ نظام الأسد يبث في وعي الجمهور العلوي مخاطر فوز الثورة ـ ذات التوجه الإسلامي الراديكالي ـ، وخطر ذلك على الطائفة بمجملها.
لعب النظام بذكاء على محور الأقليات والمظلوميات التاريخية، فخلق وعيا زائفا مفاده أن بقاءه عامل رئيس في حمايتهم والمحافظة على حقوقهم.
ثالث هذه السرديات هو الاعتقاد الذي كان سائدا بأن ثمة تماه وجودي بين النظام والطائفة العلوية، وأن الطائفة ستستميت من أجل بقاء النظام.
وقد بين هروب الأسد زيف هذا التصور من ناحيتين، فكرية وواقعية: بالنسبة للناحية الواقعية، ظهر استياء واضح من إخواننا العلويين من استمرار هذا النظام الذي أصبح وجوده يشكل حملا ثقيلا عليهم على صعيد التكاليف المعيشية الباهظة وصعوبات الحياة.
أما بالنسبة للناحية الفكرية، وهذا هو الأهم، فهو مرتبط بالأسباب الحقيقية لدعم الطائفة للنظام، وهي أسباب في الجزء اليسير منها اقتصادي، في حين أن السبب الحقيقي يكمن في الكينونة السياسية في الوعي الجمعي.
انتقلت الطائفة العلوية مع الاستعمار الفرنسي من طائفة اجتماعية مغلقة تعيش في الجبال إلى طائفة منفتحة اجتماعيا إلى حد ما، ثم حدث تحول خلال نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي مع وصول شخصيات عسكرية قيادية على رأس الجيش أدخلت الطائفة في صلب صراعات الساحة السورية المتخمة بالأيديولوجيات الدينية والعلمانية.
ثم حدثت النقلة الكبرى مع تسلم حافظ الأسد سدة الرئاسة، وما عناه ذلك من انتقال الطائفة، ليس إلى طائفة منفتحة اجتماعيا فحسب، بل إلى طائفة سياسية أخذت تلعب دورا في مستقبل سوريا على الصعيدين الداخلي والخارجي.
هنا نشأ وعي قوي، أو فورة في الوعي بكينونة الطائفة سياسيا، ونشأ معها ما يمكن تسميته قطعا معرفيا مع التاريخ الغابر ورفض استذكاره لصالح واقع جديد يحقق هذه الكينونة.
إن قيام مشايخ العلويين ورجالاتها بهدم تماثيل حافظ الأسد في مناطقهم، ثم الدعوة إلى المشاركة في بناء سوريا جديدة، ليس ناجما عن جبن بقدر ما هو تعبير عن رغبة بطي حقبة الأسد والشروع في بناء سوريا الحديثة والمشاركة فيها بفعالية.إن الكينونة السياسية هذه هي ما يجب التركيز عليه، سواء في دعم الطائفة للنظام لعقود خلت، أو في الأسباب التي دفعت جمهورا عريضا من السوريين للثورة، ذلك أن الثورة لم تنشأ من أسباب طائفية ـ هيمنة أقلية على أكثرية ـ بل نشأت مع وصول الكينونة السياسية لدى الأفراد إلى مرحلة لم تعد قادرة على ضبطها وإخفاءها.
وعي الذات لذاتها ككينونة سياسية هو جوهر الفعل السوري، وهذا ما يفسر مطالب الحرية وإنشاء نظام ديمقراطي على أنقاض النظام الاستبدادي لدى الثوار.
إن قيام مشايخ العلويين ورجالاتها بهدم تماثيل حافظ الأسد في مناطقهم، ثم الدعوة إلى المشاركة في بناء سوريا جديدة، ليس ناجما عن جبن بقدر ما هو تعبير عن رغبة بطي حقبة الأسد والشروع في بناء سوريا الحديثة والمشاركة فيها بفعالية.
إن هذه الكينونة السياسية التي كانت سببا في دعم الطائفة للنظام هي ذاتها السبب في التخلي عنه.
سوريا بحاجة إلى كل مكوناتها وأفرادها من أجل بناء دولة ديمقراطية ليبرالية قائمة على المواطنة بغض النظر عن الانتماءات الضيقة.
وإذا كان لإخواننا العلويين حضورا إجراميا ممثلا بآل الأسد وداعميهم من أبناء الطائفة، فإن للعلويين أيضا بصمة تاريخية وثقافة هامة: صالح العلي، أدونيس، سعد لله ونوس، بدوي الجبل، ممدوح عدوان، فؤاد غازي، جمال سليمان.. إلخ.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا سوريا سياسة رأي تحولات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الطائفة العلویة فی الوعی الجمعی فی بناء سوریا
إقرأ أيضاً:
اتحاد العلويين السوري في أوروبا يعلن نواة كيان معارض
أعلن اتحاد العلويين السوريين في أوروبا، الاثنين الماضي، عن تشكيل نواة كيان سياسي جديد للمعارضة السورية، في خطوة وصفت بأنها محاولة لإعادة تنظيم القوى الديمقراطية السورية في المهجر وتقديم جسم سياسي جامع يمكن أن يحظى باعتراف دولي.
ودعا الاتحاد، وهو أكبر جهة سياسية ممثلة للطائفة العلوية في أوروبا، إلى مؤتمر صحفي في العاصمة الألمانية برلين، بالشراكة مع قوى سياسية وشخصيات عامة سورية في الخارج، لمناقشة “التطورات الجارية في سوريا، ووضع السوريين عموما، والأقليات خصوصا”، بحسب نص الدعوة.
وقال علي عبود، رئيس اتحاد العلويين السوريين في أوروبا، إن المؤتمر يشكل “طليعة إعلان مقبل عن تشكيل تجمع القوى الديمقراطية السورية، الذي سيمثل المشاركين وأحزابا أخرى من خلفيات طائفية وعرقية سورية متنوعة”.
وفي اتصال مع شبكة بي بي سي، أكد عبود أن “الساحة السورية اليوم تفتقر إلى جسم سياسي معارض يمثل جميع أطياف الشعب السوري”، مضيفا أن المجتمع الدولي “لا يرى أي قوى سياسية جامعة للسوريين، بل كيانات منفردة لا تعكس التمثيل الحقيقي”.
دعم دولي للعملية الانتقالية
وتزامن إعلان الاتحاد مع رسائل دعم من عدة دول للعملية الانتقالية الجارية في سوريا. كما تلقى رئيس الحكومة أحمد الشرع برقيات تهنئة بمناسبة الذكرى الأولى لـ"عيد التحرير" وسقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024.
وفي موقف لافت، دعت منظمة العفو الدولية السلطات السورية الجديدة إلى “الانفصال عن الماضي”، والالتزام بمبادئ العدالة والحقيقة والتعويضات، وضمان احترام حقوق الإنسان للجميع، في إطار عملية الانتقال السياسي.
الطائفة العلوية.. ركيزة النظام السابق
وشكلت الطائفة العلوية لعقود طويلة القاعدة الاجتماعية والسياسية للنظام السوري السابق بقيادة بشار الأسد ووالده حافظ الأسد، مع حضور واسع في المناصب السياسية والرتب العسكرية العليا، ما يجعل دورها الحالي في سوريا الجديدة موضع اهتمام داخلي ودولي متزايد.
ورغم ارتباط النظام السابق بالطائفة، إلا أن العلويين يعدون أقلية سكانية في البلاد. وتشير تقديرات النظام السوري لعام 2016 إلى أنهم يشكلون ما بين 12% و15% من سكان سوريا، أي نحو ثلاثة ملايين نسمة، في ظل غياب بيانات حديثة.
ويتركز العلويون تاريخيا على الساحل السوري في محافظتي اللاذقية وطرطوس، مع وجود تجمعات في دمشق، وفي محيط حمص وحماة، إضافة إلى انتشار واسع للعلويين السوريين في دول المهجر، ولا سيما أوروبا.