عبد الله علي إبراهيم
علمانية الدولة
بدا أن جائزة عبدالعزيز الحلو التي أغرته بـ"تأسيس" هو قبولها بغير شيء من ضرب الأخماس في الأسداس أن تنص وثيقتها صريحاً على مطلب "علمانية الدولة" (في الديباجة) كما لم يفعل عهد سوداني من قبل. وعلمانية الدولة عقيدة مؤثلة للحلو اضطر أحياناً إلى استبدالها بـ"فصل الدين عن الدولة" في وثائق وقعها مع طيف واسع من الأحزاب السودانية وحتى مع الفريق ركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة عام 2021.

وطالما هبت الريح علمانية ناحيته جاء الحلو إلى الوثيقة بمطلب أذاعته حركته وهو أن ينص الدستور القادم على "مبادئ فوق دستورية" مثل العلمانية وهي التي لا تخضع للتعديل مثل غيرها التي ينص الدستور على إجراءات تعديلها. فهذه المبادئ فوق الدستورية في الحفظ والصون ومتى أراد أحد تغييرها صار من حق الجماعات السودانية المتضررة نفض يدها عن البلد بممارسة حق تقرير المصير (الباب الأول المادتان 3 و7).
ومع اقتناع كثر بأن فصل الدين عن الدولة بصورة أو أخرى أزف بدليل أنه ورد مكرراً تكراراً مزعجاً في وثيقة "اتفاق سلام جوبا" إلا أن إصرار الحلو على "توثين" علمانية الدولة، توثيناً يعتزل بها الصراع السياسي الذي قد ينال من العلمانية وحتى الديمقراطية، فهو حال استثنائية في عبادة مبدأ سياسي خلت منه المبادئ. وبدا من الحلو من فرط هذا التوثين أنه مصاب بـ"الأصولية العلمانية" التي حذرنا منها جون إسبسيتو الأستاذ بجامعة "جورج تاون"، تحذيره من الأصولية الدينية. فمعرفتنا الراهنة بالدين في رأيه هي "بنت ضغينة علمانية تمكنت من الصفوة الحديثة". فغالباً ما جرى التعامل مع الدين بلا مبالاة أو بعداء صريح. ويقع تحذير "إسبسيتو" من الأصولية العلمانية في سياق مراجعة لعلاقة الدين بالعلمانية انعقدت منذ عقود. فالأكاديمي الأميركي كريق كالهون من المراجعين، صرف من اعتقد أن العلمانية حال خالصة خلت من الدين بالكلية. فقال "غالباً ما أخذنا العلمانية كحالة غياب عما عداها. فهي في اعتقادنا ما يتبقى لنا متى تلاشى الدين لا من السياسة فحسب، بل من الوجود" كما كان مطلب الثورة الفرنسية وممارستها في أول عهدها حتى بدلت الفرنسيين، وإلى حين، ديناً أحسن من دينهم في رأيها.
ونبه نيكلوس كريستوف الصحافي في "نيويورك تايمز" في أعقاب ذيوع العبارة الدينية في عهد الرئيس جورج بوش الابن إلى القطيعة القائمة بين الصحافة الليبرالية و"المهتدين الجدد" من الأميركيين. فيؤمن، إحصائياً، 48 في المئة من الأميركيين، في قوله، بخلق الله للعالم في سبعة أيام بينما يؤمن 28 في المئة منهم بمبدأ داروين. ويعتقد الأميركيون بنسبة الثلثين أو يزيد بوجود الشيطان بأكثر من صدقية نظرية داروين. وتعيش هذه الجماعة المهتدية بمعزل عن الليبراليين في ثقافتها المستقلة. فمن بين أكثر الكتب مبيعاً سلسلة كتب مسيحية عن نهاية الكون وزعت 50 مليون كتاب. ومن بين أكثر مقدمي برامج التلفزيون شهرة داعية إنجيلي يشاهده الناس داخل 190 قطراً في العالم. ومن يرى ليومنا طي خيام الليبرالية بيد إدارة الرئيس ترمب صدق قول من سمى تدين الدولة في عهد بوش بـ"الصحوة الدينية الرابعة" خلال الـ300 عام من عمر أميركا. فاللدين طرائق قدداً في الأوبة بعد الغيبة.
إعادة تأسيس
اتفق لـ"تأسيس" إعادة تأسيس كل القوى العسكرية والأمنية والخدمية المدنية من أول وجديد. فسينشأ بمقتضى وثيقتها جيش جديد مهني وقومي يمثل الطيف السوداني وتحت قيادة مدنية. وهو جيش خلا من الولاءات السياسية والجهوية والإثنية ولا تداخل له في السياسة والاقتصاد. وستكون إعادة الـتأسيس هذه حين يغلب حلف "تأسيس" ويمسك بزمام الدولة (الباب الأول 14). وحتى ذلك اليوم ستحتفظ الجماعات المسلحة الموقعة على "تأسيس" بقواتها العسكرية، أو ما وصفته الوثيقة بالاستمرار في "الكفاح المسلح كوسيلة من الوسائل المشروعة للمقاومة والنضال من أجل التغيير وبناء السودان (الباب الأول 20). فصاروا في حال بخلاء الجاحظ. جلسوا حول قدر ماء يغلي رمى فيه كل واحد منهم بقطعة لحمه مشدودة إلى الخيط لتنضج، فتفرق طعامهم بينما القدر واحد.
وبدا من نص "تأسيس" أن رهاب الإسلاميين "الكيزان" هو ما أوحى حصرياً به. فلم تكتف "تأسيس" بحل حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وتفكيكهما (الباب الأول 32) بل نصت على تحريم قيام أي حزب أو تنظيم سياسي على أساس ديني. وربما أبعدت الوثيقة النجعة هنا لاعتقادها أن "الكيزان"، الذين أقاموا بالحق نظاماً سياسياً كئيباً، هم آخر من يرغب أن تؤوب الدولة للدين. فلا استنفاد لرغائب أمة من المسلمين ولا لعزائمهم في أن يحكموا دينهم فيهم هم، لا في غيرهم، مما ساحته التشريع المنتظر، أي القنطرة البعيدة لا تزال. وهي القنطرة التي جاءت في الوثيقة بدعوتها الالتزام بمبدأ العمل السياسي السلمي في السودان الجديد على "أسس وقواعد ومبادئ النظام الديمقراطي والشرعية الدستورية" (الباب الأول 19). وبالطبع سارعت الوثيقة في نصها هنا لتجريم "استغلال الدين لأغراض سياسية". وهذا بلا مراء خرق للديمقراطية التي جاءت في النص والتي تقوم على المنافسة من فوق برامج سياسية على مرأى من ناخبين ومسمع. فجذم آصرة الدين عن السياسة هو ما أوقعتنا فيه عبارة "الإسلام السياسي" التي ناسبت خصوم المشروع الإسلامي ليقولوا إن ثمة إسلام آخر غير سياسي، وكفى به.
وساق هذا الرهاب من الإسلام إلى نوع هوس، فلم تكتف "تأسيس" بتحصين العلمانية كمبدأ فوق دستوري يأذن للجماعة المتضررة كما رأينا بالطلاق من الأمة متى جرى انتهاكه، بل سارعت بتجريم حتى قيام الحزب الذي يدعو لغير العلمانية. ولو صح أن تكون المظالم من "نظام الإنقاذ" هي مبلغ علمنا في تدبير شأننا السياسي لجرمت "تأسيس" قيام الأحزاب على أساس إثني. فهول الإثنية والسلالية على السودان ليس أقل من هول الحزب الديني عليه. ولكن لم يطرأ لواضعي "تأسيس" منع قيام الحزبية على الإثنية والقبائلية لأنه ما اجتمع في نيروبي إلا كل ذي عصبية منهما. ويكفي أن بين الموقعين على "تأسيس" ممثل لـ"مؤتمر البجا" وهو شعب في شرق السودان.
تَطَيُر الصفوة من حلف نيروبي وشفقتهم من أن يؤدي إلى تقسيم السودان وظيفة لاكتفائها من الواقعة دون نصها. فمن قرأ "تأسيس" في سياقاته التاريخية وملابساته المعاصرة أشفق على أهله قبل السودان لأنهم صدروا فيه عن غبائن من "الكيزان" كأن نجاة السودان في إلغائهم. فرهنوا بذلك أنفسهم لعادة معارضة الكيزان أو اللوثة بهم، لا يزال، بينما استحق السودان جرأة في تخيله تضع "دولة الإنقاذ" حيث هي في ذمة التاريخ مهما بدا من انتفاش منها يحاكي صولة الأسد. فمن شأن قراءة مثل "تأسيس" أن تزيل في قول أحدهم "المحق الدارج والمفازع المبالغ فيها".

[email protected]

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: علمانیة الدولة الباب الأول

إقرأ أيضاً:

4 محاور مصرية في السودان تهددها خلافات “الرباعية”

ينعكس التباين بين الدول المعنية في الشأن السوداني على عمل اللجنة الرباعية الخاصة بأزمة السودان (الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر)، إذ أُرجئ اجتماع كان مقرراً نهاية يوليو/تموز الماضي، بسبب خلاف بين القاهرة وأبوظبي حول صياغة البيان الختامي ولغته تجاه الأطراف المتحاربة بحسب ما نقلت وكالة فرانس برس في 30 يوليو الماضي. وذكرت الوكالة يومها أن أبوظبي أدخلت تعديلاً على مسودة بيان وزعته واشنطن، وينص التعديل “على عدم وجود أي حضور للجيش وقوات الدعم السريع في العملية الانتقالية المستقبلية”، ما اعتبرته القاهرة “غير مقبول”.

تحرك القاهرة
بحسب مراقبين، فإن المصالح المصرية ترتكز على أربعة محاور تتحرّك معاً، أولها الأمن الحدودي والردع الوقائي. ووجه لقاء وزير الدفاع عبد المجيد صقر بعدد من مقاتلي المنطقة الجنوبية العسكرية، الجمعة الماضي، رسالة بأن الجبهة المصرية تراقب وتُظهِر جاهزية لاحتواء أي تسلل جماعي أو تحركات مسلحة عبر الصحراء الغربية–الجنوبية ومثلث الحدود مع ليبيا والسودان. يتكامل ذلك مع تعاون قبلي–محلي واتصالات ميدانية قديمة على خطوط الإمداد، إلى جانب قناة دبلوماسية ثنائية ظهرت في استقبال رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس في القاهرة، الخميس الماضي، لتثبيت دوره مصر “راعية للدولة السودانية”، وتوسيع هوامش التفاهم المباشر مع القيادة التنفيذية في بورتسودان على ملفات الإغاثة والمعابر والطاقة والعمالة (عمال).
أما المحور الثالث، فهو المسار متعدد الأطراف، فرغم تعثّر “الرباعية”، لا تزال مصر تعتبر التنسيق مع الرياض وواشنطن ضرورة، بما في ذلك الربط بين ملفات السودان والقرن الأفريقي، وكبح امتدادات الصراع نحو ليبيا وتشاد، إذ لا يلغي الخلاف مع أبوظبي الحاجة إلى ترتيبات عملية حول المساعدات والضغط السياسي. وأخيراً، يأتي الاعتبار الإنساني–السياسي، إذ إن فظائع دارفور (غربي السودان، مثل مجزرة مخيم زمزم في إبريل/ نيسان الماضي) أعادت تسليط الضوء على كلفة استمرار الحرب على المدنيين وعلى سمعة الأطراف الداعمة (لطرفي الحرب). فالقاهرة تُدرك أن أي انهيار أوسع سيولِّد موجات نزوح وضغطاً دولياً على معابرها وخطوطها الجوية–البحرية.

ويؤكد خبراء أن القاهرة تريد وقف نزيف مدينة الفاشر (عاصمة ولاية شمال دارفور) وإقليم دارفور بتفاهمات ميدانية تُعيد فتح الممرات الإنسانية، مع ضغطٍ دبلوماسي لإيقاف أي إمداد خارجي يُؤجّج المعركة. يأتي ذلك إلى جانب ترسيخ مرجعية سياسية تُبقي على مؤسسات الدولة السودانية وتمنع “شرعنة الأمر الواقع” التي قد تنتجها مكاسب ميدانية لـ”الدعم السريع”. بالإضافة إلى عزل مسرح الصراع عن الحدود المصرية ومنع قيام “حزام فوضى” يمتد من جنوب ليبيا إلى شمال السودان، وهو ما يتطلّب، عملياً، تنسيقاً أمنياً مصرياً–سودانياً أوسع، وتفاهمات هادئة مع اللاعبين الإقليميين المختلفين مع القاهرة في التكتيك. لكن خلافات الرعاة الإقليميين، وتباين الحسابات بين القاهرة وأبوظبي داخل “الرباعية”، تُضعف القدرة على إنتاج رافعة ضغط موحّدة على الأطراف السودانية.
علاقات السودان ومصر
وقال السفير المصري السابق لدى السودان حسام عيسى إنه “من المعتاد أن تكون القاهرة أو الخرطوم هي الوجهة الأولى لأي مسؤول رفيع المستوى في البلدين”، مشيراً لـ”العربي الجديد” إلى أن ذلك جرى في مناسبات سابقة سواء من الجانب السوداني أو المصري، معتبراً أن زيارة إدريس تأتي في إطار “الجهود المصرية لدعم إعادة إعمار السودان بعد تحرير الجزء الأكبر من أراضيه على يد القوات المسلحة السودانية”. وأوضح أن هذه الجهود تشمل “إعادة تشغيل جسر الشحن البري واستئناف المشروعات التنموية المشتركة، وكذلك تسهيل عودة أعداد كبيرة من أفراد الجالية السودانية في مصر إلى بلادهم بشكل طوعي، لبدء إعادة الحياة في المدن السودانية الكبرى، وعلى رأسها الخرطوم والجزيرة وسنار”.
من جهته، رأى الخبير الاستراتيجي والعسكري معتصم عبد القادر أن العلاقات السودانية المصرية هي “علاقات استراتيجية راسخة، لا تختزل في زيارة أو لقاء بعينه”، مشيراً لـ”العربي الجديد” إلى أن هذه الزيارات “مستمرة بطبيعتها، لكن اختيار رئيس الوزراء السوداني القاهرة أولَ وجهة خارجية له يعكس إدراكه، وإدراك الجميع، متانة الروابط بين البلدين والتأثير المتبادل بين أمنهما القومي”.
وفي رأيه، زيارة رئيس الوزراء السوداني تحمل أيضاً “بعداً عملياً يتعلق بإعادة بناء البنية التحتية للدولة السودانية، إلى جانب مواصلة ترسيخ العلاقات بين البلدين”. وفي ما يتعلق بالتطورات العسكرية الأخيرة، رأى عبد القادر أنها “تؤكد أن الجيش السوداني بات يفرض سيطرة كاملة على الأجواء السودانية، وهو ما يعكس تطوراً نوعياً في بنيته، وإعادة تأهيل معداته وآلياته وخططه، في إطار معركته لحسم التمرد الذي انزوى بعيداً في الركن القصي من الحدود السودانية التشادية (إقليم دارفور)”.

العربي الجديد

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • إدارة الإعلام والاتصال في وزارة الدفاع لـ سانا: تؤكد وزارة الدفاع ضرورة التزام “قسد” بالاتفاقات الموقّعة مع الدولة السورية، والتوقف عن عمليات التسلل والقصف والاستفزاز التي تستهدف عناصر الجيش والأهالي في مدينة حلب وريفها الشرقي، وأن استمرار هذه
  • جنرال إسرائيلي: لماذا لم تُهزم “حماس” بعد كل الضربات التي تلقتها؟
  • توجيه عاجل من “المركزي” إلى كل البنوك السودانية
  • “الدين والمجتمع”.. حوار مفتوح لتعزيز القيم الأخلاقية في الإعلام ” صور وفيديو “
  • تعرف على أعداد وقيمة الأرقام المميزة “ترميز 1” التي تم بيعها بأقل من 24 ساعة
  • الحلو يدفع بقوات جديدة نحو الفاشر.. هل بدأت حكومة “تأسيس” اللعب بالنار؟
  • 4 محاور مصرية في السودان تهددها خلافات “الرباعية”
  • ماذا وراء خطة نتنياهو بشأن غزة التي “لا ترضي أحدا”؟
  • وحدة “التيّار الديمقراطيّ الأردني” …!
  • “الكتلة الديمقراطية” تصعّد لهجتها مع الحكومة.. وتخوفات من تعديل الوثيقة الدستورية والإقصاء مستقبلا