كيف يخدعنا التكرار و يشكل قناعاتنا؟
تاريخ النشر: 16th, February 2025 GMT
سعيد ذياب سليم
نسمع كثيرًا عن قصص الزواج التقليدي، حيث يختار الرجل فتاة لم يكن يعرفها مسبقًا، لكن التفاعل والتعايش اليومي قد يؤديان إلى بناء رابطة نفسية تجعلها شريكة حياته التي لا يتخيل العيش بدونها. في المقابل، نلاحظ كيف تبث القنوات الفضائية نفس الإعلانات التجارية مرارًا وتكرارًا، مما يجعل المنتجات مألوفة لدينا، وأحيانًا نندفع لشرائها دون وعي.
هذه الأمثلة تَكشف عن قوة التكرار في تَشكيل أفكارنا وقناعاتنا، سواء عبر الألفة الناتجة عن التعرض المستمر أو عبر ترسيخ المعلومات حتى لو كانت زائفة. في كتابه التفكير السريع والبطيء، يشير دانيال كانيمان إلى أن “الألفة تولّد الإعجاب”، موضحًا كيف يمكن أن يجعلنا التكرار أكثر تقبلًا لمعلومة ما، حتى دون أن نتحقق من صحتها. لكن لماذا يحدث هذا؟ وكيف يؤثر التكرار على قراراتنا دون أن نشعر؟
التكرار ووهم الحقيقة
يبدو أن القليل من التكرار كافٍ لجعل التجربة الجديدة مألوفة، مما يمنحها طابعًا من المصداقية، حتى لو لم تكن كذلك في الأصل. فوفقًا لعلماء النفس، فإن تكرار رسالة إعلامية عدة مرات، حتى لو كانت مضللة، يجعلها تبدو وكأنها حقيقة راسخة. هذا التأثير يُعرف بـ وهم الحقيقة، حيث يؤدي التعرض المتكرر للمعلومة إلى شعور زائف بالثقة في صحتها، حتى لو كانت خاطئة. فلو انتشر خبر عن شخص أُُتُّهِم باختلاس أموال كان مؤتمناً عليها، ثم ثبتت براءته لاحقًا، فلا تَعجب إذا ذُكر اسمه عرضا ونعته أحدهم بـ”ذاك المختلس”، إذ إن تأثير التكرار يتلاعب بالإدراك. ومع كل إعادة، تتراجع مقاومة العقل لهذه الفكرة، مما يزيد من احتمال تقبلها دون تفكير نقدي.
التكرار ليس مجرد أداة للإقناع التجاري أو الأدبي، بل هو سلاح فعّال في تشكيل الإدراك السياسي. فكما يمكن لإعلان أن يجعلنا نفضل منتجًا دون وعي، يمكن لوسائل الإعلام أن تعيد صياغة الواقع عبر التكرار المستمر لروايات معينة. وهذا ما نراه في السرديات التي تُروَّج حول غزة، حيث يتم تكرار أفكار مثل “التهجير كأمر واقع” أو “ضرورة الحلول البديلة” حتى تصبح مألوفة لدى المتلقي، بغض النظر عن مدى زيفها. ومع مرور الوقت، يبدأ الرأي العام، دون وعي، في التعامل معها كخيار مطروح للنقاش، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق وتضليل الإدراك الجمعي.
لكن مهما تكررت الأكاذيب، فإنها لن تصمد أمام التحليل المنطقي والمعايير القانونية الدولية. فغزة ليست مجرد قضية قابلة للمساومة، بل وطن لأهله الذين عاشوا فيه منذ آلاف السنين، ولا يمكن لأي خطاب مُضلل أن يمحو هذه الحقيقة. هنا، تكمن أهمية مواجهة التكرار بتكرار مضاد: أن تتكرر الحقائق بنفس القوة، لأن الحقيقة، إن لم تتم حمايتها، قد تضيع وسط الضجيج.
الأسطورة بين التكرار والحقيقة
في عصر التدفق المعلوماتي السريع، أصبحت الأساطير والمعتقدات الخاطئة تنتشر بسهولة، مما يخلق وهم الحقيقة الذي يؤثر على قراراتنا وحياتنا اليومية. من أبرز الأمثلة على ذلك الاعتقاد بأن “العسل شفاء لكل داء” أو أن “الإنسان يستخدم فقط 10% من قواه العقلية”. هاتان الفكرتان تم ترويجهما بشكل واسع عبر مصادر غير موثوقة، مما جعلهما تبدوان كحقائق لا تقبل الجدل.
أسطورة العسل: بين الفائدة والمبالغة
يعتقد الكثيرون أن القول “العسل شفاء لكل داء” حقيقة مطلقة بسبب انتشاره الواسع، مما جعله مألوفًا ومقبولًا دون تمحيص. ومع ذلك، هذا الاعتقاد قد يكون مضللًا، خاصة لمرضى السكري، حيث يمكن أن يؤدي الإفراط في تناوله إلى مضاعفات خطيرة. وهكذا، يظهر كيف أن التكرار يمكن أن يحول معلومة غير دقيقة إلى خطر حقيقي على الصحة.
أسطورة 10% من القدرة العقلية: خرافة سينمائية
أما الأسطورة الأخرى، فهي الاعتقاد بأن “الإنسان يستخدم فقط 10% من قواه العقلية”. هذه الفكرة شاعت بسبب الأفلام والمنصات الاجتماعية، وأبرز مثال على ذلك فيلم لوسي (2014)، حيث تم تصوير البطلة وهي تستغل نسبة أكبر من قدراتها العقلية لتحقيق قوى خارقة. في الواقع، العلم يؤكد أن الإنسان يستخدم جميع أجزاء دماغه، وإن كان بنسب متفاوتة حسب المهام التي يؤديها. هذه الخرافة تم تداولها لسنوات دون أي أساس علمي، مما يعكس كيف يمكن للخيال السينمائي والترويج الإعلامي أن يخلقا أوهامًا تبدو كحقائق.
التكرار كأداة تعليمية
رغم أن التكرار قد يكون وسيلة لترسيخ المفاهيم الزائفة، إلا أنه أيضًا أداة تعليمية فعالة. يعتمد التعلم على إعادة المعلومات لتعزيز التذكر والفهم، وهو ما يُعرف بـ الممارسة المتباعدة، حيث يساعد التعرض المنتظم للمعلومة في ترسيخها في الذاكرة طويلة المدى. لهذا السبب، تستخدم الأساليب التعليمية الحديثة استراتيجيات مثل التكرار التدريجي والتمارين التطبيقية لضمان استيعاب المفاهيم المعقدة.
التلوث المعلوماتي واستغلال غياب التحقق
هذه الأساطير ليست مجرد أفكار عابرة، بل هي جزء من ظاهرة التلوث المعلوماتي، حيث يتم نشر معلومات غير دقيقة عبر وسائل الإعلام والمنصات الاجتماعية دون تدقيق. يعتمد البعض على استغلال ” التحيز التأكيدي” وهو الميل لتأكيد المعتقدات، حيث يميل الأفراد إلى تصديق المعلومات التي تتوافق مع آرائهم السابقة وتجاهل ما يخالفها. ومع التكرار المستمر، يصبح من الصعب على العقل التمييز بين الحقيقة والوهم، مما يؤدي إلى انتشار واسع للمعلومات المضللة. وهكذا، يصبح التكرار أداة قوية، إما لنقل المعرفة أو لصناعة الوهم، والفرق يكمن في كيفية استخدامه.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: حتى لو
إقرأ أيضاً:
تحذير من كارثة لا يمكن تداركها في غزة وألبانيزي تدعو إلى معاقبة إسرائيل
قال برنامج الأغذية العالمي إن نافذة الفرص لدرء المجاعة في قطاع غزة تُغلق بسرعة وان الحاجة للغذاء ماسة، وحذر صندوق الأمم المتحدة للسكان من "كارثة إنسانية لا يمكن تداركها" تهدد الأطفال حديثي الولادة في غزة، فيما دعت المقررة الأممية لحقوق الإنسان في فلسطين فرانشيسكا ألبانيزي إلى فرض حظر على الأسلحة وقطع العلاقات التجارية والمالية مع إسرائيل.
وشدد برنامج الأغذية في بيان على ضرورة توفير زيادة ضخمة في توزيع المساعدات لتحقيق استقرار الوضع وتهدئة المخاوف واستعادة الثقة بوصول الغذاء. وأضاف انه يبذل كل ما في وسعه لإيصال المساعدات لكن الخوف من المجاعة لا يزال مرتفعا.
من جهتها طالبت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بإجراء تحقيقات في مقتل وإصابة الفلسطينيين الذين يحاولون الحصول على الغذاء عبر آلية توزيع الغذاء الحالية في غزة، وأكدت أن إيصال المساعدات يجب أن يكون آمنا وكريما ومتاحا للجميع.
وبعيدا عن إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، تنفذ إسرائيل والولايات المتحدة منذ 27 مايو/ أيار الماضي خطة لتوزيع مساعدات محدودة عبر "مؤسسة غزة الإنسانية". وتستهدف قوات الاحتلال منتظري المساعدات بالنيران مما يتركهم بين الموت جوعا أو رميا بالرصاص.
وحذرت وزارة الداخلية في غزة من التعامل مع مؤسسة غزة الإنسانية "ووكلائها المحليين والخارجيين تحت أي ظرف"، وقالت إن المؤسسة "لم تنشأ للإغاثة وتحولت لمصائد موت ومراكز إذلال وانتهاك ممنهج للكرامة".
بدوره، حذر صندوق الأمم المتحدة للسكان من خطر وشيك يهدد حياة مئات الأطفال حديثي الولادة في غزة مع اقتراب نفاد إمدادات الوقود اللازمة لتشغيل الحاضنات والمرافق الطبية الأساسية.
ودعا الصندوق السلطات الإسرائيلية إلى السماح الفوري والعاجل بإدخال الوقود إلى القطاع المحاصر، محذرا من أن التأخير في الاستجابة لهذا النداء قد يؤدي إلى كارثة إنسانية لا يمكن تداركها.
إعلانواتهمت منظمة العفو الدولية إسرائيل باستخدام تجويع المدنيين سلاح حرب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وقالت إنها حولت طلب المساعدة إلى فخ مميت للفلسطينيين الجائعين.
ودعت المنظمة دول العامل إلى الضغط لرفع الحصار ووقف الإبادة الجماعية فورا، وأضافت "يجب وقف الدعم العسكري لإسرائيل وفرض عقوبات على مسؤوليها والتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية".
من جانب آخر، قالت المقررة الأممية لحقوق الإنسان في فلسطين إن إسرائيل مسؤولة عن واحدة من أكثر عمليات الإبادة وحشية في التاريخ الحديث.
ووصفت آلية تقديم المساعدات عبر مؤسسة غزة الإنسانية بأنها عبارة عن فخ موت مصمم لقتل أو تهجير السكان.
وقالت ألبانيزي إن شركات أسلحة عالمية وفرت لإسرائيل 35 ألف طن من المتفجرات ألقتها على قطاع غزة وهي تعادل 6 أضعاف القوة التدميرية للقنبلة النووية التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية.
وقدمت ألبانيزي اليوم الخميس في جنيف تقريرا أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وطالبت بفرض حظر على الأسلحة وقطع العلاقات التجارية والمالية مع إسرائيل.
ومنذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ترتكب إسرائيل -بدعم أميركي مطلق- إبادة جماعية في غزة خلفت أكثر من 191 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد عن 11 ألف مفقود، فضلا عن مئات آلاف النازحين.