كثّف التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضرباته الجوية في سوريا مستهدفا قادة في تنظيم "حراس الدين" بعد أيام من إعلان التنظيم حلّ نفسه، مما يثير تساؤلات عن هدف واشنطن من هذه العمليات، وطبيعة التنسيق المفترض مع الإدارة السورية الجديدة في هذا الصدد.

كان آخر هذه الهجمات يوم الثلاثاء 25 فبراير/شباط الجاري، حيث استهدفت طائرة تابعة للتحالف الدولي قياديا في التنظيم يدعى أبو أحمد الشامي في مدينة جرابلس شرقي حلب، بحسب منظمات حقوقية أكدت أيضا استهداف التحالف قياديا آخر في التنظيم يدعى جعفر التركي شمالي إدلب.

وبذلك يبلغ عدد الاستهدافات لقياديي حراس الدين 4 مرات خلال هذا الشهر، بدأت بتبني التحالف الدولي اغتيال مسؤول الشؤون المالية واللوجيستية للتنظيم يوم 16 فبراير/شباط الجاري، لتعلن بعدها القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) اغتيال القيادي الكبير في التنظيم وسيم تحسين بيرقدار بضربة جوية استهدفت مكان وجوده في مدينة الدانا بريف إدلب الشمالي.

ورغم أن هذه الاستهدافات لتنظيم حراس الدين لا تعد جديدة على التحالف الدولي، فإن السؤال هو عن سبب ارتفاع وتيرتها وتوقيتها بعد إعلان التنظيم حلّ نفسه، وهل ما زال يشكل خطرا على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، أم إن هناك رسائل أخرى تريد واشنطن إيصالها؟

علم تنظيم "حراس الدين" على منصة تليغرام (مواقع التواصل) التأسيس والتصنيف

تشكّل تنظيم حراس الدين بصفته فرعا لتنظيم القاعدة في سوريا، وأعلن عن تأسيسه رسميا يوم 27 فبراير/شباط 2018، ووصف نفسه على صفحاته الرسمية وقتها بأنه ‏"تنظيم إسلامي من رحم الثورة السورية المباركة يسعى لنصرة المظلومين وبسط العدل بين المسلمين، والإسلام هو مصدر التشريع".

إعلان

وتبنى التنظيم أيديولوجية القاعدة السلفية الجهادية، التي تدعو لمهاجمة الغرب وإسرائيل بهدف طرد النفوذ الأجنبي من الأراضي الإسلامية، على حد وصفه.

ولد تنظيم حراس الدين من رحم جبهة النصرة عقب قرارها فك ارتباطها بتنظيم القاعدة عام 2016، حين رفضت مجموعة من القيادات والعناصر هذا الانفصال، متمسكة بولائها للقاعدة، وبعد إعلان تأسيسه توالت الانضمامات إلى صفوف التنظيم على مدى الأشهر القليلة.

وأعلنت 16 مجموعة وفصيلا انضمامها إلى التنظيم الجديد، معظمها مجموعات وكتائب وسرايا منشقة عن هيئة تحرير الشام، من أبرزها جيش البادية وجيش الساحل وسرية كابل وسرايا الساحل وجيش الملاحم وجند الشريعة، ليتحول بذلك الفصيل إلى تنظيم لا يُستهان به في محافظة إدلب والمناطق المحيطة بحماة وحلب واللاذقية.

وصنفت الولايات المتحدة التنظيم "كيانا إرهابيا عالميا" في سبتمبر/أيلول 2019، في حين أدرجه الاتحاد الأوروبي في قائمته للمنظمات الإرهابية في مايو/أيار 2022.

ومنذ بداية التصنيف، تعرض التنظيم لضربات قوية أفقدته معظم قدراته العسكرية وقياداته البارزة، كما قضت سلسلة غارات جوية أميركية على أهم عناصره، وأفقدته موجات من المواجهات مع هيئة تحرير الشام نفوذه في تلك المناطق التي لم يسيطر فيها على بقعة جغرافية محددة، وإنما كان يتنقل وينفذ عملياته على شكل مجموعات صغيرة.

وفي 28 يناير/كانون الثاني 2024، أعلنت قيادة حراس الدين حلّ التنظيم، موضحة أن المهمة انتهت في سوريا بعد "تحرير أرض الشام من الطاغية وانكسار جيشه وفراره".

وقالت قيادة التنظيم، في بيان رسمي نشرته على تليغرام، "نظرا للتطورات على الساحة الشامية وبقرار أميري من القيادة العامة لتنظيم قاعدة الجهاد، نعلن لأمتنا المسلمة ولأهل السنة في الشام حلّ تنظيم حراس الدين".

تنظيم "حراس الدين" حافظ على أيديولوجية السلفية الجهادية وأكد استعداده للعودة إلى القتال إذا لزم الأمر (رويترز) مخاوف أميركية

منذ بداية العام الحالي تعرض التنظيم لست ضربات جوية من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، استهدفت كبار قياداته العسكرية والمالية، ويرى محللون أن هذا التصعيد قد يرتبط برغبة أميركية في تصفية بنك أهدافها قبل الشروع في مرحلة جديدة من العلاقات مع السلطات السورية الجديدة، في حين يراه مختصون في الحركات الإسلامية أنه يعود إلى وجود مخاوف أميركية من نشاط هذا النوع من التنظيمات الأيديولوجية العابرة للحدود، على الرغم من إعلانه حل نفسه.

إعلان

وتعليقا على هذه المخاوف، يرى الباحث في الشؤون العسكرية وجماعات ما دون الدولة عمار فرهود أن الاستهدافات الأميركية المتواصلة لشخصيات من "حراس الدين" رغم إعلان التنظيم حلّ نفسه، وغياب نشاطه العلني على مدى سنوات سبقت هذا الحل، مرتبط باحتمال أن تشكل هذه الشخصيات خطرًا مستقبليا حسب وجهة النظر الأميركية.

وعن هذه المخاطر، يشير فرهود، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن الولايات المتحدة تدرك أن الهوامش التي توفرت في سوريا لتنظيم حراس الدين وغيرها من الجماعات المصنفة على قوائم الإرهاب بعد سقوط نظام الأسد على مستوى حرية الحركة وتأمين السلاح وأوراق السفر، أصبحت كبيرة.

ويضيف فرهود أن هذا الواقع يرفع حالة التأهب لدى الولايات المتحدة، مما يدفع لاستهداف شخصيات كانت فاعلة ثم خرجت من التنظيم، ومن الممكن أن تساعد حراس الدين في بعض نشاطاته من خلال هذه الهوامش ولذلك تم استهدافها، وإلا فلماذا استهدفت هذه الشخصيات اليوم ولم تُستهدف بهذا الحجم عندما كانت فاعلة؟ يتساءل الباحث.

وتؤكد القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) بشكل دائم في تقييماتها أن حراس الدين يمثل امتدادا لتنظيم القاعدة في سوريا، ويشاركه رؤيته في استهداف المصالح الأميركية والغربية على المستوى العالمي.

إجراء شكلي

يبدو واضحا من خلال تكرار الاستهداف الأميركي لقيادات التنظيم في الآونة الأخيرة أن الولايات المتحدة تتعامل معه على أنه تنظيم نشط ولن يحلّ نفسه عمليا، وما يدعم هذا الاحتمال هو عدم وجود تقارير تشير إلى تفكيك التنظيم معسكراته، وتسليم أسلحته إلى الإدارة السورية الجديدة، مما يعني -بحسب باحثين في الجماعات الجهادية- أن قرار الحل كان إجراءً وقائيا لتخفيف الضغط العسكري والاستخباراتي عليه، وليس إنهاء حقيقيا لوجوده.

وفي هذا السياق، حمل البيان الذي تضمن إعلان التنظيم حل نفسه، إشارات إلى إمكانية إعادة تنظيم صفوفه إذا ما دعت الظروف لذلك، إذ أكد البيان أن "أتباع التنظيم يعدون الأمة بأنهم سيبقون من جنودها المستجيبين لأي نداء نصرة واستغاثة في أي بقعة من ديار المسلمين".

إعلان

من ناحيته، يوضح الباحث في الجماعات الجهادية حسن أبو هنية أن إعلان حراس الدين حل نفسه لا يفهم منه مطلقا التخلي عن أيديولوجيته المعروفة، لا سيما أيديولوجيته الجهادية في مواجهة أميركا وإسرائيل، وبالتالي فإن هذا البيان شكلي لنزع أي مبررات لاستهدافه سواء من الإدارة الجديدة أو التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.

ويوضح أبو هنية، في حديثه للجزيرة نت، أنه على الرغم من حالة الضعف والتراجع التي عانى منها التنظيم بشكل كبير في السنوات الأخيرة، فإنه بقي موجودا لأنه منذ تأسيس تنظيم القاعدة في خراسان يعتبر أن فلسطين قضية مركزية، وأن المدخل لفلسطين هو بلاد الشام "درة تاج القاعدة"، والتي تخلق ملاذات آمنة للقاعدة في محيط فلسطين، كما يركز على أن الشام أيضًا أرض الملاحم آخر الزمان للمواجهة الحتمية ضد إسرائيل.

وبناءً عليه، فإن تنظيم القاعدة لن يتخلى عن محاولة إعادة تنظيم صفوف "حراس الدين"، مستغلاً حالة الفوضى في سوريا بعد سقوط النظام، وهذا ما يخيف الولايات المتحدة، ويدفعها لاستمرار استهداف قياداته وتقويض تحركاته، بحسب الباحث أبو هنية.

وكان التنظيم قد أقر رسميا وللمرة الأولى في بيان حل نفسه ارتباطه بالقاعدة، مؤكدا على رمزية بلاد الشام بقوله "ننصح أهل السنة في الشام بعدم ترك السلاح وتجهيز أنفسهم للمراحل القادمة التي أخبرنا بها نبينا محمد، فأرض الشام أرض الملاحم الكبرى، ومقبرة للطغاة والمستعمرين، وفسطاط للمسلمين في قتالهم لليهود ومن يلونهم من أعداء الدين".

تنظيم "حراس الدين" – فرع القاعدة في سوريا يعلن حلّ نفسه pic.twitter.com/qxWTWLCU0p

— مُضَر | Modar (@ivarmm) January 28, 2025

رسائل للداخل الأميركي

إضافة للأهداف الأمنية والعسكرية التي تعلن عنها الولايات المتحدة من خلال استهداف تنظيم حراس الدين أو غيره من التنظيمات المصنفة على قوائم الإرهاب الأميركية في سوريا، تحمل هذه العمليات أيضا رسائل تهدئة إلى الداخل الأميركي، وذلك بعد حالة الجدل التي أثارها الانسحاب الأميركي من أفغانستان عام 2021، حيث اتهمت اتجاهات عديدة الإدارة الأميركية بـ"التهور" في عملية الانسحاب.

وكان العديد من المسؤولين الأميركيين حذروا من قرار الانسحاب من أفغانستان، مبررين ذلك بأن "القاعدة" ستعيد تنظيم صفوفها في هذا البلد، ومن أبرز هؤلاء المسؤولين ديفيد كوهين نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية خلال كلمته في "قمة الاستخبارات 2021" التي عُقدت في واشنطن، حيث قال إن "تنظيم القاعدة يمكن أن يشكل تهديدا للولايات المتحدة الأميركية في غضون عام أو عامين بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان"، وأعرب عن توقعاته بأن "القاعدة ستقوى مجددا في أفغانستان".

إعلان

وبناءً على هذه القراءة، يوضح الباحث أبو هنية أن بيان حل "حراس الدين" نفسه يشابه ويتناسب مع التحولات التي طرأت على تنظيم القاعدة عندما أخفى وجوده أيضا بعد سيطرة طالبان على أفغانستان، ومقتل الظواهري، وتولي سيف العدل قيادة تنظيم القاعدة.

يشار إلى أن أهمية العمليات ضد "حراس الدين" استدعت تعليقًا من الرئيس الأميركي دونالد ترامب في خروج عن سياق التعليقات التي كانت تصدر عن الإدارة الأميركية عند مقتل قيادات ذات ثقل تنظيمي كبير مثل قادة تنظيم الدولة الإسلامية، إذ كتب ترامب يوم 18 فبراير/شباط الجاري، عبر منصة "تروث سوشيال"، أن الولايات المتحدة نفذت غارة جوية دقيقة ضد "أحد أعضاء تنظيم القاعدة في سوريا، حيث كان الزعيم الإرهابي يعمل مع تنظيم القاعدة بجميع أنحاء المنطقة".

وأشاد الرئيس الأميركي بقوات السنتكوم التي نفّذت العملية بالقول "تهانينا لقائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال مايكل كوريلا والمقاتلين الأميركيين الذين حققوا العدالة لجهادي آخر يهدد أميركا وحلفاءنا وشركاءنا".

#عاجـــــــــــــــــــــــل

الأنباء الأولية تقول أن المستهدف بطيران #التحالف هو طلحة أبو عمران الشامي مسؤول الأمن الداخلي في تنظيم حراس الدين سابقاً وصاحب مطعم الريحان

يتبع… pic.twitter.com/4C3LIB5zMV

— مزمجر الثورة السورية (@mzmgr941) February 21, 2025

ما دور الإدارة السورية الجديدة؟

اتسمت العلاقة بين تنظيم حراس الدين وهيئة تحرير الشام، التي كانت تحت قيادة أحمد الشرع، بالتوتر المستمر، ويرجع ذلك أساسا إلى الخلاف الجذري بشأن قرار فك الارتباط بتنظيم القاعدة.

وكان الشرع قد لاحق العديد من قيادات حراس الدين بعد إعلانهم تأسيس التنظيم، واعتقل العديد من كوادره وقياداته حتى استطاع تقريبا تفكيك التنظيم بحلول عام 2020.

وحول دور الإدارة الجديدة في هذا الموضوع، يعتقد الباحث أبو هنية أنه في المفاوضات بعد سقوط النظام كانت هناك اتصالات بين الإدارة الجديدة والولايات المتحدة تتحدث عن تعاون أمني في قضية ما يسمى محاربة الإرهاب، وهناك نوع من الاتفاق.

إعلان

لكن الباحث عمار فرهود ينفي وجود تعاون بهذا المستوى بين الإدارة الجديدة وواشنطن، ويرجح استمرار هذه الاستهدافات في ظل وجود سلطة حالية في سوريا غير قادرة على ضبط المشهد الأمني من وجهة نظر واشنطن، التي لم تعتبر أن ملف هذه الجماعات لا يزال تحت سيطرتها وليس منوطًا بالإدارة السورية الجديدة، مما يعني أن الولايات المتحدة ستحافظ على أمنها بيدها من خلال هذه الضربات.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الإدارة السوریة الجدیدة أن الولایات المتحدة المرکزیة الأمیرکیة تنظیم القاعدة فی تنظیم حراس الدین القاعدة فی سوریا الإدارة الجدیدة التحالف الدولی فبرایر شباط أبو هنیة من خلال حل نفسه فی هذا

إقرأ أيضاً:

المليارات السبعة التي أهدرناها لقصف بلد لا نعرف موقعه على الخريطة

ترجمة: أحمد شافعي -

أدت فضيحة سيجنال إلى صيحات غضب عارم من الطريقة التي تبادل بها المسؤولون في إدارة ترامب رسائل نصية غير مؤمَّنة عن الضربات العسكرية لليمن. ولكن من ينقب أكثر يجد فضيحة أكبر.

هي فضيحة سياسة فاشلة تقوي «عدوا» للولايات المتحدة، وتضعف أمننا وسوف تكبدنا وفاة آلاف الأنفس. وهي فضيحة تلوث أيضًا الرئيس جو بايدن لكنها تبلغ حضيضها في ظل حكم الرئيس ترامب.

يرجع الأمر كله إلى هجمة حماس على إسرائيل في أكتوبر من عام 2023، ورد إسرائيل الهمجي بتسوية أحياء كاملة من غزة بالأرض. إذ سعى نظام الحوثيين في اليمن إلى الظفر بدعم إقليمي من خلال مهاجمة سفن يفترض أنها موالية لإسرائيل حال مرورها على مقربة منه في البحر الأحمر. (وواقع الأمر أنهم ضربوا شتى السفن).

والمشكلات في العلاقات الدولية أكثر من الحلول، وقد كان هذا مثالا كلاسكيا: فقد كان نظام الحكم في اليمن يعوق التجارة الدولية، ولم يكن من سبيل يسير لإصلاح ذلك الأمر. فكان أن رد بايدن بعام كامل من الضربات لليمن استهدفت الحوثيين بتكلفة مليارات الدولارات لكن دونما تحقيق أي شيء واضح.

وبعد توليه السلطة، زاد ترامب من الضغط المفروض على اليمن. إذ قلل المساعدات الإنسانية في العالم كله، وتضرر اليمن بصفة خاصة. ولقد كانت آخر زيارة لي إلى اليمن في عام 2018، حين كان بعض الأطفال بالفعل يموتون جوعا، والآن بات الحال أسوأ: فنصف أطفال اليمن دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية - و«هذه إحصائية لا مثيل لها في العالم» بحسب اليونيسيف - وجاء تقليص المساعدات فأرغم ألفي برنامج تغذية على إغلاق أنشطتها وفقًا لتصريح توم فليشر منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة. وقد ألغت الولايات المتحدة شحنة معجون فول سوداني كان يفترض أن تنقذ حياة نصف مليون طفل يمني.

ستكون الفتيات أكثر عرضة للوفاة، لأن الثقافة اليمنية تحابي الذكور. فقد أجريت ذات يوم حوارا مع فتاة اسمها نجود علي تزوجت رغم أنفها وهي في العاشرة. ويجري الآن أيضا تقليص برامج المساعدات الرامية إلى تمكين الفتيات اليمنيات بتقليل زواج الأطفال.

أشك أن إيلون ماسك - الذي تباهى بوضع برامج مساعدات التغذية في الطاحونة - سيقول إننا لا نقدر على مساعدة فتيات صغيرات في اليمن. فهو أغنى رجل في العالم، فقد تكون لديه دراية خاصة بالاستعمال الأمثل لمليون دولار يمثل التكلفة اليومية لستة أسابيع من معجون الفول السوداني الكفيل بإنقاذ حياة طفل جائع.

في الوقت نفسه، فإن الأموال الحقيقية التي تنفقها أمريكا في اليمن هي أموال القنابل، لكن فريق ماسك في إدارة الكفاءة الحكومية بما لديهم من مطاحن للتكاليف بدوا غافلين عن هذه التكلفة. وفي حين وفرت الولايات المتحدة مبالغ بسيطة من خلال السماح بجوع الفتيات الصغيرات، فقد صعدت حملة بايدن القصف في اليمن، بضرب أهداف على نحو شبه يومي. فكانت تكلفة الشهر الأول فقط من حملة ترامب للقصف أكثر من مليار دولار من الأسلحة والذخائر.

أسقط الحوثيون في ستة أسابيع فقط سبع مسيرات من طراز (MQ-9 Reaper) تكلفة الواحدة منها ثلاثون مليون دولار، وخسرت الولايات المتحدة طائرتين مقاتلتين من طراز (F/A-18 Super Hornet) بتكلفة سبعة وستين مليون دولار للواحدة.

يطرح مركز أبحاث «أولويات الدفاع» بواشنطن تقديرا مقنعا مفاده أن الولايات المتحدة أنفقت من خلال بايدن وترامب أكثر من سبعة مليارات دولار لقصف اليمن على مدى أكثر قليلا من عامين. ويبدو أن أغلب هذا الرقم قد تم إنفاقه بإشراف بايدن.

وافقت ليندا بيلمز -خبيرة تكاليف الصراع العسكري في جامعة هارفرد- على أن سبعة مليارات دولار تمثل تقديرا منطقيا بعد إدراج تكلفة نشر حاملات الطائرات وأجور القتال، وعوامل أخرى. وقالت: إن «إنفاق الولايات المتحدة لا يكافئ إنفاق الحوثيين، فنحن ننفق مليون دولار على الصواريخ للرد على مسيّرات الحوثيين إيرانية الصنع التي تتراوح تكلفتها بين مائتي دولار وخمسمائة».

ما الذي حققته مليارات الدولارات السبعة؟ قلل القصف الأمريكي من قدرات الحوثيين بدرجة ما وقتلت أيضا ما لا يقل عن مائتين وستة من المدنيين في شهر أبريل وحده وفقًا لـ(مشروع بيانات اليمن) غير الربحي. كما قللت حملة القصف أيضا من قدرة أمريكا العسكرية من خلال استهلاك ذخائر ثمينة. وعل مدى أكثر قليلا من عامين، يبدو أن الحوثيين قد أسقطوا نحو 7% من مخزون أمريكا الكامل من مسيّرات (MQ-9 Reaper).

لقد أعلن ترامب في مارس أن حملة القصف هذه سوف تؤدي إلى «إبادة كاملة» للحوثيين. لكنه تراجع في الشهر الحالي، وأعلن «توقفا» للعمليات الهجومية. وحفظ ماء وجهه بوعد من الحوثيين بعدم استهداف السفن الأمريكية، ولكن تلك لم تكن المشكلة الأساسية، فالغالبية الكاسحة من السفن التي تعبر البحر الأحمر ليست أمريكية. والنتيجة أن الحوثيين - الذين أتفهم شعورهم بالنصر - قد أعلنوا النصر من خلال هاشتاج «اليمن تهزم أمريكا [Yemen defeats America].

بالنظر إلى الأمر بأثر رجعي، نرى أن ترامب صعّد سياسة بايدن الفاشلة، لكنه أظهر أيضا مقدرة أكبر من بايدن على تصحيح أخطائه.

ما الذي يمكن أن يفعله ترامب لإيقاف هجمات الحوثيين على السفن؟ الخطوة الواضحة هي الضغط على إسرائيل بدرجة أكبر لقبول صفقة تيسر رجوع الرهائن جميعا وتحقيق هدنة دائمة في غزة.

في الوقت نفسه، لم يستأنف ترامب المساعدة الإنسانية، ولذلك يموت أطفال اليمن جوعا.

أخبرتني ميشيل نان ـ رئيس منظمة كير CARE - أن تقليل المساعدات الأمريكية تعني ألا تستطيع منظمتها الاستمرار في مساعدة أكثر من سبعمائة وثلاثين ألف يمني في الحصول على المياه النظيفة وعلى خدمات أخرى. وحكت لي عن فتاة عمرها عامان، تدعى مريم، وصلت إلى عيادة متنقلة ووزنها لا يتجاوز أحد عشر رطلا وتشارف على الموت بسبب سوء التغذية. استطاع مسؤولو الصحة في كير أن ينعشوا مريم، فبدأت تتعافى، ثم أوقفت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية البرنامج. ولا يعرف عمال المساعدة الآن إن كانت مريم قد نجت.

إنني أتفهم الشك الأمريكي في تقديم المساعدة الإنسانية لأطفال اليمن، إذ يدير الحوثيون دولة بوليسية مدعومة من إيران لها تاريخ في تسليح المساعدات. غير أن حملتنا القائمة على القصف والتجويع قد تقوي الحوثيين، وتجعل نظامهم الحاكم قليل الشعبية أشبه بحامي حمى الأمة ويزيدهم قربا من إيران.

قال لي جريجوري دي جونسن خبير شؤون اليمن في معهد دول الخليج الغربي إن «تقليل المساعدات الإنسانية لليمن لا يرجح أن تفيد أحدا عدا الحوثيين، فمع تفاقم الوضع الإنساني المزري أصلا بسبب قطع المساعدات، لن يكون للأسر المقيمة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين إلا أن تقف في صف الجماعة سعيًا يائسًا منها إلى النجاة».

والخلاصة حسبما قال جونسن: هي أن الحوثيين سوف «يزيدون ترسيخ وجودهم في السلطة، بما يزيد من صعوبة اقتلاعهم منها لاحقا». واليمن لم يطرح لنا قط خيارات جيدة. ولكن في خياراتنا السيئة على نحو غير معهود أرى حكاية تحذيرية عن النتائج المترتبة على تكاليف السياسة الخارجية المتخبطة: جوع، وصبية وفتيات يموتون، وإضعاف للأمن الأمريكي وانتصار لخصومنا، وكل ذلك بتكلفة سبعة مليارات دولار من ضرائبنا. وإذن، هذه فضيحة.

نيكولاس كريستوف يكتب في صفحة الرأي بنيويورك تايمز منذ عام 2001

خدمة نيويورك تايمز

مقالات مشابهة

  • جانين فارس بيرو المدعية العامة التي حققت حلم طفولتها في واشنطن
  • ضغط أم عقاب.. لماذا ألغى نائب ترامب زيارة إسرائيل؟
  • الأمم المتحدة: المساعدات التي دخلت إلى غزة قطرة في محيط
  • ذي هيل: تجنب ترامب زيارة إسرائيل إشارة إلى أن نتنياهو لم يعد حليفا
  • ذي هيل: تجنب ترامب زيارة إسرائيل إشارة أن نتنياهو لم يعد حليفا
  • موديز تخفض التصنيف الائتماني لأمريكا على وقع تصاعد الدين العام والإنفاق الحكومي
  • المليارات السبعة التي أهدرناها لقصف بلد لا نعرف موقعه على الخريطة
  • عقدة أوكرانيا.. لماذا فشل الغرب في هزيمة روسيا حتى الآن؟
  • تهديد لمقاتلة F-35 الأمريكية التي تكلّف مليارات الدولارات! صواريخ اثارت ذعر واشنطن
  • تأجيل محاكمة 3 متهمين بـ "تنظيم نور الدين زنكي" التابع لجبهه النصره لـ 14 يونيو