معتصم أقرع: التمويل الأجنبي للسياسة والصحافة والأنجوة
تاريخ النشر: 18th, February 2025 GMT
ترمب هائج في مستودع الخزف الأمريكي. من بركاته عمل هجمة قوية ضد الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. الأوراق أثبتت أنو الوكالة تمول مئات وربما ألاف منظمات المجتمع المدني والصحافة حول العالم.
أتضح أن ٩٠ في المئة من الصحافة الأكرانية تتلقي التمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وهذا جعل الفضاء الإعلامي الأكراني ينحاز لوجهة النظر الأمريكية في قضية الحرب ضد روسيا بغض النظر عن تطابقه أو مجافاته لمصلحة الدولة الأكرانية.
السؤال هو هل تتلقي الصحافة السودانية وصحفييها تمويلا مشابها من جهات خارجية أمريكية أو غير أمريكية؟ وما هي نسبته؟
كتب السودانيون والاجانب الآلاف من الكتب عن تعقيدات ومشاكل السودان واسباب الفشل ولكنهم ذهلوا تماما عن أحد أهم هذه الأسباب: وجود ساسة وكتاب محترفين ياكلون عيشهم من السياسة كقادة عمل عام أو كتاب أو صحفيين.
بالنسبة لهؤلاء، السياسة أكل عيش، لا هي بالواجب الوطني بلا مقابل سوي تلقي النقد والشتيمة ولا هي لتزجية أوقات الفراغ ولا هي بالهواية. ويقول أهل السودان أن المعايش جبارة واكل العيش مر. ومن أجل توفير اللقمة يضطر الغلابة أحيانا لبيع لحمهم في الهوي أو التسول أو السرقة أو تحمل الذل في الداخل والمهاجر.
وفي أوليات حكم البشير أضطر البعض للتظاهر بموالاة النظام وأطالوا الدقون وظهرت دقن سماها الشعب تندرا “من أجل أبنائي”.
ولكن هناك فرق جوهري بين بطل ياكل خرا ويتحمل ذل العمل من أجل أبنائه أو فتاة تبيع نفسها لتعيل أطفال أو كبار في السن وبين سياسي أو كاتب يبيع وطنه بملايين أسره واطفاله. هذا قواد، مجرم فاسد، شديد الفساد فقد أهليته الإنسانية قبل الوطنية.
وفي ذلك خاطب مظفر النواب بائعة هوي في الحانة القديمة وقال:
“نخبك سيدتي ما بعتِ سوى اللحم الفاني.
فالبعضُ يبيعُ اليابس والأخضر
ويدافع عن كل قضايا الكون
ويهربُ من وجه قضيته
سأبولُ عليه وأسكر..”
ليس من المستغرب أن تكون عادة جل (وليس كل) محترفي السياسة والكتابة هو ممارستها من أجل أكل العيش أو علي الأقل تعاطيها بما لا يتعارض مع أكل العيش ويكون ذلك إما بالترويج للباطل باجر أو السكوت عن الحق لحماية الرزق من المخاطر وهذا هو الشيطان الأخرس أو الناطق الإنتقائي. بمعني آخر، لو تعارضت المصلحة الوطنية مع الأجر، يتخذ هؤلاء الموقف السياسي الذي يرضي مصدر رزقه ولتذهب المصلحة الوطنية للجحيم.
لو كنت وكالة مخابرات أو حكومة أجنبية أو حتيدعم سريع تود أن تشتري صحفيين أو ساسة في بلد ما، ماذا تفعل؟ لو دفعت لهم مباشرة ستكون فضيحة لك ولهم. ما العمل؟
الحل بسيط. مرر الكاش عبر منظمة أو أن جي أو – صنعتها أنت أو موجودة أصلا في بلدك أو في بلد ثالث. ومن المهم أن تبدو علي المنظمة الفضيلة ويزينها العفاف وان تكون من إسمها منظمة تعمل من أجل التنمية أو السلام أو الشباب أو المراة أو الديمقراطية. ثم قم توظيف الساسة والكتاب المستهدفين في أعمال وهمية كمستشارين أو موظفين أو باحثين. هكذا تدفع للعملاء من غير أن تحرج نفسك ومن غير أن تحرجهم. وكلو يهون في سبيل الديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان.
معتصم أقرع
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: من أجل
إقرأ أيضاً:
نوبار باشا.. رجل السياسة الذي صنع تاريخ مصر
نوبار باشا، ذلك الاسم الذي يلمع في تاريخ مصر الحديث، هو الرجل الذي ترك بصمة لا تمحى في الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد، ولد في سميرنا عام 1825 في عائلة أرمنية غنية بالخبرة والعلاقات، ومنذ صغره كانت الطريق نحو السياسة والدبلوماسية مفتوحة أمامه.
فقد تعلم في جنيف السويسرية، حيث تتلمذ على العلوم واللغات، وأصبح يعرف الفرنسية والإنجليزية والتركية واليونانية، ما منحه قدرة استثنائية على التنقل بين ثقافات متعددة وعوالم سياسية مختلفة، رغم أنه لم يتقن العربية بشكل كامل.
هذه البداية المتفردة هي التي مهدت له أن يكون رجل دولة محنكا، قادرا على المفاوضات المعقدة، ومطلوبا من الجميع سواء في القاهرة أو في إسطنبول أو باريس.
عندما وصل نوبار مصر، أصبح قريبا من الدوائر السياسية العليا، وصاهر عائلات لها صلة وثيقة بالباب العالي، مما منحه ثقة وامتيازات غير عادية.
عمل في البداية مترجما ومساعدا لعدد من الوزراء والخديويين، وكان له دور بارز في المفاوضات المالية والسياسية، بداية من تسوية حقوق ورثة العرش في إنجلترا، مرورا بتنظيم المرور بين القاهرة والسويس، ووصولا إلى إدارة السكك الحديدية ومشروعات الأشغال العامة.
كانت هذه التجارب المتنوعة بمثابة مدرسة عملية أعدته لتولي أكبر المناصب في الدولة المصرية، وجعلته الشخص المناسب لتشكيل أول حكومة مسؤولة في مصر.
تولى نوبار باشا رئاسة وزراء مصر ثلاث مرات، وكانت كل واحدة من وزاراته انعكاسا لفترة من التحولات الكبيرة، فوزارته الأولى عام 1878 جاءت بعد فترة من الأزمات الداخلية والخارجية، واعتبرت نموذجا للنظارة الأوروبية حيث شغل بعض الوزراء من أجانب، في خطوة أثارت جدلا واسعا.
أما وزارته الثانية، بعد الاحتلال البريطاني، فكانت مرحلة صعبة إذ شهدت إخلاء السودان وضياع أجزاء من الإمبراطورية، ولكنه ظل يمارس عمله بدقة ومهنية، رغم الانتقادات اللاذعة التي وجهت له من المصريين الذين رأوا في تعيين الأجانب وفرض المحاكم المختلطة نوعا من التعدي على الحقوق الوطنية.
وفي وزارته الثالثة، بدا واضحا استسلامه للنفوذ البريطاني، ولكن حتى في تلك المرحلة ظل شخصا لا يمكن تجاهل خبرته وقدرته على إدارة الدولة تحت ضغوط غير مسبوقة.
من أهم إنجازاته الاقتصادية والبنية التحتية، المفاوضات التي أدت إلى إنشاء خط السكة الحديدية بين الإسكندرية والسويس، والعقود التي عززت قدرة الدولة على تنظيم الشؤون المالية والمشاريع الكبرى مثل قناة السويس.
كما ساهم في وضع الأسس القانونية للمحاكم المختلطة، رغم أن تطبيقها أثار جدلا بسبب سلب بعض حقوق الفلاحين والمواطنين، وكان لها أثر كبير على استقلال القضاء والحق في المحاكم الوطنية.
لكن، رغم كل إنجازاته، لم يكن نوبار باشا محبوبا شعبيا، فقد اتهمه المصريون بتفضيل الأجانب، وفرض قيود على الصحافة الوطنية، وهو ما جعل بعض الصحف تغلق في عهده.
حصل أيضا على بعض الامتيازات والعمولات خلال العقود والقروض، مما ألقى بظلال على سمعته، ولكنه يظل شخصا استثنائيا لم يظهر في التاريخ المصري من قبل بمثل هذا التعدد من المناصب والخبرة الدبلوماسية، وهو الرجل الذي عاش بين ثقافات ودول، وحاول دائما أن يجد التوازن بين مصالح مصر ومطالب القوى الكبرى.
توفي نوبار باشا عام 1899 في باريس، ولكن أثره ظل حيا في شوارع مصر وأسماء المدن، فهو الذي أعطى لمصر تجربة أول حكومة مسؤولة، ووضع اللبنات الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة، وتجربة السكك الحديدية والمفاوضات المالية والقانونية.
حتى اليوم، حين نذكر اسمه، نستحضر صورة رجل دولة فريد، عاش بين التحديات والفرص، وسعى دائما لتحقيق ما يراه صالحا لمصر، برغم كل العقبات والانتقادات.
نوبار باشا ليس مجرد شخصية تاريخية، بل هو درس في القدرة على الصبر والعمل في زمن كان فيه التوازن بين الداخل والخارج أصعب ما يكون، ومهما اختلفت آراء الناس عنه، سيظل جزءا من تاريخ مصر الذي لا يمكن تجاوزه أو نسيانه.