القتل على أساس الهوية في السودان
تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT
د. الشفيع خضر سعيد
كل الشواهد تقول إن السودان اليوم يسير سيرا حثيثا على خطى مثلث الرعب الرواندي قبل أن تستعيد رواندا عافيتها. فالحرب الدائرة الآن فيه، تتجه لتسودها جرائم القتل على أساس الهوية الإثنية، كما شهدنا في مدينة الجنينة والعديد من مناطق ولايات دارفور وكردفان، ونشهد اليوم في مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة والمناطق التي يسكنها العمال الزراعيون في الولاية وتسمى «الكنابي».
ومع الإشارة، بدون تعليق مؤقتا، إلى أن سيطرة قوات الدعم السريع على عاصمة ولاية الجزيرة ومدن وقرى الولاية الأخرى تمت بدون مقاومة تذكر مما أثار غبارا كثيفا من الشكوك لم ينجل حتى اللحظة، فإن سكان الولاية، ولما يقرب من العام، ظلوا يذوقون الأمرين من هذه القوات تنكيلا وقتلا ونهبا واغتصابا. لذلك، كان طبيعيا أن يتنفس سكان الولاية الصعداء ويعم الفرح أهل السودان بعد أن استعاد الجيش السوداني سيطرته على مدينة ود مدني. لكن الفرحة أفسدتها الانتهاكات البشعة وذات الطابع العنصري التي حدثت في المدينة ووسط سكان «الكنابي» بعد إحكام الجيش سيطرته على المنطقة. وإذا كان السودانيون لا يتوقعون ولا ينتظرون سوى الانتهاكات الجسيمة التي تطال أمنهم وكرامتهم مع سيطرة قوات الدعم السريع على مناطقهم، فإنهم ظلوا يرومون التخلص من هذا الكابوس المرعب، وينشدون الأمن والأمان مع استعادة سيطرة القوات المسلحة السودانية على هذه المناطق، لا أن تتواصل الانتهكات على مرأى ومسمع من قيادات هذه القوات، مهما كانت التهم الموجهة إلى من تم ذبحهم ذبح الشاة أو ألقي بهم في النهر لتلتهمهم التماسيح. فأخذ القانون باليد هو جريمة أيضا، وعامل يعمق الشروخ في مجتمع يحتاج بشدة إلى الوحدة والتماسك. والانتهاكات التي تطال المدنيين وترتكب خارج قواعد الاشتباك، هي جرائم يجب ألا تمر دون عقاب. والتغاضي عنها والإفلات من العقاب سيزيد من اشتعال نيران الحرب ويخدم مصالح الجهات التي تسعى إلى دفع الحرب نحو صراعات جهوية وإثنية من شأنها تمزيق البلاد.
وإذا كان معروفا أن أحاديث قيادات الدعم السريع حول أن الجرائم المنسوبة إلى قواتهم هي من فعل مجموعات متفلتة، وأنهم شكلوا لجانا لمحاسبة هولاء المتفلتين، هي مجرد فقاعات هوائية، فإن الانتهاكات التي تمت بعد استعادة القوات المسلحة السودانية سيطرتها على مدينة ود مدني هي جرائم لا يمكن السكوت عليها، وتستوجب أن تتحمل قيادة القوات المسلحة السودانية المسؤولية القانونية والأخلاقية حيالها. صحيح أن هذه القيادة أصدرت بيانا استنكرت فيه هذه الجرائم وشكلت لجنة تحقيق حولها، ومع ذلك يظل المطلب الرئيسي هو المحاسبة العاجلة والعادلة، وبشكل شفاف ومعلن، لكل المتورطين فيها. وفي نفس الوقت نرى ضرورة الإسراع في نشر أفراد الشرطة والأجهزة المدنية لإنفاذ القانون في كافة المناطق التي يستعيد الجيش سيطرته عليها، وضمان الفصل بين العناصر العسكرية النظامية ومجموعات المستنفرين وبين التعامل المباشر مع المواطنين، وأن يكون هذا التعامل وفق ما يضمن سيادة القانون وإنفاذه بفعالية وعدالة. وعموما، نحن لن نتوقف عن القول بأن الحرب المشتعلة اليوم في السودان، هي جريمة تستوجب المساءلة والعقاب. وأن من ينفخ في كيرها ويزكي نيرانها ويوجه دفتها، هم من أعمى الحقد بصرهم وبصيرتهم بعد أن أطاحت بهم ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 بقوة حراكها السلمي وطردتهم شر طردة تصحبهم اللعنات، فتمكنت منهم الرغبة في الانتقام من الشعب والوطن، فصموا آذانهم عن صوت العقل، وظلوا مستمسكين بمطامعهم الأنانية ومسترخصين حياة المواطن، وصمموا أن يعودوا إلى كراسي الحكم ولو على حساب دم الشعب المسفوح وفوق جماجم الوطن. هي حرب لن ينتصر فيها طرف، وإن هُزم الطرف الآخر، ولكن قطعا الخاسر فيها والضحية هو الشعب السوداني وبلاده.
إن تحقيق السلام المستدام وإعادة رتق النسيج الاجتماعي وإصلاح الشروخ التي خلفتها صراعات الموارد والسلطة، يتطلب صياغة وإنجاز مشروع وطني يحارب التهميش ويحقق التنمية المتوازنة ويعيد بناء مؤسسات الدولة السودانية
صحيح أن استعادة الجيش السوداني سيطرته على مدينة ود مدني تمثل تحولا نوعيا من الزاوية الاستراتيجية العسكرية. لكن التحولات العسكرية، مهما كانت حاسمة، لن تكون وحدها كافية لإنهاء الحرب التي أنهكت البلاد ومزقت نسيجها الاجتماعي. فهذه الحرب أعمق من مجرد صراع عسكري بين أطراف تتنازع حول السلطة، وهي تستغل أزمة وطنية تتغذى جذورها بالتهميش الناتج من التنمية غير المتوازنة والتوزيع غير العادل للموارد والسلطة. وأن وقف الحرب بشكل نهائي في السودان لا يمكن أن يتحقق بمجرد انتصارات عسكرية أو معارك على الأرض، بل يتطلب في المقام الأول مخاطبة هذه الجذور، مثلما يشترط التوقف عن استثمار الانقسامات العرقية والجهوية التي أضرت بالبلاد والكف عن تغذيتها لصالح مشاريع سياسية منتهية الصلاحية. إن تحقيق السلام المستدام وإعادة رتق النسيج الاجتماعي وإصلاح الشروخ التي خلفتها صراعات الموارد والسلطة، يتطلب صياغة وإنجاز مشروع وطني يحارب التهميش ويحقق التنمية المتوازنة ويعيد بناء مؤسسات الدولة السودانية، المدنية والعسكرية، على أسس جديدة تضمن العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية والاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي، بما يحقق إعادة صياغة الهوية السودانية على أساس المصالح المشتركة. وهذا هو الحلم الكبير الذي حملته ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة بكل ألقها وعنفوانها، حين هتف الثوار حرية سلام وعدالة، وكل البلد دارفور، وأن مستقبل السودان يتطلب تجاوز أي نظرة ضيقة أو السعي نحو المصالح الذاتية إلى الانطلاق نحو هذا المشروع الوطني الجامع. هذه الثورة العظيمة تمثل نقطة تحول فارقة في تاريخ السودان الحديث، وهي البوصلة التي ينبغي أن يهتدي بها حراكنا اليوم.
السودانيون، بكل أطيافهم ومشاربهم، يستحقون وطنًا يُحترم فيه الإنسان وتُصان فيه كرامته، وتعلو فيه قيمة المواطنة. لكن هذا لن يتحقق إلا بقيادة واعية تدرك أن المستقبل لا يمكن أن يُبنى على عداءات الماضي، بل على أساس المصالحة الوطنية ووحدة البلاد، وتؤمن بأن هذا الهدف ليس مجرد ضرورة سياسية، بل هو أيضًا واجب أخلاقي تجاه شعب ظل يعانى طويلًا.
نقلا عن االقدس العربي
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مدینة ود مدنی على أساس
إقرأ أيضاً:
"الكوليرا في زمن الحرب".. ألف حالة يوميا بالخرطوم وتحذيراتٌ من كارثة محقّقة
تواجه السودان أزمة كوليرا متفاقمة مع تسجيل أكثر من 1000 حالة يوميًا في الخرطوم، البؤرة الرئيسية للوباء. وسط دمار الحرب، انهيار البنية التحتية، وشح المياه النظيفة، يحذر الأطباء من انتشار سريع للمرض بين النازحين والمناطق المكتظة. اعلان
وسط دمار شامل ناجم عن الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين، يواجه السودان واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية التي تهدد حياة الملايين. ففي ظل تدهور الخدمات الأساسية وتوقف أكثر من 80% من المستشفيات، تتفاقم جائحة الكوليرا بسرعة مذهلة، لتتحول العاصمة الخرطوم إلى بؤرة رئيسية للوباء.
وأفادت السلطات الصحية بأن عدد حالات الإصابة بالكوليرا في الخرطوم تجاوز 1000 حالة يوميًا، مما يجعلها البؤرة الرئيسية لانتشار المرض.
وقال نيكولا جان، رئيس بعثة منظمة أطباء بلا حدود (MSF) في السودان : "الوضع الحالي لوباء الكوليرا سيء جدًا، خاصة في الخرطوم التي أصبحت بؤرة تفشي المرض. لقد شهدنا موجة كوليرا ارتفعت بشكل سريع خلال أيام قليلة، حتى بلغ عدد الإصابات المئات، بل وحتى تجاوزت ألف حالة يوميًا في الخرطوم."
وأرجع جان سبب التفشي إلى "آثار الصراع على نظام المياه وعلى النظام الصحي وعلى نظافة المواطنين"، مشيرًا إلى أن "الكثير من الناس تشردوا مرارًا وتكرارًا، ولم يجدوا ملجأ أو حتى منزلًا، واضطروا للعيش في مراكز إيواء مكتظة. هذا الاختلاط، ونقص المياه، وسوء النظافة، وعدم الوصول إلى الرعاية الصحية كلها عوامل ساعدت على انتشار المرض وجعلت من الصعب السيطرة عليه."
Relatedالكوليرا تعصف بالسودان: 172 حالة وفاة خلال أسبوع وسط انهيار صحيالسودان: الدعم السريع تقصف مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان ومليون طفل معرض للكوليرارئيس وزراء السودان الجديد يرفع السقف: لا أمن بلا إنهاء التمرّدوسجلت وزارة الصحة السودانية حالات في مدينة أم درمان، وكذلك في ولايات كردفان الشمالية وسنار والجزيرة والنيل الأبيض والنيل. وقد كانت كلتا المدينتين الخرطوم وأم درمان ساحتي قتال طوال الحرب، ما أدّى إلى نزوح معظم السكان.
مع استعادة الجيش السيطرة على المنطقة من قوات الدعم السريع في نهاية مارس الماضي، بدأ نحو 34 ألف شخص في العودة إلى ديارهم، لكنهم وجدوا مدنًا مدمرة، ومنازل مهترئة، وبنية تحتية منهارة.
وقال أحد سكان الخرطوم العائدين بعد الهجرة : "منذ عودتنا إلى هنا، لم نجد طريقة للحصول على مياه الشرب سوى من النهر. نستخدم شاحنات لجلب المياه، ثم نملأ بها الحاويات أو البراميل، ونتركها لفترة قصيرة، ثم نضعها في أواني الشرب ونشرب منها."
وروت إحدى السيدات: "بعد شهرين أو ثلاثة من الحرب، توقفت إمدادات المياه تمامًا، والكهرباء تنقطع ثم تعود، لكن المياه توقفت بشكل كامل. الأمر يفوق أي جهد، وفي الوقت الحالي هناك الكثير من المعاناة."
وأرجعت اليونيسيف سبب نقص المياه النظيفة إلى تدمير محطات توليد الكهرباء، مما أدى إلى تعطل مضخات المياه. كما تعرضت أنظمة الصرف الصحي لأضرار بالغة، مما زاد من خطر انتشار الأمراض.
ويشير الدكتور سيد محمد عبدالله من اتحاد الأطباء السودانيين إلى أن "أكثر من 80% من المستشفيات غير قادرة على العمل، بينما تعاني تلك التي ما زالت تعمل من نقص المياه والكهرباء والأدوية." وهو ما يجعل الاستجابة الطبية للوباء صعبة للغاية.
ووصفت منظمة الصحة العالمية الكوليرا بأنها "مرض الفقر"، إذ تنتشر في المناطق التي تعاني من ضعف البنية التحتية الصحية ونقص المياه النظيفة. وهو مرض إسهالي ينتج عن تناول طعام أو ماء ملوث ببكتيريا الفيبريو كوليرا، ويمكن علاجه بسهولة باستخدام محلول إعادة الترطيب والمضادات الحيوية.
ويواجه العالم اليوم نقصًا حادًا في اللقاحات، حيث انخفض مخزون منظمة الصحة العالمية العالمي من لقاح الكوليرا الفموي دون الحد الأدنى البالغ 5 ملايين جرعة، مما يزيد من صعوبة السيطرة على الجائحة.
ويرزح السودان تحت وطأة الحرب الأهلية منذ أبريل 2023، عندما تحولت التوترات بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى معارك عنيفة منتشرة في جميع أنحاء البلاد. أُبلغ عن مقتل 24 ألف شخص على الأقل، رغم أن الرقم الحقيقي قد يكون أعلى بكثير. وتم تهجير أكثر من 14 مليون شخص من منازلهم، بما في ذلك أكثر من 4 ملايين فروا إلى الدول المجاورة. وأُعلنت مجاعة في خمس مناطق على الأقل، وكان مركزها الرئيسي هو إقليم دارفور المدمّر.
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة