لم يكن اتساع جغرافيا اللغة الإنجليزية بعد القرن السادس عشر إلا نتاجًا لتوسع المشروع الاستعماري لبريطانيا العظمى، مع ذلك؛ تتعرض هذه الحقيقة التاريخية اليوم للتجاهل بصورة غريبة، فحين يدور الحديث عن عالمية اللغة الإنجليزية وارتباطها بتطور التعليم في المستعمرات القديمة، أو ما تُعرف ببلدان الهامش، يُسكت عن الغاية والوسيلة التي سطت بها اللغة الإنجليزية على ثقافات بأكملها، ويُنسى تاريخها الدموي، في وقتٍ يتباهى فيه سياسيون بريطانيون بأن لغتهم كانت أعظم هدية قدّمها الغرب للشرق.
لوهلة، يبدو كما لو أن نقاش الفكرة على نحو جاد يتطلب شيئًا من العودة إلى سذاجة الأسئلة البدائية البسيطة: كيف تعممت الإنجليزية بهذا الشكل لتتحول على مدى 4 قرون إلى لغة عالمية ساطية، ماحية في طريقها لغات وثقافات محلية؟ أذكر أنني اصطدمت بهذا السؤال خلال دراستي التحضيرية بسنتي الجامعية الأولى، حين كنا ندرس برنامج اللغة الإنجليزية تحضيرًا لدراسة التخصص، غير أني ما زلت لا أفهم تمامًا كيف يبدو النقاش في الماضي الاستعماري للغة الإنجليزية نقاشًا متجاوزًا ومفروغًا منه.
لقد خرجت اللغة الإنجليزية من ذلك الأرخبيل الصغير لتطوف أصقاع العالم، ولم ترجع كما كانت، وبالسيف والبارود فتحت أراضي جديدة، وتحولت تدريجيًا من لغةٍ فقيرة مستورِدة للكلمات لتصبح اللغة العالمية الأكثر تصديرًا للكلمات، ونتيجةً للهيمنة الاستعمارية ترسخت كنظام معرفي يعيد إنتاج الخبرة الكولونياليَّة حتى في البلدان التي سعت فور استقلالها لصناعة ثقافة وطنية، ما بعد كولونيالية.
كانت الإمبريالية اللغوية أحد أعنف أوجه المحو والاضطهاد الذي مارسه البريطانيون في مستعمراتهم، يشير إلى ذلك كتاب «الرد بالكتابة.. النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة».
يجادل مؤلفو الكتاب الثلاثة، بيل أشكروفت وجاريث جريفيث وهيلين تيفن، بأن دراسة اللغة الإنجليزية خلال الحقبة الاستعمارية، من جهة، والنمو التوسعي للإمبراطورية البريطانية من جهة أخرى، مسألتان كانتا قد نشأتا في مناخ أيديولوجي واحد، لكن الإمبريالية اللغوية لم تكن معتمدةً على الإلغاء المباشر فحسب.
فحينما تواجَه بمقاومة اللغات المحلية، كانت الحكومة البريطانية في مستعمراتها تتراجع لتمارس سياسة التبني والاستيعاب والإخضاع الطوعي للثقافات المستعمرة، منتجة بذلك نخبةً محليةً من المتعلمين الطامحين لأن يصبحوا «أكثر إنجليزية من الإنجليز» على حد تعبير الكتاب: «كانت عملية من الانتساب الواعي، على حد تعبير إدوَارد سعيد، تتواصل تحت قناع البنوة، أي محاكاة للمركز منبثقة من رغبة لا تقتصر على نيل القبول، وإنما تمتد لتشمل أيضًا التبني والاستيعاب، وهو الأمر الذي قاد مَن في الأطراف إلى الانغماس في الثقافة المستوردة، مع إنكار أصولهم».
الترجمة عن اللغة الإنجليزية هي وجه آخر لسياسات الإدماج والاستيعاب والتبني التي تمارسها الإمبريالية اللغوية الإنجليزية. لا يمكن أن نفسر ظاهرة استسهال الترجمة وانتشار الترجمات على حساب التأليف الأصلي ظاهرةً بريئة، فعبر الترجمة تمارس الإنجليزية تأثيرًا أسلوبيًا، يتجاوز استيراد المفردات وتصديرها إلى تمرير تغييرات عميقة وخفية على بناء الجملة في اللغة المُترجم إليها، فتخلق تشوهات تصبح سائغة ومألوفة بمرور الوقت.
هكذا تمارس اللغة الإنجليزية تدجين اللغات التي تحاول استضافتها دون أن تغير معجمها بالضرورة، ويتجلى هذا الانحراف بوضوح في لغة الترجمة التي تتطور بصورة مطردة في الترجمات إلى العربية. وقد لفتني مقال لجاكوب ميكانوفسكي، نشره على الجاردين عام 2018 بعنوان عنيف: «الوحش، المتنمر، اللص.. كيف تسيطر اللغة الإنجليزية على الكوكب» يشير فيه إلى تأثير من هذا النوع تمارسه الإنجليزية على لغات أوروبية، كالإيطالية والألمانية والسويدية، من ناحية التغيير في صيغ الملكية وأسماء الإشارة وتقديم الصفات على الأسماء، في محاكاةٍ لقواعد اللغة الإنجليزية.
الإمبريالية اللغوية التي تتوحش اليوم، تحت لواء التعليم الحديث هي في الحقيقة تهديد خطير لثقافات «الهامش» لا يقل عن التهديد الوجودي الذي ظل الاستعمار يمارسه في سيرته التقليدية الدموية والاستغلالية على الأرض. لكن الروائي والناقد الكيني، نجوجي واثيونجو، لا يستسلم لفرضية المركز والأطراف، بل يدعو لمقاومتها.
بالعودة للكتابة بلغة كيكويو المحلية قرر الكاتب الإفريقي الدفاع عن قارته التي يرى أنها ذاهبة شيئًا فشيئًا لأن تصبح امتدادًا للغرب، إذا لم يناضل كُتَّابها، على طريقته، للتحرر من سطوة اللغة الإنجليزية، متسائلًا: «ما الفرق بين السياسي الذي يقول إن إفريقيا لا تستطيع الاستغناء عن الإمبريالية، والكاتب الذي يقول إن إفريقيا لا تستطيع الاستغناء عن اللغات الأوروبية؟».
أخيرًا، نكرر السؤال المكرر الذي يبقى بلا تبرير مقنعٍ حتى اللحظة: ما الذي ينقص الجامعات العربية يا ترى لتتحرر من النظام المعرفي للغة الإنجليزية، إذا كانت إسرائيل، المستعمَرة الغربية الحديثة والمصطنعة، تسعى جاهدة منذ تأسيسها لتطوير سياسات لغوية حازمة لتكريس اللغة العبرية لغة للعلم والمجتمع والصناعة بهدف ليس بعيد أن يكون هو الانقلاب على اللغة الإنجليزية؟! بنو العُرب أولى.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اللغة الإنجلیزیة
إقرأ أيضاً:
إلزام رياض الأطفال بـ240 دقيقة أسبوعياً لتعليم اللغة العربية
أعلنت دائرة التعليم والمعرفة - أبوظبي، عن إطلاق سياسة جديدة تلزم "رياض الأطفال في المدارس الخاصة ومدارس الشراكات التعليمية"، من مرحلة ما قبل الروضة "المرحلة التمهيدية"/المرحلة التأسيسية الأولى للسنوات المبكرة إلى مرحلة الروضة الثانية/ السنة 1"، بتعليم اللغة العربية ابتداء من الفصل الدراسي الأول للعام الأكاديمي 2025 - 2026.
ويأتي هذا الإعلان في خطوة تهدف إلى تعزيز اللغة والهوية والانتماء بدءاً من سنوات التعلم الأولى، حيث لا تقتصر هذه المبادرة على تنمية مهارات القراءة والكتابة فحسب، بل تهدف إلى ترسيخ جذور اللغة الأم لدى الجيل القادم وبناء أساس متين منذ الصغر.
وبموجب سياسة منهاج اللغة العربية لمرحلة رياض الأطفال الصادرة عن الدائرة، يحظى كافة الطلبة الصغار كل أسبوع بـ 240 دقيقة لتعلم اللغة العربية وفق منهجية تتناسب مع مرحلتهم العمرية، على أن تزداد هذه المدة إلى 300 دقيقة بدءاً من العام الدراسي 2026 – 2027.
وتكفل السياسة الجديدة توفير تجربة تعليمية متسقة وعالية الجودة لكل طفل، سواءً كان من الناطقين بالعربية أو من المتعلمين الجدد لها، وذلك خلال هذه المرحلة التي تعتبر من أكثر المراحل أهمية في تطور اللغة، كما تتيح هذه التجربة للطلبة تنمية ثقتهم في لغتهم الأم التي تربطهم مع ثقافتهم ومجتمعهم ومستقبلهم.
وتستند هذه السياسة إلى نتائج الأبحاث التي تؤكد أن السنوات الأولى من عمر الطفل هي المرحلة الأنسب لتعلم اللغات، وإلى نتائج الاستبيان الذي أجرته الدائرة والذي أظهر أن غالبية الأطفال يواجهون صعوبة في التحدث باللغة العربية بثقة، بالرغم من استخدامها الواسع في منازلهم، ومن هذا المنطلق، تهدف السياسة إلى ردم هذه الفجوة من خلال شراكة فعالة بين المدارس وأولياء الأمور لضمان بقاء اللغة العربية حية ومزدهرة في مسيرة الأجيال القادمة.
أخبار ذات صلةوتتيح السياسة للطلبة الصغار فرصة خوض تجربة تعليمية تفاعلية وممتعة ترتكز على اللعب، وسرد القصص، والأناشيد، والاستكشاف، وتنص على اعتماد مسارين تعليميين، أحدهما مخصص لتعزيز قدرات الناطقين باللغة العربية، والآخر موجه للمتعلمين من غير الناطقين بها، بما يضمن تلبية احتياجات كل طفل تبعاً لمستواه اللغوي، سواء كان ناطقاً باللغة الأصلية أم مبتدئاً.
وبفضل المعلمين المؤهلين وفق تدريب خاص، والمصادر التعليمية الحديثة، والأنشطة الصفية المحفّزة، ستغدو اللغة العربية تجربة يومية محببة يتطلع إليها الطلبة بكل شغف.
وقالت سعادة مريم الحلامي، المدير التنفيذي لقطاع التعليم المبكر في دائرة التعليم والمعرفة، إن هذه المبادرة تهدف إلى تمكين كل طفل في إمارة أبوظبي من اكتساب اللغة، وترسيخ الهوية، وتعزيز الانتماء منذ اللحظة الأولى، كما تهدف لأن تكون اللغة العربية جزءاً جوهرياً من تجربة الطفل اليومية، وأن تنبض بالحيوية والتفاعل في كل فصل دراسي وكل منزل.
وتعمل السياسة الجديدة على سدّ الفجوة بين تعليم اللغة العربية في الحضانات، بما يتماشى مع معايير سياسة مؤسسات التعليم المبكر، وبين التعليم الإلزامي للغة العربية في الحلقة الأولى وفقاً لمتطلبات وزارة التربية والتعليم، وبما يضمن تطوراً تدريجياً وسلساً للمهارات اللغوية خلال مراحل الطفولة المبكرة.
وتولي هذه السياسة دور أولياء الأمور أهمية محورية في الرحلة التعليمية، وتعمل المدارس على تزويدهم بالأدوات والتحديثات اللازمة، بما يتيح لهم المشاركة الفاعلة في هذه التجربة الغنية، سواءً من خلال ممارسة المفردات الجديدة في المنزل، أو قراءة القصص مع أبنائهم، أو المشاركة في الفعاليات المدرسية التي تحتفي باللغة العربية.
ويمثل منهاج اللغة العربية الجديد في مرحلة رياض الأطفال جزءاً من الرؤية الشاملة لدائرة التعليم والمعرفة، والتي تهدف إلى ترسيخ اللغة العربية كأسلوب حياة ينبض بالتفاعل والانتماء، لا كمجرد مادة دراسية يتلقاها الأطفال.
المصدر: وام