لم يكن الإعلان التاريخي "لعبد الله أوجلان" الذي دعا لحل التنظيم وإلقاء السلاح مجرد حدث عابر في المشهد السياسي التركي، بل مثّل لحظة فارقة في إعادة رسم ملامح الأمن القومي التركي والعلاقات الإقليمية، ومع التحولات الجارية في سوريا وسقوط نظام بشار الأسد، بات واضحا أن تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية تتحرك بخطى ثابتة نحو تثبيت موقعها الإقليمي، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق رؤية جديدة.



على مدى أكثر من عقدين، أثبتت التجربة الإسلامية التركية قدرتها على تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية في بيئة إقليمية مضطربة، لكن أكثر ما لفت انتباهي، بعيدا عن النجاحات الاقتصادية والسياسية، هو نهج مكافحة الانقلابات العسكرية الذي أصبح جزءا من هوية الدولة الحديثة، ليس فقط من خلال إجراءات سياسية وأمنية، بل عبر ترسيخه في وجدان الأجيال الجديدة من خلال التعليم.

فأثناء متابعتي دروس ابنتي التي تدرس في المرحلة الإعدادية، شدّ انتباهي مادة "الانقلاب" التي تُدرّس كجزء من المناهج التعليمية التركية، لم يكن الأمر مجرد درس تاريخي جامد، بل منهج متكامل يعرض دراسات معمقة حول تاريخ الانقلابات في تركيا وتأثير التدخل العسكري في الحياة السياسية، ولا يقتصر على سرد الأحداث، بل يعمّق لدى الطلاب فهم آليات الديمقراطية، ومخاطر الاستبداد العسكري، وأهمية الحفاظ على النظام المدني.

وفي هذا الإطار تكون التجربة الإسلامية التركية قد اكتملت إلى حد كبير، وأصبحت نموذجا ملهما يجب دراسته، في إطار فشل العديد من التجارب الإسلامية المناظرة في منطقتنا العربية، فمنذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، تبنى نهجا مختلفا في إدارة السلطة، بعيدا عن الصدامات الأيديولوجية التقليدية، حيث لم يكن مشروع الحزب قائما على فرض هوية إسلامية بقدر ما كان يسعى إلى التوفيق بين القيم المحافظة والتحديث السياسي والاقتصادي. هذه الاستراتيجية مكّنته من تجاوز العديد من الأزمات والاستمرار في الحكم لفترة طويلة، رغم كل التحديات الداخلية والخارجية.

أبرز ما يميز التجربة التركية هو النجاح في المزج بين الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وبين تثبيت الاستقرار عبر بناء مؤسسات قوية، وبدلا من الدخول في مواجهات مبكرة مع الدولة العميقة، كما فعلت بعض التيارات في العالم العربي، اختار أردوغان استراتيجية التدرج، مستفيدا من شرعية الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية لتعزيز موقعه السياسي.

ولا يمكن الحديث عن نجاح حزب العدالة والتنمية دون التطرق إلى الإنجازات الاقتصادية التي حققها، فقد استطاع الحزب، خلال عقدين من الزمن، أن ينقل تركيا من اقتصاد يعاني من الأزمات إلى واحد من الاقتصادات الصاعدة على مستوى العالم. ومن أبرز ملامح هذه النهضة: مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي، وتطوير البنية التحتية عبر مشاريع ضخمة مثل الطرق السريعة والجسور والمطارات، وتقليل نسب البطالة ورفع معدلات التوظيف، ودعم قطاع الصناعة وتعزيز الصادرات التركية.

هذه الإنجازات لم تكن مجرد تحسينات اقتصادية، بل كانت أحد أسس الاستقرار السياسي، إذ أدركت القيادة التركية أن تحقيق الرفاهية الاقتصادية للمواطن هو مفتاح أي مشروع سياسي ناجح.

كما لم يكن نجاح أردوغان في إدارة الدولة قائما على الاقتصاد فحسب، بل كان نتيجة لقدرة فائقة على المناورة السياسية، سواء داخليا أو خارجيا، فمن الناحية الداخلية، استطاع الحزب الحفاظ على علاقات متوازنة مع مؤسسات الدولة، متجنبا الصدام معها حتى تمكن تدريجيا من إعادة تشكيلها بما يخدم رؤيته السياسية.

أما على المستوى الخارجي، فقد تبنت تركيا سياسة متعددة الأبعاد، فحافظت على علاقاتها مع الغرب، وفي الوقت نفسه عمّقت شراكاتها مع روسيا والصين ودول الخليج، مما مكّنها من تعزيز نفوذها الإقليمي دون أن تصبح تابعة لأي قوة دولية.

لم يكن الطريق إلى تثبيت الحكم في تركيا سهلا، فقد واجه أردوغان تحديات كبيرة، كان أبرزها محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/ يوليو 2016. تلك الليلة كانت اختبارا حقيقيا لمدى نضج التجربة الديمقراطية التركية، إذ لم تكن المواجهة بين حكومة ومعارضين سياسيين، بل بين دولة مدنية تسعى إلى تعزيز سلطتها، ومؤسسات عسكرية كانت تسعى لاستعادة نفوذها.

ما جعل هذه الليلة فارقة في التاريخ التركي هي الطريقة التي أدارت بها القيادة الأزمة، فبدلا من التعامل معها بأسلوب قمعي مباشر، لجأ أردوغان إلى الشعب، فخرج الأتراك إلى الشوارع للدفاع عن الديمقراطية، في مشهد نادر لم يتكرر في كثير من دول العالم.

إلى جانب النجاحات الاقتصادية والسياسية، كان بناء المؤسسات القوية أحد العوامل الرئيسية التي ساعدت على استقرار التجربة التركية، فمنذ وصول العدالة والتنمية إلى الحكم، بدأ في إصلاح القضاء، وتحسين النظام التعليمي، وتعزيز المؤسسات الأمنية والاقتصادية، وقد جعلت هذه الإصلاحات النظام التركي أكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات، وأقل عرضة للاضطرابات السياسية، إضافة إلى ذلك، كان التعليم أحد أهم المجالات التي استثمر فيها الحزب، ليس فحسب لتطوير المهارات الأكاديمية، بل أيضا لبناء وعي سياسي جديد.

ومع تزايد التحديات الإقليمية والدولية، لا تزال تركيا أمام اختبارات صعبة، لكنها أثبتت أنها قادرة على التكيف مع المتغيرات، مستفيدة من نهجها البراغماتي، وإنجازاتها الاقتصادية، وقوة مؤسساتها. ومع التحولات الجارية في سوريا، وإعلان أوجلان الذي يفتح الباب لإنهاء أحد أقدم النزاعات التي واجهتها تركيا، يبدو أن أنقرة ماضية في تعزيز مكانتها الإقليمية بثبات.

إن التجربة التركية تقدم درسا مهما في كيفية تحقيق التوازن بين الديمقراطية والاستقرار، وكيف يمكن لمجتمع أن ينهض عبر الاستثمار في التعليم، والاقتصاد، وإدارة التحالفات بذكاء، ويظل من بين أهم ما لفت الانتباه هو كيف أن هذه التجربة لا تقتصر على إنجازات حكومية، بل تمتد إلى تشكيل وعي جديد للأجيال القادمة، يضمن حماية الديمقراطية من أي محاولات ارتداد إلى الوراء.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه تركيا أردوغان العدالة والتنمية الانقلابات الديمقراطية انقلاب تركيا أردوغان العدالة والتنمية ديمقراطية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العدالة والتنمیة لم یکن

إقرأ أيضاً:

الحرية المصري: توقيع وثيقة شرم الشيخ تتويج للدور المصري في إنهاء حرب غزة وترسيخ لمعادلة السلام العادل

قال الدكتور عيد عبد الهادي، رئيس لجنة المشروعات الصغيرة والمتوسطة المركزية بحزب الحرية المصري، إن توقيع الوثيقة الشاملة بشأن اتفاق إنهاء الحرب في غزة مع انطلاق فعاليات قمة شرم الشيخ للسلام، بمشاركة قادة مصر والولايات المتحدة وقطر وتركيا، وعدد من دول العالم، يمثل حدثًا تاريخيًا يؤكد ريادة الدولة المصرية في توجيه دفة الأحداث بالمنطقة من مسار الصراع إلى طريق السلام.

برلماني: قمة شرم الشيخ رسالة مصر للعالم بأن كفى حربًا ومرحبًا بالسلامبرلماني: تصريحات ترامب عن الرئيس السيسي تُجسد حكمته وريادة مصر إقليميابرلماني: قمة شرم الشيخ تعيد الزخم لجهود إنهاء الصراع وإحلال الاستقرار في الشرق الأوسطبرلماني: قمة شرم الشيخ لحظة تاريخية تعيد الأمل لشعوب المنطقة.. وتؤكد أن السلام خيار الشعوب

وأوضح عبد الهادي، في بيان له، أن توقيع هذه الوثيقة في شرم الشيخ — مدينة السلام — هو تعبير عملي عن نجاح الدبلوماسية المصرية في تحقيق التوافق الدولي حول إنهاء الحرب وبدء مرحلة جديدة من إعادة الإعمار، مشيرًا إلى أن ما جرى هو ثمرة جهود متواصلة قادها الرئيس عبدالفتاح السيسي بحكمة وهدوء، وبدعم من شركاء دوليين أدركوا أن مصر تمتلك مفاتيح الحل وثقة الجميع.

وأضاف عبد الهادي  أن المحادثات الثنائية بين الرئيس السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب حملت رسائل بالغة الأهمية، حيث أشاد ترامب بجهود القيادة المصرية قائلاً: “الرئيس السيسي قام بعمل رائع لإيقاف الحرب في غزة، وهو زعيم قوي تربطني به صداقة وثيقة، وسنعمل معًا حتى النهاية لتحقيق الاستقرار في المنطقة”.

وأشار إلى أن الرئيس السيسي ثمّن تلك المواقف، مؤكدًا أن “الرئيس ترامب هو الوحيد القادر على إقرار السلام في قطاع غزة”، وموجّهًا له التحية على “تحقيق إنجاز اتفاق وقف إطلاق النار”، مع التشديد على “ضرورة ضمان دخول المساعدات إلى غزة بشكل مستمر”، حفاظًا على أرواح المدنيين ودعمًا للجهود الإنسانية.

وأكد رئيس لجنة المشروعات الصغيرة والمتوسطة بالحزب، أن انعقاد القمة في مصر ليس مصادفة، بل تجسيد لمكانة القاهرة كقلب المنطقة وصاحبة الكلمة الموثوقة في قضاياها المصيرية، لافتًا إلى أن نجاح الجهود المصرية في التوصل لاتفاق شامل لوقف إطلاق النار يعكس توازن سياستها الخارجية وقدرتها على الجمع بين أطراف متباينة المواقف، وهو ما لم تستطع أي دولة أخرى تحقيقه.

واضاف أن وثيقة شرم الشيخ تمثل انتصارًا للإرادة المصرية ولسياسة السلام القائمة على العدالة والإنسانية، مؤكدًا أن مصر ستظل الداعم الرئيسي لحقوق الشعب الفلسطيني، وأن ما تحقق اليوم هو خطوة أولى نحو سلام دائم وشامل يضع حدًا لسنوات من المعاناة ويفتح الباب أمام مستقبل أكثر استقرارًا للمنطقة بأكملها.

طباعة شارك عيد عبد الهادي لجنة المشروعات الصغيرة حزب الحرية المصري إنهاء الحرب في غزة

مقالات مشابهة

  • الإمارات تبحث مع تركيا والعراق أهمية قمة شرم الشيخ للسلام لتعزيز الاستقرار
  • الإمارات تبحث مع تركيا والعراق أهمية قمة شرم الشيخ للسلام في دفع الجهود الدولية لتعزيز الاستقرار في المنطقة
  • الحرية المصري: توقيع وثيقة شرم الشيخ تتويج للدور المصري في إنهاء حرب غزة وترسيخ لمعادلة السلام العادل
  • معاريف: إسرائيل ترفض مشاركة تركيا بـالقوة الإقليمية التي ستدخل غزة
  • ديفيد ريدي يصف التجربة المصرية في الصحة الوقائية بـ "النموذج المشرق"
  • برلماني: قمة شرم الشيخ محطة تاريخية تجسد ريادة مصر في إنهاء الحرب وترسيخ دعائم السلام
  • قسد: سنواصل حماية شمال وشرق سوريا من أي اعتداء
  • قمة شرم الشيخ تؤكدها… القاهرة تثبت قدرتها على قيادة مسار التهدئة وترسيخ الاستقرار الإقليمي
  • جولة لوكيل مديرية الصحة القليوبية لتفقد مستشفيات الخانكة وشرق شبرا وشبين
  • سنتكوم:مسؤوليتنا التنسيق مع القوات التي ستدخل غزة