اعتدت منذ سنوات طويلة أن أجلس فى الركن القصى من المقهى، طاولة صغيرة ذات أرجل نحيفة خشبية، وكرسى صغير تتوسط ذراعه لوحة نحاسية صغيرة مكتوب عليها بخط كوفى «ستأتى غريبًا وترحل غريبًا»، لم أهتم يومًا بمعرفة من دشنها.
ركن المقهى يريحنى بإضاءته الخافتة التى تأتى من أشعة الشمس المتسللة باستحياء من فتحات المشربية الضيقة، فضلًا عن انعزاله قليلًا عن باقى رواد المقهى القابع بجوار بوابة السلامة الضخمة، والمواجه لرصيف المحطة.
صخب القطارات ما عاد يزعجني، كم من مرات ذاكرتى لا تسعفنى لحصرها أمسك بيمينى سبحة من الفيروز مكتوبًا على حباتها بخط منمنم أسماء الله الحسنى، ووردة حمراء، وفى اليد الأخرى منديلًا من الحرير مطرزًا ببيت شعر صوفى أحفظه عن ظهر قلب أردده بصوت خفيض: «لست أمامى ولكنك كل ما أرى»؛ لكى أودع بها رفيق رحلة أو حبيبًا قريبًا من القلب.
يستقل قطارات المحطة الذاهبة بعيدًا العابرون من كل عمر ومذهب ودين، منهم من يلوح بيده مبتسمًا فرحًا برحلته الأخيرة، ومنهم من يذوب فى الزحام فى محاولة للاختباء لعله يصبح نسيًا منسيًا.
فتحت عينى ببطء شديد، وأخذت أعتدل فى جلستى وأضبط هيئتى السوداء، وأتذكر رويدًا رويدًا ما حدث بالأمس.. فبكيت بحرقة على رفيق عمرى يسرى شبانة.. من كان فى عينى ومازال نجم النجوم فى قسم الحوادث فى جريدة الوفد، ومن أهدانى أجمل زهرتين فى حياتي: أحمد ودينا.. يا الله! هل رحل حقًا وتركني؟!
من سيأتى فى المساء ليهدينى أزهار الفل البيضاء التى زرعتها فى روف بيتنا؟ الزهور تموت مع أصحابها فلم يعد للفل معنى.
قبل رحيله بثلاثة أيام فقط أيقظنى لصلاة الفجر معه، لم أعرف وقتها أنها الصلاة الأخيرة والود الأخير والكلمات الأخيرة.
يهرول نادل المقهى مسرعًا باتجاهى ويدعو لى مبتسمًا بسلامة العودة قائلًا: رواد المقهى قلقون عليكِ، وهناك من أحبابك من يأتى كل فترة لكى يسأل عنكِ، أربعة عشر شهرًا وأنت هنا.. الله يرحم حبيبك كان وداعه يومًا مشهودًا، كل من كان فى المحطة بكى عليه، اخرجى يا بنيتي، فأحمد ودينا ينتظران كل يوم أن تفتحى عينيك وتكملى معهما الطريق بالخارج، اذهبى، مربتًا على كتفى محدثًا نفسه: «ستأتى غريبًا وترحل غريبًا».
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: اشعة الشمس غریب ا
إقرأ أيضاً:
«النهر المحترق».. ديوان شعرى يشارك فى معرض فنزويلا الدولي للكتاب
أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، ديوانًا شعريًا بعنوان "النهر المحترق" للشاعر الفنزويلي خورخي رودريغيث غوميث، بترجمة وتقديم الدكتور خالد سالم، وذلك ضمن استعدادات مشاركة مصر كضيف شرف في معرض فنزويلا الدولي للكتاب في دورته المقبلة.
يمثل الديوان تجربة إنسانية عميقة في رثاء الأب، حيث يسكب الشاعر أحزانه وألمه على صفحات القصائد، مستعينًا برمزية "النهر الذي التهمته النيران" ليعبر عن الفقد والموت والحزن. وتنعكس في قصائد الديوان مرآة لمأساة إنسانية تتجلى في موت الأب، إذ تتحول ليالي الجمعة إلى محطات ألم، وتأتي صباحات السبت باكية أمام جلال الموت وسكونه.
يحاور الشاعر الطبيعة بكل تجلياتها، ليسقط ألمه على النهر، والطيور، والشجر، ليخلق مشاهد حية تعكس الحزن والحنين والفقد، لكنها في الوقت ذاته تحمل ومضات من الأمل، فكما ينبثق القمر من العتمة، يبعث الشاعر برسالة رجاء وسط الحزن، توازي ما تمر به فنزويلا من أزمات وصراع من أجل السيادة والاستقلال في مواجهة قوى الاستعمار.
ويحمل النص بين طياته أصداء الواقعية السحرية التي ميزت أدب أمريكا اللاتينية، حيث يبحث الابن عن والده وسط رموز الموت والحياة، في مشهد حلمي ممتد دون الحاجة إلى استرجاع زمني، على غرار ما جسده الروائي المكسيكي خوان رولفو في روايته "بدرو بارامو".
بهذا الديوان، تُبرز هيئة الكتاب عمق التبادل الثقافي بين مصر وفنزويلا، وتُسهم في تعزيز الحوار الأدبي الإنساني ضمن فعاليات معرض فنزويلا الدولي للكتاب.
الشاعر خورخي رودريغيث غوميث، شغل مناصب رفيعة، في فنزويلا من بينها، نائب رئيس الدولة ووزيرالإعلام والاتصالات، واليوم شغل منصب رئاسة الجمعية العامة، قمة السلطة التشريعية في فنزويلا، ضمن مسار الشعب والدفاع عن حقه في الحياة والسلم وتطوير بلده تحت قيادة الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، وريث خط سلفه أوغو تشابيث.