جهاز المخابرات.. الحصان الرابح في معركة الكرامة
تاريخ النشر: 28th, January 2025 GMT
لا تتناطح عنزان في الدور الكبير والمحوري الذي لعبه جهاز المخابرات العامة في معركة الكرامة، ويكفيه فخراً أن عناصره تمترسوا في الدفاع عن مقرهم بموقف شندي طيلة ٢١ شهراً أذاقوا فيها المليشيا صنوفاً من الرعب لم تشهده طيلة حياتها البائسة.
كانت بصمة عناصر الجهاز حاضرة في كل العمليات الحربية، بداءاً من معارك الدفاع عن المدرعات وسلاح المهندسين كما شاركوا بمقدار الشراسة نفسه الذي أظهروه للمليشيا بموقف شندي في تحرير كامل ولاية سنار وجنوب الجزيرة وجبل موية ومعارك تحرير ود مدني، كما شاركوا قبل ذلك في معارك استنزاف طويلة للمليشيا في مصفاة الجيلي مروراً بجميع مواقع ولاية الخرطوم المختلفة.
هذه المشاركة غير المسبوقة لجهاز المخابرات في معركة الكرامة دفعت الشعب السوداني لتبني عبارة “”أمن يا جن” كنوع من رد الجميل لهذه القوات، دخلت عبارة “أمن ياجن” منازل المواطنين ورردها الأطفال في الطرقات وجرى كتابتها على المركبات والجدران، وأصبحت العبارة الوحيدة في السودان التي تحولت لـ”تريند”، ويشير أستاذ علم النفس، محمد مأمون، إلى أن ترديد عبارة “أمن ياجن” من قبل السودانيين تعبيرا عن رضاهم عن مشاركة جهاز المخابرات في معركة الكرامة، كما تعكس العبارة لدى المواطنين حالة إطمئنان وشعور بالرضا لوجود هذه القوات للدفاع عنهم، وهو أمر مطلوب وجزء من صميم عمل الجهاز الذي يتمحور حول بث الطمأنينة بين الشعب.
دور بارز
يقول الخبير العسكري الفريق جلال تاور، إن عناصر جهاز المخابرات قدموا مثالاً رائعاً جداً للتضحية والفداء، وأوضح تاور أن هيئة العمليات التابعة للجهاز التي تم حلها في حكومة حمدوك، لبى عناصرها جميعا نداء القائد العام للجيش وانخرطوا في معركة الكرامة، مشيراً إلى أن هذه المجموعة أحدثت فرقاً في ميادين القتال بسبب تدريبهم العالي وقوة تحملهم، حيث قدموا شهداء وجرحى ومفقودين، معتبراً أن عناصر جهاز المخابرات كان لهم الدور الرائد في هذه المعركة، حيث شاركوا بفاعلية في الالتقاء الأول لجيوش كرري بسلاح المهندسين، وشاركوا في التقاء الجيوش الأخير. وأضاف تاور “الجيش يعلم ذلك ويقدر دورهم والشعب يعلم ذلك” وتابع “في تقديري دورهم مميز ومشهود ومقدر ولا يستطيع أحد إنكار هذا الدور أو تضحيتهم أو فاعليتهم”. وتوقع تاور أن يكون لهم نفس هذا الدور في معركة تحرير غرب السودان بدءاً من أم روابة وحتى الجنينة، مشيراً إلى ان عناصر جهاز المخابرات دخلوا المعركة بحماس واقتحمو أوكار المليشيا دون خوف ودون تراجع.
العمل الخاص
يشارك عناصر جهز المخابرات أيضاً في فرق العمل الخاص في ولاية الخرطوم وبقية الولايات المحتلة، هذه الفرق التي كانت تمثل بعبعاً حقيقياً للمليشيا، اقتحمت بالجرأة نفسها أوكار المليشيا وتوغلت خلف خطوط العدوء تضرب في الأماكن المؤثرة، حتى باتت سماع عبارة العمل الخاص مفزعة لعناصر المليشيا أكثر من أصوات القذائف.
زيارة المدير العام
زيارة المدير العام لجهاز المخابرات الفريق أحمد مفضل لقوات الجهاز الموجودة بالخرطوم، جاءت عرفانا وتقديراً للضباط وضباط الصف والجنود الذين أوفوا بكل ما طلبوا منهم، وكان على قدر التحدي والعزيمة، وصمدوا باستماتة خرافية دفاعاً عن مقرهم بموقف شندي، ذلك الصمود الذي حير الحلفاء قبل الأعداء.
“مفضل” في زيارته لمتحركات أسود العرين التابعة للجهاز والتي يقودها نائبه المرعب الفريق اللبيب، أشاد بكل هذا وقال إن قوات الجهاز كان لها دوراً كبيراً من خلال إسناد القوات المسلحة في كافة الجبهات.
أدوار أخرى
بلا شك تنتظهر جهاز المخابرات، أدواراً أخرى بعد انتهاء المعركة، فبينما الجميع سيلقي عصاه بعد نهاية معركة الكرامة يبدأ جهاز المخابرات معركة أخرى، لخصها قائده في رتق النسيج المجتمعي بين أبناء السودان ومعركة إعادة إعمار ما دمرته الحرب والمساهمة في إعادة الحياة لطبيعتها وتوفير الخدمات الضرورية للمواطنين.
يبقى القول أن جهاز المخابرات كان له دوراً مقدراً في معركة الكرامة، أداه بشجاعة باسلة وتضحيات عظيمة، قدم شهداء وجرحى ومفقودين، ونفذ اختراقات وحقق انتصارات وشارك في معارك التحرير، بالصمود نفسه الذي حرسه به مقره بموقف شندي.
تغطية الأحداث الجارية ـ الطيب إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی معرکة الکرامة جهاز المخابرات
إقرأ أيضاً:
فؤاد باشا سراج الدين .. الرجل الذى علم المصريين معنى الكرامة
منذ يومين مرت الذكرى الرابعة والعشرون لرحيل رجل من أعظم رجال مصر فى القرن العشرين؛ رجل لم يكن مجرد سياسي أو صاحب منصب، بل كان مدرسة كاملة فى الوطنية والعناد الشريف والإصرار على أن تبقى مصر واقفة مهما حاولت قوى الاحتلال أن تكسر إرادتها.
أتحدث هنا عن فؤاد باشا سراج الدين، الرجل الذى ترك بصمة لا تمحى فى الوجدان المصرى، والذى رحل عن عالمنا فى التاسع من أغسطس عام 2000، لكنه لم يرحل يوما عن ذاكرة الوطن.
فى كل مرة تمر فيها ذكرى رحيله، أشعر أن مصر تعيد اكتشاف جزء من تاريخها؛ تاريخ لا يمكن فهمه دون الوقوف أمام شخصية بهذا الثقل وبهذه القدرة على الصمود.
ولد فؤاد باشا سراج الدين سنة 1910 فى كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ، وبدأ مشواره شابا يحمل حلم الوطن فى قلبه قبل أن يحمله على كتفيه.
تخرج فى كلية الحقوق، ودخل معترك الحياة العامة صغيرا فى السن، لكنه كبير فى العقل والبصيرة، وفى سن لم تكن تسمح لغيره سوى بأن يتدرب أو يتعلم، أصبح أصغر نائب فى تاريخ الحياة البرلمانية المصرية، ثم أصغر وزير فى حكوماتها المتعاقبة، فى زمن لم يكن الوصول فيه إلى المناصب بالأمر السهل ولا بالمجاملات.
لكن ما يجعل الرجل يستحق التوقف أمامه ليس كثرة المناصب، بل طريقة أدائه فيها، فقد كان نموذجا للمسؤول الذى يعرف معنى الدولة، ويؤمن بأن خدمة الناس شرف لا يباع ولا يشترى.
ومن يعيش تفاصيل تاريخه يدرك أنه لم يكن مجرد جزء من الحياة السياسية، بل كان جزءا من الوعى العام للمصريين، وصوتا قويا فى مواجهة الاحتلال، وسندا لحركة الفدائيين فى القناة، وواحدا من الذين كتبوا بدموعهم وعرقهم تاريخ كفاح هذا الوطن.
ويكفى أن نذكر موقفه الأسطورى يوم 25 يناير 1952، حينما كان وزيرا للداخلية، ورفض الإنذار البريطانى الداعى لاستسلام رجال الشرطة فى الإسماعيلية.
وقتها لم يتردد لحظة، واختار الكرامة على السلامة، والوطن على الحسابات السياسية، ذلك اليوم لم يصنع فقط ملحمة بطولية، لكنه صنع وجدانا كاملا لأجيال من المصريين، وأصبح عيدا رسميا للشرطة تخليدا لشجاعة رجال رفضوا أن ينحنوا أمام الاحتلال، وهذه الروح لم تكن لتظهر لولا وزير آمن برجاله وبمصر أكثر مما آمن بنفسه.
كما لا يمكن نسيان دوره الحاسم فى إلغاء معاهدة 1936، ودعمه لحركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز، ولا تمويله للفدائيين بالمال والسلاح، كان يعلم أن المستقبل لا يهدى، وإنما ينتزع انتزاعا، وأن السيادة لا تستعاد بالكلام، وإنما بالمواقف.
وفى الداخل، قدم سلسلة من القوانين التى شكلت تحولا اجتماعيا حقيقيا؛ فهو صاحب قانون الكسب غير المشروع، وصاحب قوانين تنظيم هيئات الشرطة، والنقابات العمالية، والضمان الاجتماعى، وعقد العمل الفردى، وقانون إنصاف الموظفين.
وهى تشريعات سبقت عصرها، وأثبتت أن الرجل يمتلك رؤية اجتماعية واقتصادية عميقة، وميلا دائما للعدل والمساواة، وفهما راقيا لطبيعة المجتمع المصرى.
ولم يكن خائفا من الاقتراب من الملفات الثقيلة؛ ففرض الضرائب التصاعدية على كبار ملاك الأراضى الزراعية حين كان وزيرا للمالية، وأمم البنك الأهلى الإنجليزى ليصبح بنكا مركزيا وطنيا، ونقل أرصدة الذهب إلى مصر للحفاظ على الأمن الاقتصادى للدولة، وكلها خطوات لا يقدم عليها إلا رجل يعرف معنى السيادة الحقيقية ويضع مصالح الوطن فوق كل اعتبار.
ورغم الصدامات المتتالية التى تعرض لها، والاعتقالات التى مر بها فى عهود متعددة، لم يتراجع ولم يساوم، ظل ثابتا فى المبدأ، مؤمنا بالوفد وبالحياة الحزبية، حتى أعاد إحياء حزب الوفد الجديد عام 1978، ليبقى رئيسا له حتى آخر يوم فى حياته، وقد كان ذلك الإحياء بمثابة إعادة الروح لمدرسة سياسية كاملة ترتبط بتاريخ النضال الوطنى الحديث.
إن استعادة ذكرى فؤاد باشا سراج الدين ليست مجرد استدعاء لصفحات من التاريخ، بل هى تذكير بأن مصر لم تبن بالكلام، وإنما صنعت رجالا مثل هذا الرجل، آمنوا أن الحرية حق، وأن الوطنية فعل، وأن الكرامة لا تقبل المساومة.
وفى زمن تكثر فيه الضوضاء وتختلط فيه الأصوات، يبقى صوت أمثال فؤاد باشا أكثر وضوحا، وأكثر قوة، لأنه صوت نابع من قلب مصر، من تربتها وأهلها ووجدانها.
رحل جسد الرجل، لكن أثره باق، وتاريخه شامخ، وسيرته تذكرنا دائما بأن الوطن لا ينسى أبناءه المخلصين وأن مصر، رغم كل ما تمر به، قادرة دائما على إنجاب رجال بحجم فؤاد باشا سراج الدين.