لا تبكوا الشهداء، بل امسحوا دموعكم لتكملوا الطريق الذي رسموه بدمائهم- غسان كنفاني.
في سيرته الذاتية «سبعون»، يسرد ميخائيل نعيمة، الأديب والمفكر اللبناني وأحد أعمدة النهضة الحديثة في العالم العربي، تجربته مع الخدمة العسكرية أثناء الحرب العالمية الأولى. يصف كيف أُرسل من قِبَل الجيش الأمريكي إلى الخطوط الأمامية في اليوم الأخير من الحرب، في وقتٍ كانت فيه المفاوضات جارية لوقف إطلاق النار.
كانت الأوامر واضحة: «تمركزوا في مواقعكم حتى اللحظة الأخيرة.» أمضى ميخائيل نعيمة ليلته في حفرة رطبة تحت وابلٍ من القصف المستمر، غارقًا في تأملات عميقة حول عبثية الحروب. تساءل بحسرة: لو أن الحرب انتهت قبل ساعة واحدة فقط، لكان الجندي الأخير قد نجا. بدت له أرواح الجنود وكأنها مجرد أرقام في سجلات الحرب، لا حيواتٍ نابضة تستحق أن تُعاش.
أدرك نعيمة في تلك الليلة أن الحرب لا تلفظ أنفاسها الأخيرة إلا بعد أن تقدم قربانها الأخير: الجندي الذي يُختصر في سقوطه كل مآسي الحرب وكأن موته هو الختم الأخير الذي لا غنى عنه. موتٌ كان بالإمكان تفاديه. ختم نعيمة تأملاته بكلمات مؤثرة: «الحرب لا تنتهي بالنصر، بل تنتهي بآخر شهيد يسقط. وكل شهيد هو نداءٌ لنا كي لا ننسى إنسانيتنا.»
ولكن هنا، في فلسطين، وفي الأيام الأخيرة للحرب، انكشف مشهد أشد قسوة ووحشية. فبعد إعلان الهدنة، ارتكب الصهاينة مجازر مروّعة، راح ضحيتها أكثر من مئة فلسطيني في اليوم الأخير وحده. لم يكتفوا بذلك، بل هدموا عشرات المنازل، متحدّين الاتفاق على وقف إطلاق النار. ظهرت مشاهد صادمة لجندي صهيوني وهو يسرق جرة غاز من بين أنقاض أحد المنازل التي فجّروها للتو. ولم تتوقف وحشيتهم عند هذا الحد، إذ تحوّلوا إلى قنص الأطفال وهم في طريقهم للعودة إلى منازلهم. حتى في آخر لحظات الحرب، لم يشبعوا نهمهم بالقتل والدمار.
هذا المشهد يحمل دلالة واضحة لا لبس فيها: الكيان الصهيوني لم يكن يدافع عن نفسه، كما يروج الغرب في دعاياته، بل نفذ إبادة جماعية مدفوعة بالكراهية والأيديولوجيات الدينية المتطرفة. كانت جرائمه شاهداً على حقيقة أهدافه، التي تتجاوز مجرد الصراع العسكري إلى محاولة طمس وجود شعبٍ بأكمله.
آخر الشهداء هم الأشد إيلامًا على القلب، فهم الشهود الصامتون على وحشية الاحتلال التي تجاوزت كل الحدود. أولئك الذين رحلوا وابتسامات الأمل ما زالت ترتسم على وجوههم.
يحملون في قلوبهم حلمًا بمستقبل أجمل لوطنهم. هرعوا مسرعين نحو أطلال بيوتهم، يتطلعون إلى لقاء من تبقى من أحبتهم، ليكون الموت في انتظارهم. ما أشد ألم الفراق حين يظن الأحباء أن الاحتلال قد شبع من دمائهم، ليعود مرة أخرى ويسرق من بينهم من يحبون. إنها صدمة تفوق حدود الوصف، ألمٌ لا يضاهيه ألم، وخسارة تمزق الروح وتفوق كل الخسارات.
الدستور الأردنية
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الشهداء الاحتلال غزة الاحتلال الشهداء وقف العدوان مقالات مقالات مقالات سياسة رياضة مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
الاحتلال يقتحم بيت عزاء الشهيد الهذالين ويعتقل ناشطتين شرق يطا
يطا - صفا
اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء الثلاثاء، بيت عزاء الشهيد عودة الهذالين في خربة أم الخير جنوب شرق بلدة يطا بمحافظة الخليل، واعتدت على المعزّين، وأعلنت المنطقة عسكرية مغلقة، في تصعيد جديد يستهدف التجمعات البدوية في مسافر يطا.
وأفاد الناشط اسامة مخامرة بأن جنود الاحتلال اقتحموا المكان بعنف، وطردوا المواطنين بالقوة، كما قاموا باعتقال ناشطتين أجنبيتين كانتا تتواجدان في المكان للتضامن مع عائلة الشهيد.
وأعلنت قوات الاحتلال المنطقة "منطقة عسكرية مغلقة"، ومنعت دخول المواطنين إلى الخربة، بما في ذلك نشطاء وممثلي مؤسسات حقوقية كانوا في طريقهم للمشاركة في العزاء.
ويأتي هذا الاقتحام بعد استشهاد المعلم والناشط الحقوقي عودة الهذالين برصاص أحد المستوطنين أمس، خلال محاولته التصدي لاقتحام وجرف أراضي المواطنين في الخربة.
وفي السياق ذاته، استأنف مستوطنون مساء اليوم أعمال الحفر الاستيطانية في خربة أم الخير، تحت حماية مشددة من قوات الاحتلال، في خطوة تهدف إلى توسيع مستوطنة "كرميئيل" المقامة على أراضي المواطنين، وسط محاولات مستمرة لفرض واقع استيطاني جديد على حساب الوجود الفلسطيني البدوي في المنطقة.