أ.د. وانغ يويونغ (فيصل) **

 

تشير التغيرات الجذرية التي شهدتها الساحة السياسية السورية إلى إعادة تشكيل كبرى للخريطة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وهي ستفتح آفاقًا جديدة للتعاون بين دول المنطقة، لكنها في الوقت نفسه ستفرض تحديات معقّدة. فظهور النظام السياسي الجديد في سوريا يعكس تطلّعات شعوب المنطقة إلى السلام وإعادة الإعمار، ولكنه يُخفي وراءه تعقيدات مُتعدّدة من التوتّرات القومية والطائفية والجيوسياسية.

وفي ظل هذه التطوّرات، يصبح الحفاظ على استقرار المنطقة ودفع عجلة الانتعاش الاقتصادي مهمّة ملحّة لدول الشرق الأوسط. وهذا من جهة، ومن جهة أخرى، تبرز أمام الصين، كقوة عالمية، فرصة استثمار هذه المرحلة عبر الإسهام في إعادة الإعمار وإحلال السلام وتحقيق التنمية في سوريا والمنطقة بأكملها.

وكذلك أتاحت التغيرات السياسية الجذرية في سوريا، للصين فرصًا جديدة لتعزيز وجودها الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، ولكنها في الوقت نفسه تفرض تحديات جسيمة. ومع تشكيل النظام السوري الجديد، تجد الصين نفسها أمام ضرورة دراسة تأثيرات هذه التغيرات بدقة ووضع استراتيجيات عملية، تحمي مصالحها وتعزّز جهودها الرامية لتحقيق السلام والتنمية الإقليمية.

بدايةً.. يشكّل قيام النظام الجديد في سوريا فرصة للصين لتوسيع نفوذها الدبلوماسي. فمنذ وقت طويل، تبنت الصين مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، مؤكّدة على احترام السيادة الوطنية ووحدة الأراضي. وفيما يتعلّق بالأزمة السورية، لطالما دعت الصين إلى الحوار السياسي كوسيلة لحلّ النزاعات، ورفضت أي تدخّل عسكري خارجي. وهذا الموقف أكسبها تقديرًا على الصعيديْن الشعبي والدولي. فبعد تأسيس النظام الجديد، يمكن للصين البناء على هذه السمعة لتعزيز دورها في دعم قبول النظام الجديد دوليًا ودفع سوريا إلى استعادة موقعها في النظامين الإقليمي والدولي.

وعلى صعيد آخر، تمثل العلاقات الاقتصادية محورًا رئيسيًا لتطوير التعاون بين الصين والنظام السوري الجديد. فقد ألحقت سنواتُ الحرب الداخلية أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية وإمدادات الطاقة والخدمات العامة في سوريا، ممّا يجعلها بحاجة ماسّة لدعم خارجي في جهود إعادة الإعمار. وهنا تبرز الشركات الصينية كطرف قادر على تلبية هذه الاحتياجات عبر توفير حلول في مجالات النقل والطاقة والاتصالات، ضمن إطار مبادرة "الحزام والطريق". كما يمكن للصين أن تقدّم دعمًا في قطاعات الزراعة والصحّة والتعليم، ممّا يسهم في تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية في سوريا، ويعزّز من صورة الصين الإيجابية لدى الشعب السوري ويعمّق نفوذها الاقتصادي في المنطقة.

لكن هذه التطوّرات لا تخلو من التحديات؛ فالنظام السوري الجديد يُواجه تعقيدات داخلية متعلّقة بالانقسامات الطائفية والقومية التي لم تندمل بعد. كما أن التحديات الخارجية لا تزال قائمة، حيث قد تسعى قوى إقليمية ودولية، مثل إسرائيل وبعض الدول الغربية، للتأثير على توجّهات النظام الجديد أو زعزعة استقراره. وفي ظل هذه المعطيات، ينبغي على الصين أن تبقى متيقظة للمخاطر الجيوسياسية المتزايدة، وتتجنّب التورّط في صراعات إقليمية، مع تقديم دعم بناء يسهم في استقرار سوريا.

وللتعامل مع هذه الفرص والتحديات، يتعين على الصين تبني استراتيجية شاملة متعددة المستويات. ومن الضروري أن تعمل أولًا على تعزيز الاعتراف الدولي بشرعية النظام السوري الجديد من خلال دعم الجهود المبذولة في الأمم المتحدة والمنصات المتعددة الأطراف الأخرى لتوفير الدعم الدولي لإعادة الإعمار وإحلال السلام في سوريا. ومن خلال التركيز على التعددية والتعاون الدولي، يمكن للصين أن تؤدي دورًا بناءً يبرز صورتها كقوة مسؤولة، تسعى لخدمة المصالح المشتركة وتعزيز الاستقرار والتنمية في المنطقة.

ثانيًا: يجب على الصين تعميق العلاقات الثنائية مع النظام السوري الجديد؛ ففي المجال الاقتصادي، تستطيع الصين أن تدعم إعادة إعمار سوريا في مجالات حيوية مثل الطاقة والنقل والزراعة من خلال تعزيز الاستثمارات والتعاون التقني. وفي المجال الأمني، يمكن للصين التعاون مع سوريا في مكافحة الإرهاب، ممّا يسهم في تحقيق السلام والاستقرار الإقليمي. وبالإضافة إلى ذلك، يُوصى بتعزيز التبادل الثقافي والتعاون التعليمي بين البلدين، ممّا يسهم في تعزيز التفاهم والصداقة بين الشعبين، ويمهد الطريق لتنمية مستدامة للعلاقات الثنائية.

وفي الوقت ذاته، يجب على الصين تعزيز التنسيق والتعاون مع الدول المجاورة لسوريا. فروسيا وإيران وتركيا تمتلك تأثيرًا كبيرًا على القضية السورية في ظل الوضع الإقليمي الراهن. ويمكن للصين من خلال الحوار والتعاون مع هذه الدول أن تسهم في دعم النظام السوري الجديد، وتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة. وعلى وجه الخصوص، يمكن للصين أن تلعب دور المنسّق في قضايا أمن الحدود السورية وإعادة توطين اللاجئين، ممّا يساعد على تحقيق توافق بين الأطراف المعنية.

إضافة إلى ذلك، يجب على الصين أن تحافظ على قنوات الحوار مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لتجنب تحول القضية السورية إلى ساحة جديدة للمواجهة الجيوسياسية بين الشرق والغرب. وفي هذا السياق، تستطيع الصين من خلال التركيز على المصالح المشتركة، وخاصّة في مجالات مكافحة الإرهاب ومعالجة أزمة اللاجئين، أن تحشد دعمًا أوسع من المجتمع الدولي.

وأخيرًا، ينبغي على الصين أن تولي اهتمامًا كبيرًا للتحديات الداخلية التي يواجها النظام السوري الجديد، وأن تقدّم الدعم المناسب في هذا الصدد. فالتنوع الاجتماعي في سوريا يتطلب من النظام الجديد اعتماد سياسات شاملة تضمن التوافق والتعايش بين مختلف المكونات. ويمكن للصين أن تشارك سوريا خبراتها في مجال الحوكمة والإدارة، وتدعم جهودها في بناء القدرات بمجالات التدريب البشري والإدارة العامة وتقديم الخدمات الاجتماعية. هذه الجهود لا تسهم فقط في تحقيق الاستقرار الداخلي في سوريا، بل تُظهر أيضًا دور الصين الإيجابي في الشؤون الدولية.

وفي المجمل، يشكل قيام النظام السوري الجديد فرصة غير مسبوقة للصين لتعزيز استراتيجيتها في الشرق الأوسط، لكنه في الوقت ذاته يفرض تحديات جديدة على سياساتها الخارجية والأمنية. فمن خلال التعاون المتعدد الأطراف، والدعم الاقتصادي، والدبلوماسية التنسيقية، وبناء القدرات، يمكن للصين أن تؤدي دورًا بنّاءً في عملية إعادة إعمار سوريا، وتسهم في تحقيق السلام والتنمية في الشرق الأوسط، وتوطيد مكانتها في النظام الدولي. ويتطلّب هذا المسار رؤية استراتيجية متبصرة وسياسات مرنة وفعالة لتحقيق تنمية مشتركة للصين وسوريا والمنطقة بأكملها.

** أستاذ في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية، الصين، ومُترجِّم معروف نقل عددًا من الأدبيات العربية إلى الصينية والأدبيات الصينية إلى العربية.

** يُنشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية - لبنان

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

إنفيديا تطلق رقائق ذكاء اصطناعي أرخص للصين

تعتزم شركة إنفيديا إطلاق مجموعة رقائق ذكاء اصطناعي جديدة للصين بسعر أقل بكثير من الطراز إتش20 الذي تم فرض قيود على تصديره إليها في الآونة الأخيرة وتخطط لبدء إنتاج ضخم في وقت قريب قد يكون يونيو/ حزيران المقبل.

ونقلت رويترز عن مصدرين اثنين أن وحدة معالجة الرسومات ستكون جزءا من أحدث جيل من معالجات الذكاء الاصطناعي من إنفيديا بمعمارية بلاكويل، ومن المتوقع أن يتراوح سعرها بين 6500 و8000 دولار، أي أقل بكثير من سعر إتش 20 الذي يتراوح بين 10 آلاف و12 ألف دولار.

مواصفات الرقائق الجديدة هي دون التي منعت الولايات المتحدة تصديرها إلى الصين (أسوشيتيد) مواصفات أضعف

ويعكس السعر الأقل المواصفات الأضعف واشتراطات التصنيع الأبسط للرقائق الجديدة.

وقال المصدران إن الجهاز سيعتمد على معالج الرسومات آر.تي.إكس برو 6000 دي من إنفيديا، وهو معالج رسومات من فئة الخوادم، وسيستخدم ذاكرة جي.دي.دي.آر7 التقليدية بدلا من ذاكرة ذات نطاق ترددي مرتفع أكثر تقدما.

وأضافا أن إنفيديا لن تستخدم تكنولوجيا التصنيع المتقدمة الخاصة بشركة تي.إس.إم.سي في تايوان التي تتيح وضع شرائح متعددة على الرقاقة الواحدة.

وقال متحدث باسم إنفيديا إن الشركة لا تزال تقيم خياراتها "المحدودة… إلى أن نستقر على تصميم منتج جديد ونحصل على موافقة الحكومة الأميركية، فإننا مستبعدون فعليا من سوق مراكز البيانات في الصين الذي تبلغ قيمته 50 مليار دولار".

إنفيديا تقيّم خياراتها المحدودة في صناعة الرقائق الجديدة الموجهة إلى الصين (الفرنسية)

ولا تزال الصين سوقًا ضخمة لشركة إنفيديا، إذ استحوذت على 13% من مبيعاتها في السنة المالية الماضية، وهذه هي المرة الثالثة التي تضطر فيها إنفيديا إلى تصميم وحدة معالجة رسومية (GPU) لثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد قيود فرضتها السلطات الأميركية التي تسعى جاهدة لعرقلة التطور التكنولوجي الصيني.

إعلان

من المتوقع أن تحافظ وحدة معالجة الرسومات الجديدة من إنفيديا، على الرغم من ضعف قدرتها الحاسوبية مقارنةً بـ H20، على قدرتها التنافسية رغم فقدانها حصة سوقية كبيرة حتى الآن بسبب قيود التصدير. منافسها الرئيسي في الصين هو هواوي، المنتجة لشريحة (أسند 910 بي).

مقالات مشابهة

  • ترامب يوجه ضربة جديدة للصين
  • وزير الخارجية يستقبل المبعوث الأمريكي إلى سوريا ويبحثان خطوات الدعم الشعب السوري
  • أفقر 75 دولة في العالم تسدد ديوناً قياسية للصين
  • الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية مؤسسة لكشف انتهاكات النظام السوري المخلوع
  • المنظمة الدّولية للهجرة: قرارات أمريكا والاتحاد الأوروبي برفع العقوبات عن سوريا تفتح آفاقاً جديدة للتعافي وبناء السلام الإقليمي
  • جليك: الوقوف إلى جانب سوريا والمساهمة في استقرارها أفضل ما يمكن فعله من أجل السلام الإقليمي
  • قروض الحزام والطريق.. 75 دولة نامية تسدّد مبالغ قياسية للصين هذا العام
  • إنفيديا تطلق رقائق ذكاء اصطناعي أرخص للصين
  • اللواء أبو قصرة: نتعاون مع وزارة الداخلية في ملاحقة فلول النظام وضبط السلاح وحصره بيد الدولة ومنع أي تعديات أو تجاوزات على الشعب السوري
  • الصين تطلق أول نظام تشفير كمي متطور غير قابل للاختراق