في منتصف القرن 19، اكتشف مخترع فرنسي طريقة للتصوير وطبع الصور على الورق. كانت الطريقة معقدة للغاية، تتضمن تغليف قماشة من القطن بمستخلص من بياض البيض، قبل غمرها في محلول نترات الفضة والماء، وتجفيفها في غياب الضوء، ثم تعريضها للأشعة فوق البنفسجية بطريقة محسوبة تحت "النيغاتيف". وبعد مراحل أخرى من المعالجة، تصبح الصور جاهزة للعرض.

كانت طريقة مكلفة ومعقدة تحتاج إلى خبرة وإمكانيات لم تُتح للعوام. لذلك، كان ملوك وأباطرة أوروبا يكلفون المصورين بتصوير أهم المعالم التي حملت أعمق المعاني وتركت أعظم الآثار.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الإمام شامل الداغستاني.. لماذا أشاد به رئيس أوكرانيا واعتبره مصدر إلهام؟list 2 of 2لماذا كُتبت "لا إله إلا الله" على دينار إنجليزي قبل ألف عام؟end of list

في تلك الفترة، كلفت ملكة بريطانيا، فيكتوريا (1819-1901) المصور البريطاني تشارلز كليفورد بالتقاط صور لقصر الحمراء في غرناطة الأندلسية، لتصبح صور أبواب القصر وجدرانه التي تحمل العبارة الأشهر "لا غالب إلا الله" من بين أوائل الصور التي طُبعت في التاريخ بهذه الطريقة. الآن، يحتفظ الملك تشارلز الثالث بهذه المجموعة من الصور، التي تظهر أدق التفاصيل للزخارف الإسلامية والكتابات، في دقة مثيرة للإعجاب بالنظر إلى أن الصور التُقطت في خمسينيات القرن 19.

فالملك تشارلز أحد أكثر الملوك الإنجليز معرفة بالإسلام؛ حضارة وثقافة وعُمرانا، حتى إنه أسس حدائق بعض قصوره الخاصة على النمط الأندلسي، مثل الذي يظهر في صور قصر الحمراء، وأصر فيها على غرس ثمار ورد ذكرها في القرآن الكريم مثل التين والزيتون.

منظر لمجمع قصر الحمراء، أهم المعالم التاريخية لمدينة غرناطة التي تنتهي إليها كافة مسارات التراث الأندلسي. (الجزيرة)

هذا بخلاف إعجابه الظاهر برؤية الإسلام للعالم، وهو ما جعله يموّل مركزًا للدراسات الإسلامية في جامعة أوكسفورد. لكن تشارلز لم يرث الصور ولا الاهتمام بالإسلام عن جدته الملكة فيكتوريا، بل ربما يعود إلى جدة أخرى أقدم من زمن فيكتوريا بقرون.. هذه هي الأميرة زائدة الأندلسية.

إعلان زائدة الأندلسية وإرثها الباقي!

لا يُعرف على وجه الدقة إن كانت زائدة من بيت مشهور من بيوتات الأندلس أم مجرد سرية من السراري والجواري التي كانت وقتئذ، ولكننا نعرف أنها عاشت حياتها في رفاهية داخل بلاط بني عباد في إشبيلية بعد زواجها من ابنه الأمير المأمون بن المعتمد الملقب بأبي الفتح، لتتوالى عليها الأحداث غير المتوقعة فيما بعد!

فقبيل منتصف القرن 11 الميلادي/القرن 5 الهجري، أصبح بنو عباد، الذين تعود أصولهم إلى شبه جزيرة سيناء وتحديدًا إلى العريش المصرية، أبرز ملوك الطوائف في الأندلس، متفوقين على حكام قرطبة من جيرانهم وذلك بعد سقوط دولة بني أمية وتشرذم الأندلس بين ملوك الطوائف، ولا شك أن هذا التحول كان نقطة فارقة لإشبيلية عاصمة بني عباد، فالمعتمد الذي كان والد زوجها المأمون، شهدت إشبيلية في عصره فترة ازدهار ثقافي وأدبي كبير، وجذبت العديد من الشعراء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، كان من بينهم ابن حمديس الصقلي، إلى جانب المعتمد نفسه الذي كان شاعرا أيضا.

ولكن لم يدم الأمن طويلا، وعرضت في الأندلس عوارض السياسة وحوادثها، وكادت مدن الأندلس تسقط كلها في يد ألفونسو السادس لولا تدخل المرابطين عدة مرات، وفي الأخير قرر يوسف بن تاشفين التخلص من ملوك الطوائف وتوحيد الجزيرة، وكانت مدينة إشبيلية على رأس المدن التي قصدها ابن تاشفين بنفسه للقضاء على حكم بني عباد فيها، مما أدى إلى وقوع المعتمد في الأسر ونفيه إلى أغمات قرب مراكش في المغرب، حيث توفي هناك بعد فترة قصيرة وهو يندب خسارته في آخر قصائده قبل رحيله.

في تلك الحروب قُتل المأمون بن المعتمد خلال حصار المرابطين، عام 484هـ/1091م، وكانت زوجته زائدة في موقف شديد الصعوبة، لا سيما بعد أن تمكنت من الهرب بحثا عن مكان آمن شمال إشبيلية. لكن من سوء حظها، سقطت في أسر جنود ملك قشتالة، الذين أرسلوها إلى بلاط سيدهم في طُليطلة حيث أجبرت على العيش في ظروف مختلفة.

إعلان

والحق أن ألفونسو السادس، زوج زائدة المستقبلي، كان مصدر إزعاج كبير للمعتمد، خاصة حين سيطر على مدينة طليطلة وانتزعها من أصحابها من بني ذي النون عام 478هـ/1085م؛ إذ شكّل غزو ألفونسو لطليطلة ضربة قاصمة للمعتمد، كبير ملوك الطوائف.

وبحسب أستاذ التاريخ المختص بشبه القارة الإيبيرية في كلية لندن الجامعية، رودريغو غارسيا فاليسكو الذي نشر مقالًا سابقًا في معهد تابع لجامعة كامبريدج تناول فيه تلك الفترة التاريخية، لم تكن العلاقة بين زائدة وألفونسو السادس علامة على التسامح والتعايش، بقدر ما كانت تأكيدا على قوة وجبروت ألفونسو، على الأقل في طور العلاقة الأول.

كان ألفونسو السادس يحلم بأن يصبح الحاكم الأوحد لشبه الجزيرة الإيبيرية، بما فيها الأراضي الإسلامية، ووفقا للمؤرخ التونسي ابن الكردبوس التوزري في القرن 13، بدأ الحاكم القشتالي المغرور في تصوير نفسه على أنه "إمبراطور الديانتين"، أي الإسلام والمسيحية.

آيات من سورة "الفلق" من القرآن الكريم منقوشة على أحد جدران قصر الحمراء في مدينة غرناطة بأسبانيا (الجزيرة)

في تلك الأثناء وبدلا من إرسال الأميرة زائدة إلى أقاربها المنفيين في المغرب، قرر ألفونسو السادس أن يتخذها جارية له، في حين رجح بيلايو أسقف أوفييدو، بأن تكون زوجته.

وإذا كان وجود الأميرة المسلمة في البلاط المسيحي يمثل موضوعا حساسا في حد ذاته، فإن قرار ألفونسو السادس بجعل زائدة الأميرة المسلمة زوجته الشرعية لا بد أنه ترك الكثيرين حوله في حيرة ودهشة! إذ سرعان ما حملت زائدة وأنجبت سانشو، الابن الوحيد لألفونسو السادس، ويقال إنها تنصّرت واتخذت اسم "إيزابيل"، وقد توفيت بعد سنوات أثناء ولادتها ابنها الثاني لألفونسو.

كان من اللافت أن وصلت سلالة زائدة إلى إنجلترا بعد ارتباطها بألفونسو السادس ملك قشتالة وليون، فمن نسلها نشأت إيزابيل بيريز أميرة قشتالة، التي أُرسلت في القرن 14 إلى إنجلترا للزواج من إِيرل كامبريدج، ريتشارد كونسيرج.

إعلان

ثم قاد ابنهما ريتشارد دوق يورك تمردا ضد الملك هنري السادس، وهو التمرد الذي تطور لاحقا ليصبح ما يعرف "بحروب الورود"، التي استمرت لعقود قبل أن يتولى إدوارد الثاني ابن ريتشارد، العرش في عام 1461، وبذلك، وصل إرث الأندلس، إسبانيا الإسلامية، إلى البلاط الملكي لسلالة بلانتاجانت الحاكمة في بريطانيا، فلعل ولع تشارلز الثالث بالإسلام وحضارته يرجع إلى ما يجري في عروقه من إرث كامن لهذا الدين العظيم ولو من جهة التاريخ.

تشارلز والحضارة الإسلامية

في عام 2015 زار ولي عهد بريطانيا وأمير ويلز وقتها الملك تشارلز الدوحة عاصمة قطر، وقد اقتضى البروتوكول أن يصحبه رئيس مكتبة قطر الوطنية ووزير الدولة حمد الكواري الذي لاحظ اهتمام تشارلز بالإسلام وتراثه وحضارته، حتى إن الكواري نقل عن تشارلز أن لديه انطباعا بإهمال العرب لحضارتهم وعدم قيامهم بدورهم المطلوب في تعريف العالم بهذه الحضارة، والغريب أنه في معظم حديثه كان يشير إلى الحضارة والتراث، ولا يستعمل كثيراً لفظ الثقافة إلا قليلا.

ويضيف الدكتور حمد عبد العزيز الكواري: "من قراءاتي عنه وجدت أنه يُتقن قراءة الخط العربي، ومن أقواله التي قرأتها له: العالم الإسلامي هو القيِّم على واحد من أعظم كنوز الحكمة والمعرفة الروحية المتراكمة المتاحة للبشرية".

يبدو اهتمام ملك بريطانيا بالإسلام وتراثه وحضارته، وقراءته الجيدة عنه، أمرا لافتا وقديما؛ مقارنة بمن سبقوه من ملوك وملكات بريطانيا، وفي ظل دولة عُرفت بتاريخها الإمبريالي الضخم في المنطقة العربية والإسلامية، بل قبل عدة عقود، عبّر الملك تشارلز الثالث عن رفضه لنظرية "صراع الحضارات"، التي تدعي وجود صراع بين الإسلام والغرب.

في عام 1993، تولى تشارلز رعاية مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، حيث ألقى خطابا مشهورا لا يزال متداولا حتى يومنا هذا بعنوان "الإسلام والغرب"، هذا الخطاب الذي لم يكن تقليديا أو متوقعا من أحد أفراد العائلة المالكة أو السياسيين الإنجليز البارزين، تناول فيه الدور الحيوي الذي لعبته الحضارة الإسلامية في تشكيل التاريخ الأوروبي، وأكد حينها أن الإسلام "عنصر أساسي في ماضينا وحاضرنا، وقد أسهم بشكل كبير في بناء أوروبا الحديثة. إنه جزء لا يتجزأ من تراثنا". كما دعا الغربيين إلى إعادة النظر في تصوراتهم المشوهة حول الإسلام، مشيرا إلى أن الشريعة الإسلامية في جوهرها تقوم على "العدالة والرحمة"، وفقا لما جاء في القرآن الكريم.

إعلان

كما أكد تشارلز الثالث أن الإسلام منح المرأة حقوق الميراث والملكية، سابقا بذلك غيره منذ 1400 عام، مشيدا بروح التسامح التي ميّزت الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، كما أعرب عن أسفه لافتقار الغرب إلى الوعي بالفضل الكبير الذي تدين به الحضارة الأوروبية للإنجازات الإسلامية. واعتبر تشارلز المجتمعات المسلمة في بريطانيا جزءا أساسيا من النسيج الوطني، حيث وصفها بأنها "مصدر قوة" يسهم في إثراء التنوع الثقافي للبلاد.

وبدلا من الدعوات التي تطالب المسلمين بالتخلي عن هويتهم كشرط للاندماج، طرح تشارلز رؤية للتكامل تقوم على التفاهم المتبادل، حيث دعا المسلمين إلى التوفيق بين هويتهم الثقافية والدينية مع المشاركة الإيجابية في المجتمع البريطاني، وأكد في الوقت ذاته على أهمية احترام الممارسات الدينية الإسلامية والابتعاد عن السلوكيات التي قد تسبب إساءة.

هذا الخطاب كان بمثابة رسالة قوية من وريث العرش آنذاك إلى مسلمي بريطانيا، ومعظمهم من أصول مهاجرة، مفادها أن وجودهم في البلاد ليس مجرد أمر واقع مفروض، بل هو إضافة قيمة.

وبسبب هذه المواقف التي تحترم الإسلام وحضارته وتراثه، تعرض تشارلز لسخرية من معلقين مناهضين للإسلام بسبب اهتمامه بالحضارة الإسلامية، وكان من بين هؤلاء المعلق الأميركي المحافظ دانيال بايبس، الذي كتب مقالة بعنوان "هل اعتنق الأمير تشارلز الإسلام؟"، مستندًا إلى ما اعتبره "أدلة"، مثل مشاركة الأمير في إفطار رمضاني، وانتقاده لسلمان رشدي بسبب إهانة معتقدات المسلمين العميقة.

ولعل ذلك ما دفع مفتي قبرص من قبل، ناظم الحقاني في عام 1996 ليدلي بتصريح مثير للجدل ادّعى فيه أن تشارلز الثالث، ملك بريطانيا، وولي العهد وقتئذ قد اعتنق الإسلام سرا.

وقال الحقاني: "هل تعلم أن الأمير تشارلز أصبح مسلمًا؟ نعم، لقد حدث ذلك في تركيا. تحقّق من عدد زياراته إلى تركيا وسترى أن ملككم المستقبلي مسلم"، ولكن سرعان ما جاء رد قصر باكنغهام مختصرا وواضحا بأن هذا الكلام محض هراء، وذلك وفقا لتقرير نشرته "ميدل إيست آي" عشية تقلد تشارلز الثالث لعرش الملكية في بريطانيا، كاشفة فيه أبرز مواقفه تجاه الإسلام وحضارته.

وبحسب ما يرى هشام هيلير الباحث بمؤسسة كارنيغي للسلام في واشنطن، والزميل المشارك بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن وبالمركز الإسلامي بجامعة كامبردج، فإن اهتمام تشارلز بالحضارة والفكر الإسلامي، مرجعه أعمال المفكر الفرنسي رينيه جينو، الذي وُلد كاثوليكيا وتلقى تعليمه في جامعة السوربون أوائل القرن 20، والذي رأى أن الحداثة الغربية المبنية على أسس مادية، تمثل انحرافا عن المسار الطبيعي لتاريخ البشرية، الأمر الذي دفعه فيما بعد إلى اعتناق الإسلام وسمى نفسه عبد الواحد يحيى، ليطلِّق المقام في الغرب، ويقرر المكوث والزواج في القاهرة التي قضى نحبه فيها بعد حياة فكرية حافلة لصالح الإسلام وحضارته.

إعلان

ومما يؤكد وجود هذا التأثر الواضح من المفكر الفرنسي المسلم عبد الواحد يحيى، ما جاء في خطاب ألقاه تشارلز عام 2006، الذي قال فيه: "إذا دافع التقليديون عن الماضي، فذلك لأن الحضارات ما قبل الحداثة كانت تقوم على وجود المقدس"، واعتبر أن عصرنا الحديث يتسم "بالتفكك والانفصال والتفكيك".

وفي خطاب سابق أمام الجمعية العامة لكنيسة أسكتلندا عام 2000، حذر من أن عصرنا يواجه خطر فقدان المعرفة بالقيم الروحية والمقدسة، ومن ثم رأى تشارلز أن العالم الحديث، خاصة في الغرب، أصبح "استحواذيا واستغلاليا"، وأشار إلى إمكانية تعلم مفهوم "الوصاية على الطبيعة الروحية والسرية للعالم" من الإسلام.

لقد نظر رينيه جينو -أو عبد الواحد يحيى الذي تأثر به تشارلز- إلى الشرق كمصدر للإلهام الفكري، وكتب عدة مؤلفات عن الهندوسية والطاوية قبل أن يغادر باريس إلى القاهرة، حيث انضم إلى الطريقة الأحمدية الشاذلية الصوفية ودرس في الأزهر الشريف، وتوفي مسلمًا في القاهرة عام 1951.

في كتابه "الشرق والغرب" يفكك رينيه جينو أسس الحياة والتقدم المادي عند الغرب، ويعيب عليهم نقمتهم على الشرق وأفكاره وشرائعه لأنها في زعمهم ثابتة راكدة وهذا عكس مفهوم التقدم الذي يرونه، يقول ناقدا هذه الرؤية: "في رأينا، هذا الطابع يعني أن هذه الحضارات الشرقية تشترك في ثبات المبادئ التي تستند إليها، وهذا أحد الجوانب الأساسية في مفهوم العلم الرباني، وما كانت الحضارة الحديثة دائمة التغير إلا لأنها لا مبدأ لها تستند إليه".

دور رينيه جينو في تشكيل رؤية الملك تشارلز للعالم والحضارتين الغربية والإسلامية أثار دهشة العديد من المعلقين، وكان من بينهم المؤرخ العسكري ماكس هاستينغز، الذي عبّر عن انتقاده في مراجعة لكتاب تشارلز "الانسجام.. طريقة جديدة للنظر إلى عالمنا"، حيث كتب في صحيفة "ديلي ميل" يقول: "الخطر الأكبر الذي يواجه مؤسستنا الملكية في العقود المقبلة يكمن في رؤية تشارلز الصوفية ذات النوايا الحسنة والمضطربة"!

إعلان تشارلز وتقديره للعمران والبيئة والفنون الإسلامية

ومهما يكن من أمر، فقد استغل تشارلز أثناء ولايته للعهد ترجمة أفكاره هذه إلى ممارسات واقعية، ففي عام 1993، أطلقت مؤسسته برنامجًا للفنون البصرية الإسلامية والفنون التقليدية، حيث تعلم الطلاب فنون المنمنمات المغولية والبلاط العثماني والخط العربي، وكان البرنامج يستضيف شخصيات بارزة مثل الفيلسوف سيد حسين نصر، والباحث مارتن لينغز، الذي ألف سيرة ذاتية مشهورة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأكد أنه تأثر بعمق عندما قرأ أعمال المفكر المسلم رينيه جينو للمرة الأولى، وفي عام 2004، تطور البرنامج ليصبح مدرسة الأمير التأسيسية للفنون التقليدية.

كما تتجلى علاقة تشارلز بالفن الإسلامي في تفاصيل حياته الشخصية أيضا، مثلما يظهر في حديقة "السجاد" المستوحاة من التصاميم الإسلامية في منزله، وقد شرح تشارلز فكرته قائلا: "زرعتُ أشجار التين والرمان والزيتون في الحديقة، وهي أشجار ورد ذكرها في القرآن الكريم".

وفي خطابه الذي ألقاه عام 1996 تحت عنوان "إحساس بالقداسة.. بناء جسور بين الإسلام والغرب"، أشار تشارلز إلى أن تبني وجهات النظر الإسلامية حول النظام الطبيعي والبيئي يمكن أن "يساعد الغرب على إعادة التفكير في كيفية تحسين الرعاية العملية للإنسان وبيئته".

وفي عام 2010، تناول تشارلز هذه الأفكار بتفصيل أكبر في خطاب ألقاه بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، الذي كان راعيه منذ عام 1993، حيث قال في خطابه: "من خلال ما أعرفه من التعاليم الأساسية للإسلام، فإن مبدأ أساسيا يجب أن نأخذه بعين الاعتبار هو أن وفرة الطبيعة لها حدود، وهذه ليست حدودا اعتباطية، بل هي حدود يفرضها الله، وإذا كان فهمي للقرآن صحيحا، فإن المسلمين مأمورون بعدم تجاوز هذه الحدود".

وفي ذات الخطاب وصف تشارلز الإسلام بأنه يحمل "أحد أعظم كنوز الحكمة المتراكمة والمعرفة الروحية المتاحة للبشرية"، مشيرا إلى أن هذا التراث العظيم غالبًا ما طُمس بسبب هيمنة "المادية الغربية".

إعلان

وأكد قائلا: "الحقيقة المؤلمة هي أننا نتشارك هذا الكوكب مع بقية المخلوقات لسبب بالغ الأهمية: لا يمكننا العيش بمعزل عن شبكة الحياة المتوازنة بشكل دقيق من حولنا. لقد أدرك الإسلام هذا الأمر دائمًا، وتجاهلُ هذا الدرس يعني التقصير في علاقتنا مع الخالق".

كما أشار إلى أمثلة من التخطيط الحضري الإسلامي عبر التاريخ، مثل أنظمة الري في الأندلس قبل 1200 عام، كنماذج على كيفية تطبيق "التعاليم النبوية" في إدارة الموارد طويلة الأمد، بدلا من التركيز على "مصالح اقتصادات المدى القصير".

تأثير الإسلام في الغرب

لم يقف تشارلز عند تقديره البالغ للجانبين الروحي والمادي في الإسلام وحضارته، بل تعداه إلى بعض شرائعه وقوانينه التي يمكن الاستفادة منها في عالمنا المعاصر، ففي خطاب ألقاه عام 2013 أمام المنتدى الاقتصادي الإسلامي العالمي في لندن، أظهر إلماما كبيرا بالتمويل الإسلامي وفوائده المحتملة للأسواق المالية العالمية.

وقال: "من المؤكد أنه من المفيد استكشاف كيفية استفادة الأسواق من الروح المتأصلة في الاقتصاد الأخلاقي للإسلام، التي يمكن أن تساهم في تبني نهج عادل وأخلاقي لإدارة المخاطر النظامية في الاقتصاد والأعمال والتمويل. فعلى سبيل المثال، تعمل مشاركة المخاطر، التي تتضمن التعاون بين المقرضين والمقترضين، بشكل مختلف عن التمويل التقليدي، الذي ينقل المخاطر بسرعة وبشكل متكرر إلى طرف آخر، مما يحقق ربحًا أحادي الاتجاه".

وقد أشار تشارلز الثالث في عدة مناسبات إلى إسهامات المسلمين في مجالات العلوم والفنون والدراسات الأكاديمية المختلفة، ففي خطاب ألقاه بجامعة الأزهر عام 2006، قال: "يجب أن نتذكر في الغرب أننا مدينون لعلماء الإسلام، فقد حافظوا على كنوز المعرفة الكلاسيكية خلال العصور المظلمة في أوروبا".

كما أضاف في معهد ماركفيلد للتعليم العالي في ليسترشاير قبل عدة سنوات، معلقا على دور الإسلام في تطور الرياضيات: "على أي شخص يشك في مساهمة الإسلام والمسلمين في النهضة الأوروبية أن يجرب إجراء بعض العمليات الحسابية البسيطة باستخدام الأرقام الرومانية، يجب أن نقول الحمد لله على الأرقام العربية ومفهوم الصفر الذي قدمه علماء الرياضيات المسلمون إلى الفكر الأوروبي".

إعلان

لعل وجود ملك يؤمن بالحوار بين الأديان، ويبحث عن الحكمة في القرآن وثقافة المسلمين خارج أوروبا التقليدية، يمثل نقطة ضوء وسط عالم تتصاعد فيه النعرات اليمينية، التي طالت تشارلز نفسه في بعض الأحيان. ولعل تأثر تشارلز بالإسلام يعكس رؤية أوسع وأكثر توافقًا، عبّر عنها حين قال إن "العالم الإسلامي ليس آخَرَ يمكن مقارنته بالغرب؛ إنه جزء من تراثنا المشترك ومستقبلنا المشترك".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان أبعاد الحضارة الإسلامیة القرآن الکریم تشارلز الثالث ملوک الطوائف الملک تشارلز الإسلامیة فی قصر الحمراء رینیه جینو فی القرآن فی الغرب کان من من بین فی عام إلى أن

إقرأ أيضاً:

حين يُسجَن العربي لأنه ناصر فلسطين.. فهل الغرب حقّا أكثر وفاء؟

في ليلة الجمعة، 25 تموز/ يوليو 2025، هزّت مجموعة شبابية تُطلق على نفسها اسم "الحديد 17" المشهدَ السياسي المصري بإعلانها عن اقتحام غير مسبوق لقسم شرطة المعصرة في حيّ حلوان، حيث تمكّنت من احتجاز عدد من أفراد الأمن، مطالبة بفتح معبر رفح في وجه الجرحى والنازفين من غزة. لم تطلق الرصاص، لم تحمل سوى صرخة: "افتحوا المعبر!" فاختفوا.

لا يُعرف مصير الشبان حتى اليوم؛ لا محاكمة، لا بيان رسميا، لا ظهور، فقط اختفاءٌ قسريّ يُضاف إلى أرشيف طويل من العقاب العربي لمن ناصر فلسطين. في هذا الشرق المقموع، لا تحتاج إلى سلاح كي تُجرَّم، يكفي أن تذكر غزة.

وهنا تحديدا، يجب أن يُطرَح السؤال: من الأوفى لفلسطين؟ الذي يُهتف لها في ساحة محميّة؟ أم الذي يُقتاد إلى العدم لأنه أراد أن تُفتح لها بوابة نجاة؟

من الأوفى لفلسطين؟ الذي يُهتف لها في ساحة محميّة؟ أم الذي يُقتاد إلى العدم لأنه أراد أن تُفتح لها بوابة نجاة؟
هذا المقال ليس رثاء، بل تفنيد لأسطورة زائفة: أن الغرب أكثر فلسطينية منّا.

مصر: حين يصبح حبّ فلسطين تهمة

في حزيران/ يونيو 2024، وثّقت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية اعتقال 150 مواطنا مصريا بسبب تعبيرهم عن التضامن مع غزة، بينهم أطفال ومراهقون.

الاتهامات؟ "الانضمام إلى جماعة إرهابية"، "نشر أخبار كاذبة"، "التحريض على التجمهر". جميعها صيغ قانونية تُستخدم لإخراس أبسط أشكال التعبير.

هذه ليست حالة استثنائية، بل امتداد لخطّ طويل في التعامل مع فلسطين كملف حساس لا يجوز للمواطن العادي الاقتراب منه. وكل من يتجاوز تلك "الحدود" -حتى لو بكلمة أو وسم- يوضع في مرمى القمع.

ولا يمكن تجاهل السياق الأوسع: ففي عام 2012، حين انتُخب محمد مرسي رئيسا، كان أبرز وعوده العلنية: "غزة لن تكون وحدها". ذلك الوعد -قبل أي سياسة داخلية- شكّل تحديا للمعادلات الإقليمية، وربما كان من أوائل الأسباب التي عجّلت بإنهاء حكمه.

تونس: حين صرخ الشعب باسم فلسطين قبل أن يرتّب نفسه

في لحظة انهيار النظام التونسي يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011، وقبل أن تلتقط القوى السياسية أنفاسها، خرج الشارع العفوي يهتف: "الشعب يريد تحرير فلسطين".

كان ذلك الهتاف صادما لكثيرين، ففلسطين لم تكن على جدول أعمال النخب، ولا في قوائم المطالب، لكنه كان صادقا، نابعا من ذاكرة شعبية رسّختها الانتفاضات، والمدارس، والإذاعة، وتاريخ احتضان منظمة التحرير في تونس بعد خروجها من بيروت.

وحين عاد التضييق في السنوات الأخيرة، صار رفع العلم الفلسطيني في مظاهرة طلابية أو منشور على فيسبوك مدعاة للاستدعاء أو التحقيق. فالاستبداد يعرف أن فلسطين لا توحّد فقط، بل توقظ، وتربك، وتربّي على ما هو أعظم من الدولة البوليسية.

لبنان: البلد الذي لم يهتف فقط.. بل نزف

في عام 1982، حين اجتاحت إسرائيل بيروت، لم تكن مقاومة الاحتلال خطابا سياسيا، بل واقعا يوميا. وفي عام 2006، حين قُصف الجنوب والضاحية، لم تكن فلسطين مجرد لافتة، بل كانت البوصلة.

لبنان لم "يتضامن" مع فلسطين من بعيد، بل قاوم معها، ومن داخل نسيجه. فلسطين في لبنان لم تكن هوية طارئة، بل مكونا من المخيمات، من الذاكرة، من الرصاص، ومن أوجاع الناس.

وهناك، لم يكن القمع هو ما يمنع الموقف، بل الموت نفسه. ومع ذلك، اختار الناس أن يقاوموا، لا أن يصمتوا.

المغرب: حين يصبح التضامن محاصرا باتفاق التطبيع

وفي المغرب، لم يكن المشهد مختلفا. فخلال العدوان على غزة، خرجت تظاهرات ضخمة في الرباط والدار البيضاء، واجهتها قوات الأمن بقمع ممنهج. مُنعت التجمعات، فُضّت الوقفات، وتم استدعاء ناشطين للاستجواب بسبب منشورات.

ورغم أن المغرب دولة وقّعت اتفاق تطبيع مع إسرائيل، إلا أن الشارع ما زال يحمل لافتة واحدة: "فلسطين ليست للبيع". ولماذا لا تُقمع المظاهرات في الغرب أيضا؟

صحيح أن المتضامنين مع غزة في أوروبا وأمريكا يملكون هامشا واسعا للتعبير، لكن هذا الهامش ليس مطلقا. فقد تم فصل عشرات الطلاب والأساتذة في جامعات أمريكية وبريطانية بسبب مشاركتهم في حملات تدعو لمقاطعة إسرائيل أو تنتقد جرائمها. حركات مثل "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" تعرضت للتهديد بالإغلاق، وبعض الصحفيين فقدوا وظائفهم بسبب كلمة واحدة في تغريدة.

لا يعني هذا تبرير القمع العربي، بل فضح النفاق العالمي. فالمنظومة السياسية الغربية التي تسمح بالمظاهرات، هي ذاتها التي تموّل آلة القتل في غزة، وتمنع أي مساءلة حقيقية في المحافل الدولية.

لذا، فإن المقارنة بين "الشارع الغربي" و"الشارع العربي" لا تصمد أخلاقيا أو سياسيا. الأول يتظاهر بإذن القانون، والثاني يتظاهر رغم القانون.. الأول يعود إلى بيته بعد الهتاف، والثاني لا يعود أبدا.

ليس تنافسا في الوفاء.. بل سؤال في منطق القمع

لا يهدف هذا المقال إلى نزع القيمة عن مظاهرات الغرب، ولا إلى التقليل من شجاعة الأصوات المتضامنة مع فلسطين، بل هو تذكير بأن المعيار الحقيقي للوفاء لا يُقاس بعدد اللافتات، بل بحرية رفعها.

المشكلة ليست في تضامن الآخرين، بل في أن تضامننا -كعرب- صار جريمة.

الشعوب المغيَّبة لا الغائبة

إنّ مقارنة العرب بالغرب في ميزان "الدعم لفلسطين" تغفل بُعدا جوهريا: السياق السياسي للقمع. الغربي يهتف وهو محمي بدستور، بينما العربي يُخضع لأيّ تهمة جاهزة.

خطاب "الغرب أكثر وفاء لفلسطين" ليس فقط مضللا، بل يُعيد إنتاج صورة العربي المتخاذل، المنكفئ، غير الجدير بقضاياه. إنه امتداد ناعم للاستشراق، لكنه بنسخة رقمية
من القاهرة إلى عمّان، ومن الرباط إلى الخرطوم، لا يحتاج القمع سوى ذريعة: منشور، وسم، وقفة صامتة، أو حتى تبرع مالي. ومع ذلك، تخرج الأصوات، رغم التضييق، وتبقى فلسطين حيّة في الشوارع العربية، كلما سنحت الفرصة.

هذه السردية ليست بريئة

خطاب "الغرب أكثر وفاء لفلسطين" ليس فقط مضللا، بل يُعيد إنتاج صورة العربي المتخاذل، المنكفئ، غير الجدير بقضاياه. إنه امتداد ناعم للاستشراق، لكنه بنسخة رقمية.

فالغربي عقلاني شجاع، والعربي خائف صامت.. الغربي يواجه الشرطة، والعربي يُكمَم من قبلها. لكن الواقع غير ذلك.

من الذي يصادر الإعلام؟ من يمنع المظاهرات؟ من يعتبر فلسطين ملفا أمنيا لا وجدانيا؟ ليست الشعوب من اختارت الصمت، بل فُرض عليها. ولم تسكت.. بل مُنعت.

خاتمة: حين يُمنع عنك الحلم، يصبح الحلم مقاومة

في هذا العالم المعكوس، يُكافأ من يرفع علم فلسطين في ساحة مرخّصة، ويُخفى قسرا من يهتف باسمها في عاصمة عربية، يُصفَّق للمتضامن حين يكون الهتاف بلا ثمن، ويُقطع الصوت حين يصبح الهتاف مشروعا للتحرر.

هذا المقال لا يسعى لانتزاع شهادة وفاء، بل فقط لتذكير العالم: أن العربي حين يحبّ يدفع كل شيء، حتى حقّ الظهور، حتى صوته، حتى اسمه.

مقالات مشابهة

  • مشروبات منعشة توازن سكر الدم بشكل طبيعي
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • البحوث الإسلامية: إصلاح ذات البين عبادة تتفوق على الصيام والصدقة
  • أميرة سليم تطلق برنامج «أوبرا ريمكس»: الأوبرا ليست مملة بل سبقت السينما في الدراما
  • حين يُسجَن العربي لأنه ناصر فلسطين.. فهل الغرب حقّا أكثر وفاء؟
  • توفيق عكاشة: الصورة السلبية التي تُسوَّق عن الإسلام تعود إلى أفعال جماعات متطرفة
  • دينا أبو الخير: الاستئذان بين الأزواج أمر شرعي وواجب في الإسلام
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • العروبة المؤسِّسة.. كيف صاغ العرب مكانتهم العليا داخل الدولة الإسلامية المبكرة؟
  • هنأ بكأس أوروبا.. الملك تشارلز الثالث يطالب إنجلترا بـ«مونديال 2027»