تتجمع كتائب الكيزان الآن في الخرطوم، وتهتف: “إسلامية بس”، ردًا على خطاب البرهان المثير للجدل، المدعوم إقليميًا للإيهام بتغيير الحاضنة السياسية، في تناقض يراد اعلانه على الملأ بين الأجندة والمصالح مع حزب المؤتمر الوطني. لم يعد الأمر مجرد تكهّن بانتقال الحرب إلى مرحلة جديدة؛ فالأيام المقبلة ستكشف عن خفايا الصراع مع التنظيم الحزبي الذي غزل شباك الحرب وصنع ظروفها المواتية، وكان يعدّ العدّة للعودة إلى الحكم.
فالخطاب في جوهره محاولة لإعادة ترتيب معادلة الحرب بطريقة لا تصب في مصلحة المؤتمر
الوطني في الظاهر، وما تؤيده البيانات المتطايرة والتصريحات المنددة الصادرة عن الحزب وسط صراع أجنحته الضاري، الذي بات معلومًا للقاصي والداني. لم يصعد عبد الفتاح البرهان إلى منصة المخاطبة أمام من سمّوا أنفسهم “كتلة التغيير الديمقراطي” من تلقاء نفسه أو بوحي نزل عليه من السماء. فالرجل، الذي قال ذات يوم إنه يحفر بالإبرة، قد حفر هذه المرة حتى أخرج ثعبانًا جديدًا وألقاه على ثوب حلفائه من المهووسين. إنه رجل يعتقد في تفوق قدراته على خداع الحلفاء والخصوم معًا، خدمةً لغرض لم يعد خافيًا. البرهان، الذي يتوق إلى حكم أحادي مطلق لرغبة في نفسه وليس تحقيقا لحلم ابيه، لا يختلف عن سلفه المخلوع، إذ يرى في اعتلاء السلطة مهربًا مثاليًا من المساءلة، وغسلًا لجرائم يصعب حصرها، ارتكبها منذ بداية حياته العسكرية، وبلغت ذروتها بتورطه في الإعداد المشترك وإشعال هذه الحرب الكارثية. منذ توليه رئاسة مجلس السيادة، لم يكن “الضابط العظيم” يفكر أو يخطط لنفسه، بل يترك ذلك للآخرين ليرسموا له المسار، ثم ينتظر التوجيهات ويلقيها لاحقًا أمام تجمع للجنود أو العسكريين، غالبًا عبر مناسبات تُصنع وتُنظم بعناية. هذه المرة، أعاد لعبة التحذير للمؤتمر الوطني من مغبة التلاعب بالحرب واتخاذها وسيلة للعودة إلى الحكم. لكن فساد فكرة التحذير ذاته لن يمكنه من مدّ رجليه لفترة طويلة، إذ إن الدافع وراء إطلاقه إعلاميًا غالبًا ما يكون بإيعاز من حليف إقليمي، مدفوع بحسابات دولية استراتيجية تتصل بنوايا وتكتيكات الرئيس الامريكي دونالد ترامب، الذي يُتوقّع تصعيده ضد جماعات التطرف الديني، خاصة بعد أن وجّه قبل أيام ضربة موجعة لتجمعاتهم في الصومال. لقد لوّح “حاكم الامر الواقع” في خطابه بتحذيرات موجّهة إلى الجماعة، كما أطلق وعودًا يعتقد أن بعض القوى المدنية الديمقراطية “الحقيقية” ستتلقفها، في انتظار إعلان لـ”توبتها”. لكنه، في الواقع، لا يفعل شيئًا سوى تكرار نهج سلفه وأستاذه الحاكم السابق في التضليل، متوهّمًا أن بقاءه في السلطة أمر حتمي وأبدي، غير مدرك أن جرائمه المتقاسمة بينه وبين غريمه محمد حمدان دقلو في الفتك والتنكيل بالسودانيين لن تُنسى بمرور الزمن، ولن تُمحى من ذاكرة التاريخ أو وجدان الشعب. أسئلة حتمية وصراع مفتوح : تفرض الأسئلة نفسها في هذا السياق: – هل المؤتمر الوطني، كتنظيم سياسي، يمثل الخريطة الكاملة للضالعين في الحرب من الكتائب، والوحدات الخاصة، والاستخبارات، والجماعات المسلحة ذات الشعارات والعقيدة القتالية الإسلاموية؟ – هل يمكن اعتبار الجيش كيانًا موحدًا دون المؤتمر الوطني؟ – ما هي الإجراءات التي ينبغي على البرهان اتخاذها؟ هل سيجرؤ على التسريح من الخدمة لاعضاء التنظيم، والاعتقال، وإعادة محاكمة الرموز الهاربة من السجون، واستعادة الأموال المنهوبة، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم؟ الإجابة على كل ذلك تبدو واضحة وضوح الشمس، إذ امتلأت التجارب والتاريخ بالحكم التي تقول إحداها: "اللصوص لا تحاكم اللصوص، بل تتواطأ معها.” أو “لا تنتظر العدل من قاضٍ يخشى أن يُحاكم غدًا.” ما يُنتظر من البرهان أبعد من ذلك بكثير، وأهمه محاكمة من ارتكبوا المجازر وقتلوا خارج إطار القانون، وتطهير الجيش من مظاهر التوحش، الذي كان (رحمًا) للدعم السريع. لكن الخشية الحقيقية تتجلى في قول الفيلسوف الفرنسي والمفكر شارل لوي دي سكوندا بارون دي مونتسكيو: “عندما تتركز السلطة المطلقة في يد شخص فاسد، يصبح القانون مجرد أداة لخدمة مصالحه.” وما أدقها كذلك من مقولة لاريك ارثر بلير الكاتب البريطاني الذي اشتهر بجورج أورويل صاحب رواية ١٩٨٤ عندما قال: “في زمن الخداع، يكون قول الحقيقة عملًا ثوريًا.” إن ما نشهده اليوم ليس مجرد صراع سياسي، بل هو معركة وجودية تحدد مصير السودان، حيث يشتد الخداع، وتتبدل الأقنعة، بينما تبقى الحقيقة ثابتة تؤكد ان لا يمكن لمن صنع الأزمة أن يكون جزءًا من حلها. وانه لا بد من عودة الحكم المدني الديمقراطي، ولو طال النزوح والتشريد والقتل الممنهج. الطغاة مثل البرهان دائما ما يخطئون في تعريف الحقيقة، محاولين تطويعها لخدمة سلطتهم. لكن وكما قال بابلو نيرودا: “الحقيقة أعلى من القمر”—بعيدة، سامية، ولا يمكن احتكارها، ولا يمكن طمس إشعاعها المتوهج.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية:
المؤتمر الوطنی
إقرأ أيضاً:
إسحق أحمد فضل الله يكتب: والحرب الحقيقية تبدأ الآن
والمغنية في الحكاية تُحكم العود وتقول لعاشقها:
ماذا أغنّيك؟
قال: غنِّني قول الشاعر:
“إذا كان في بطني طعامٌ ذكرتها،
وإن جعتُ لم تخطر على بالي ولا فكري”.
والحرب الأعظم تتسلل الآن في دروب السودان،
حرب كسر العظم بالجوع والفقر،
وفي أسبوع يقفز كل شيء الآن إلى سعرٍ مضاعف.
وما يجعل الرعدة في القلب ليس هو السعر هذا… ما يُخيف هو أن
تنفيذ… تنفيذ… تنفيذ القفزة هذه ودقتها أشياء تكشف أن الأمر يُدار من مكتبٍ واحد.
……
وكامل الذي يسأل الناس: ماذا أغنيكم؟ يجب أن يسمع الإجابة.
وكامل لا يستطيع إغلاق المتاجر التي تنطلق الآن في السودان كله،
لكن كامل يستطيع أن يفعل ما فعلته العبقرية السودانية دون محاضرين وتعليم.
يستطيع هدم المخطط كله بالأسلوب هذا:
أسلوب
ماعز في كل بيت،
دجاجتان في كل بيت،
مزرعة خضروات (أربع أمتار مربعة) في كل بيت،
مزرعة تسمين عجول في كل قرية،
زراعة الذرة في كل بلدة.
والصرخة العاجزة عن: التمويل من أين؟ ما يجيبها هو أن النازحين، المعدمين تماماً، فعلوها أمام الخيام، أمام البيوت التي استأجروها.
والمانجو زُرعت في أكياس البلاستيك المخرومة، والبطيخ، والموز، والـ… الـ… ونجحوا دون بذل جنيه واحد.
الدولة تستطيع انتهاز فرصة سقوط حائط السجن الذي كان يسجن الزراعة في السودان،
فالسودان كان يعجز عن ميكنة الجزيرة، لأن كل شبر فيها كان مملوكاً لألف شخص.
السيد كامل إدريس… أعلم أنني الصوت الصارخ في البرية. لكن… لكن… لكن…
…….
وأحياناً الأدب يصف.
وهذه أيام توفيق الحكيم.
وطريد الفردوس عند الحكيم هو رجل ظل منذ طفولته معتكفاً مسبحاً لا يعرف الدنيا.
ويموت…
وملائكة الجنة عند الحكيم لا يدخلونه الجنة… اسمه ليس عندهم…
وملائكة النار لا يدخلونه النار… اسمه ليس عندهم.
والحل…
الحل هو إعادته إلى الأرض، لأنه دخل الدنيا وخرج منها دون أن يشعر بوجود حرب، وبالتالي لا نجاح ولا سقوط.
والرجل يجد نفسه في شوارع القاهرة،
والناس هناك يجدون شاباً يهذي بكلمة: الفردوس… الفردوس…
ويقوده بعضهم إلى “بار الفردوس”،
وهناك يصبح فتوة البار والبلطجة.
ثم فجأة يبصر ويتوب و…
الحكيم يقول إن الدين هو صراع وابتلاء، وليس عزلة وتسبيحاً، مثلما يظن المتدينون الآن.
وهذا الفهم هو ما صنع الإسلاميين.
ومحاولة الإسلاميين تقديم الإسلام الحقيقي تجعلهم الهدف الأول لكل عدو، وحربهم مباشرة أمر مستحيل؛ لهذا، لما فشل مرتزقة الداخل في السودان جاء العدو بمرتزقة الخارج.
إسحق أحمد فضل الله
إنضم لقناة النيلين على واتساب