تاريخ من البشاعة المنكورة
تاريخ النشر: 19th, January 2025 GMT
تاريخ من البشاعة المنكورة
فيصل محمد صالح
اختلطت فرحة كثير من السودانيين بسيطرة الجيش السوداني على مدينة «مدني»، والبدء في عودة الحياة إليها، بحزن كبير وخوف مما ينتظرهم بعد الأحداث الدموية والتصفيات البشعة التي حدثت على نطاق واسع لمدنيين يعيشون في المدينة وما جاورها، بتهمة تعاونهم مع «قوات الدعم السريع» فترة وجودها في المدينة التي استمرت حوالي العام.
لم تفرق الممارسات البشعة والتصفيات بين نساء ورجال وأطفال، وضمت مجموعة ما يعرف بسكان «الكنابي» الذين يعيشون على هامش المدن والقرى الكبيرة، ومواطني جنوب السودان الذين ما زالوا يعيشون هناك، بجانب سودانيين من الوسط والشمال ممن تم تصنيفهم لجان مقاومة وناشطين آخرين لهم موقف ضد الحرب.
الغريب أن الصور الدامية لتلك الأحداث قام بتسجيلها ونقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي جنود ومقاتلون ينتمون للميليشيات المتحالفة مع الجيش، كرسالة تخويف للآخرين. وحملت الفيديوهات عمليات قتل جماعية وتصفيات لمدنيين بعد تحقيق قصير، وإلقاء بعضهم في البحر، وذبح بالسكين، وحرق قرى ومنازل «الكنابي» – ويرجع المصطلح للكلمة الإنجليزية «كامب» بمعنى معسكر، وتم تحريفها ثم تصريفها وجمعها باللهجة العامية. وسكان «الكنابي» هم مجموعات فقيرة ومهمشة، معظمها من دارفور، لها تاريخ طويل من الإقامة في منطقة الجزيرة، فيه قصص تسامح واندماج، مثلما فيه احتكاكات سابقة مع بعض سكان المنطقة المزارعين.
من المخاوف الحقيقية التي قد يحملها سكان مناطق أخرى أنه ليس هناك تعريف دقيق لكلمة «متعاون»، فالمصطلح لا يشير لمقاتلين حملوا السلاح، لكنه يشير لمدنيين «تعاونوا» مع «قوات الدعم السريع». وقد شملت هذه التهمة بائعات الأطعمة والشاي، ولجان الطوارئ التي يعمل فيها شباب يحاولون توفير الخدمات الضرورية لأهلهم، وشملت كوادر طبية عملت في مستشفيات ومراكز صحية كان يتردد عليها جنود «الدعم السريع»، كما شملت، في فيديو شهير من مدينة الدندر، مأذونا تم تقديمه في فيديو وهو تحت الاعتقال بتهمة أنه كان مسؤولا عن ترسيم عقود الزواج لجنود من «الدعم السريع» تزوجوا فتيات بالمنطقة.
لم تكن هذه الحوادث فريدة من نوعها، فقد حدثت حالات مماثلة في المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها في أم درمان ومنطقة الحلفايا في الخرطوم بحري، ثم في مدينتي سنجة والدندر، ولكن كان حجم الأحداث في مدني كبيرا، ووجدت توثيقا لم تجده الحوادث الأخرى.
كان حجم البشاعة صادما جدا، وربما استغرب كثير ممن لديهم انطباع جيد عن الشخصية السودانية لما حدث، وعدوه صورة غير مألوفة أو معروفة، لكنها في الحقيقة هي الصورة الحقيقية لما تحدثه حالة الحرب في نفوس الناس، وقدرة ثقافة الحرب، عندما تسيطر على النفس البشرية، على أن تخرج أسوأ ما فيها.
من ناحية ثانية فقد حملت الحروب السابقة في السودان، سواء كانت حرب الجنوب أو حرب دارفور، أو منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بشاعات مماثلة قتل فيها مدنيون، وأحرقت فيها القرى بنفس تهم التعاون وإيواء المتمردين، لكنها لم تجد التسجيل والتوثيق لبعدها عن الوسط الحضري من ناحية، ولعدم وجود وسائل التواصل الاجتماعي في ذلك الوقت. ورغم أن هناك إشارات إلى تلك الأحداث هنا وهناك، فإنها لم تجد عناية كبيرة من أطراف النزاع بعد اتفاقيات السلام، ومحاولة إيجاد معالجات فردية وجماعية لها عبر تجارب بلدان أخرى مثل لجان الحقيقة والمصالحة وآليات العدالة الانتقالية. فقد حملت اتفاقيات السلام الشامل (2005) مواد عن المصالحة ومعالجة الجراح والعدالة الانتقالية، ونفس الأمر حدث مع اتفاقيات السلام في دارفور في أبوجا (2007) ثم في الدوحة، ثم الوثيقة الدستورية (2019).
تبدو البشاعة والجريمة اللتان تحدثان أثناء الحرب بلا أب، ينكر الجميع نسبتهما إليهم، لكنهما في الحقيقة مسؤولية الجميع، مع تفاوت حجم المسؤولية. الجنود والمقاتلون الذين ارتكبوا هذه المجازر لديهم مسؤولية مباشرة، كذلك القيادات الكبيرة في الجيش و«الدعم السريع» والحركات المسلحة مسؤولون ويستحقون المحاكمة، والكيانات السياسية التي تتنازل في كل مرة عن حقوق الضحايا ويمر المجرمون بلا عقاب لديها أيضا مسؤولية تاريخية.
لم يكن هناك اهتمام حقيقي بمعالجة هذه الأحداث في الماضي، بما يضمن محاسبة الجناة وترسيخ سياسة عدم الإفلات من العقاب ومعالجة وإبراء الجراح، لذلك سهل تكرارها في مرات كثيرة بروح مطمئنة بأن النجاة من المحاسبة مضمونة.
*نقلا عن “الشرق الأوسط”
الوسومالجيش السوداني ود مدنيالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الجيش السوداني ود مدني
إقرأ أيضاً:
المملكة المتحدة تعلن فرض عقوبات على كبار قيادات قوات الدعم السريع
أعلنت المملكة المتحدة اليوم فرض عقوبات على كبار قيادات قوات الدعم السريع المشتبه بأنهم ارتكبوا أعمال عنف بشعة في الفاشر في السودان، بما فيها عمليات قتل جماعي، وعنف جنسي ممنهج، وتعمّد الاعتداء على مدنيين.
من بين المستهدفين بهذه العقوبات عبد الرحيم حمدان دقلو، أخو ونائب قائد قوات الدعم السريع الفريق أول حميدتي، إلى جانب ثلاثة آخرين من القيادات الذين يُشتبه بضلوعهم في هذه الجرائم – وجميعهم الآن يواجهون تجميد أرصدتهم ومنع قدومهم إلى المملكة المتحدة.
أخبار متعلقة زلزال بقوة 6.7 ريختر يضرب شمال شرق اليابانوزيرا دفاع أمريكا واليابان: تصرفات الصين لا تساعد على السلام الإقليميأفعال قوات الدعم السريع في الفاشر ليست عشوائية: بل هي جزء من استراتيجية متعمدة لترهيب السكان وبسط السيطرة عن طريق الخوف والعنف. وآثار أفعالهم يمكن مشاهدتها من الفضاء. حيث تُظهر صور الفاشر التي التقطت من الفضاء الرمال مخضّبة بالدماء، وأكوام جثث، وما يدل على وجود قبور جماعية دفنت بها جثث الضحايا بعد حرقها. لا بد من المحاسبة عن هذه الأفعال، واتخاذ خطوات عاجلة للحيلولة دون حدوثها مرة أخرى.رسالة إنذار بالمحاسبةإن فرض عقوبات على قيادات قوات الدعم السريع الذين يُشتبه بضلوعهم في أعمال القتل الجماعي والعنف الجنسي في الفاشر يرسل رسالة واضحة بأن كل من يرتكب فظائع سوف يُحاسَب عن أفعاله. وذلك يجسد التزام المملكة المتحدة بمنع ارتكاب مزيد من الفظائع.
كذلك سوف ترصد المملكة المتحدة مبلغا إضافيا قدره 21 جنيه إسترليني لتقديم حزمة من الدعم العاجل لمساعدة المجتمعات التي باتت على حافة الهاوية، لتوفير المواد الغذائية والماء النظيف والرعاية الصحية، وكذلك الحماية للنساء والأطفال في المناطق الأكثر تضررا بسبب العنف.
شريان الحياة هذا سوف يمكّن وكالات الإغاثة من الوصول إلى 150,000 شخص، وتوفير احتياجاتهم الأساسية كالغذاء والرعاية الطبية والمأوى الطارئ، إلى جانب الحفاظ على استمرار تقديم الخدمات في المستشفيات، ولم شمل العائلات التي فرقت شملها الحرب. وقد ارتفعت التزامات المملكة المتحدة بشأن المساعدات المقدمة هذه السنة إلى 146 مليون جنيه إسترليني، الأمر الذي يجسد التزامنا الراسخ بالوقوف مع الشعب السوداني وتلبية الاحتياجات الإنسانية.ضغط لإنهاء الحربتضغط المملكة المتحدة على جميع الأطراف لإنهاء الحرب وحماية المدنيين، وأدانت مرارا وتكرارا العنف الذي ترتكبه قوات الدعم السريع وقوات الجيش السوداني. وفي وقت سابق من الشهر الجاري، تبنى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارا مقدما بقيادة المملكة المتحدة أدان الفظائع، وحشد الإجماع الدولي حول التكليف بإجراء تحقيق عاجل في الفظائع التي ارتُكبت في الفاشر.
والتزامنا يذهب إلى أبعد من الدبلوماسية: حيث تقدم المملكة المتحدة الدعم الفني لآليات العدالة الدولية والمحاسبة، كما استثمرنا هذه السنة 1.5 مليون جنيه إسترليني في مشروع ’شاهد السودان‘ لرصد انتهاكات حقوق الإنسان، بما فيها الاعتداءات على المدنيين، والتحقق منها وتوثيقها.
كما نبحث إمكانية فرض مزيد من العقوبات في سياق جهودنا لإنهاء الحصانة من العقاب، ولنبيّن بأن من يرتكبون الفظائع سوف يُحاسبون.وضع إنساني متدهورالمملكة المتحدة تعجّل في استجابتها للأزمة التي تزداد عمقًا في السودان – وتعمل بكل حزم لإنقاذ الأرواح. فالوضع الإنساني في السودان هو الأسوأ في العالم، حيث 30 مليون شخص في حاجة ماسة للمساعدة. كما اضطر 12 مليون آخرين للنزوح عن ديارهم. وانتشرت المجاعة والأمراض التي يمكن تفاديها.
كذلك نحو 5 ملايين لاجئ سوداني فروا من البلاد إلى المنطقة. بعضهم يواجهون خطر وقوعهم فريسة للمهربين وعصابات التهريب. والمملكة المتحدة تقدم الدعم للاجئين في المنطقة للمساعدة في إثنائهم عن الشروع برحلات محفوفة بالخطر.
ندعو جميع أطراف الصراع للسماح بمرور موظفي الإغاثة الإنسانية والإمدادات والمدنيين المحاصرين بلا عقبات.