الثورة / متابعات

منذ بدء العدوان الإسرائيلي على شمال الضفة الغربية في 21 يناير الماضي، اضطر أكثر من 40 ألف مواطن إلى النزوح عن منازلهم قسرًا، بسبب عدوان الاحتلال الذي استهدف مخيمات جنين، طولكرم، ونور شمس، وخلف دمارًا واسعًا في البنية التحتية والممتلكات.

ومع استمرار العدوان الإسرائيلي، باتت آلاف العائلات مشردة وسط ظروف إنسانية قاسية، حيث تفتقر أماكن الإيواء إلى أدنى مقومات الحياة.

وبينما يحاول الاحتلال فرض واقع جديد عبر سياسة الهدم والتهجير، يتمسك الفلسطينيون بحقهم في العودة، رغم المأساة التي يعيشونها.

“تركنا البيت ولم نأخذ إلا هوياتنا”

رامي جابر (37 عامًا)، أحد النازحين من مخيم جنين، كان يعيش حياة بسيطة مع زوجته وأطفاله الثلاثة، قبل أن يجد نفسه مجبرًا على مغادرة منزله وسط القصف العنيف.

يروي لحظات الرعب التي عاشها قائلاً: “في البداية لم أصدق أننا سنضطر للمغادرة، كنا نظن أن القصف لن يصل إلينا، لكنه اقترب أكثر فأكثر، خرجنا بسرعة، لم نأخذ معنا إلا هوياتنا وبعض الملابس للأطفال، عندما عدت بعد أيام، وجدت المنزل قد تحول إلى كومة من الحجارة، وكأنه لم يكن موجودًا يومًا.”

حاليًا، يعيش رامي مع أسرته في مدرسة تحولت إلى مركز إيواء مؤقت، لكنه يشعر بالعجز أمام أسئلة أطفاله، خاصة ابنته التي تسأله يوميًا: “بابا، متى نرجع لبيتنا؟”، فيجيبها بصوت يملؤه الحزن: “قريبًا يا ابنتي، قريبًا إن شاء الله”

“رمضان بلا بيت.. بلا روح”

مريم عبد الرازق (42 عامًا)، من مخيم نور شمس في طولكرم، فقدت منزلها خلال الاجتياح الإسرائيلي الأخير، وهي الآن تعيش مع أطفالها في منزل أحد أقاربها.

تصف حياتها الجديدة بمرارة أنه في رمضان الماضي، كنا نجتمع على مائدة واحدة، نتناول الإفطار سويًا، ونسمع صوت الأذان من مسجد الحي.

تتابع: “اليوم، نحن متفرقون، بعضنا في مراكز الإيواء، وبعضنا في بيوت الأقارب. حتى المسجد الذي كان ابني يذهب إليه كل يوم دُمّر خلال القصف، أشعر بأن الاحتلال لا يستهدف فقط بيوتنا، بل يحاول سرقة حياتنا نفسها”.

“الخروج كان أخطر من البقاء”

عبد الكريم سليم (55 عامًا)، من مخيم طولكرم، يروي كيف كان الهروب من المخيم أشبه برحلة موت.

يقول: “عندما بدأ القصف على المخيم، قررت مغادرة المنزل مع زوجتي وأحفادي، لكن الطريق كان أخطر مما توقعت، الجنود الإسرائيليون كانوا يطلقون النار على كل من يتحرك، رأيت جاري يسقط أمامي بعدما أصيب برصاصة أثناء محاولته الفرار، لم أستطع مساعدته، كان عليّ أن أنقذ عائلتي.”

وصل عبد الكريم وعائلته إلى بيت أحد الأقارب، لكنه لا يشعر بالأمان، مؤكدًا: “الاحتلال يريد أن يجعلنا نشعر أننا بلا مأوى، بلا وطن، لكننا سنعود، حتى لو دمروا المخيم بأكمله”.

مراكز الإيواء.. معاناة لا تنتهي

تعيش العائلات النازحة في ظروف إنسانية مأساوية، حيث تفتقر مراكز الإيواء إلى المياه النظيفة، الطعام، والرعاية الصحية، العديد من الأطفال لم يعودوا إلى مدارسهم، مما يهدد مستقبلهم التعليمي.

أحمد ناصر (29 عامًا)، متطوع في أحد مراكز الإيواء، يؤكد أن الوضع هنا لا يمكن تحمله، وأن العائلات تنام على الأرض، والأطفال يعانون من الأمراض بسبب نقص النظافة.

يقول: “نحاول تقديم المساعدة، لكن الاحتياجات أكبر من إمكانياتنا”.

الاحتلال يسعى للتهجير القسري

وتشير التقارير إلى أن الاحتلال يستهدف مخيمات شمال الضفة بسياسة ممنهجة، تعتمد على تدمير المنازل، تهجير السكان، وفرض واقع جديد يخدم التوسع الاستيطاني، لكن رغم ذلك، يتمسك الفلسطينيون بحقهم في العودة.

أما خليل أبو حسن (60 عامًا)، من جنين، يقول بحزم: “يقولون إن العودة إلى المخيم لن تكون ممكنة قريبًا، لكننا لن نقبل بذلك، حتى لو دمروا المخيم، سنعيد بناءه من جديد.. هذا وطننا، ولن نتخلى عنه”.

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: مراکز الإیواء

إقرأ أيضاً:

ما بين الحياة الآمنة تحت الاحتلال والمقاومة أيهما كلفته أكبر؟ (2)

في المقال السابق، استعرضنا تجارب شعوب اختارت طريق المقاومة والمواجهة مع الاستعمار، دفعَت خلاله كُلفة باهظة في سبيل حريتها، لكنها في النهاية حصدت الاستقلال والحرية.

في هذا المقال، ننتقل إلى الوجه الآخر من الصورة، شعوب سلكت مسارات مختلفة، ظنا أن السلامة أضمن، أو أن التفاوض والحلول الوسطى أقل كلفة.

فما الذي آلت إليه تلك التجارب؟ وهل كانت النتيجة النهائية فعلا أقل في الكلفة من ثمن المقاومة؟

التعايش الطويل مع الاحتلال وأثره على الأفكار والتوجهات الوطنية

أ- اسكتلندا.. قرون من النضال ذهبت هباء في أول تصويت لتقرير المصير

كانت تجربة النضال الاسكتلندي ضد الاستعمار البريطاني تجربة تاريخية عريقة، بدأت بالنضال المسلح منذ العصور الوسطى، خاض فيها الاسكتلنديون تمردات ومعارك عسكرية متعددة خلال القرن السابع عشر، لكنها انتهت بهزيمة كبيرة بعد معركة كولودين عام 1746، التي تعتبر آخر التمردات العسكرية، حيث توقفت مطالب الاستقلال لنحو ثلاثة قرون، رضخ فيها الاسكتلنديون للاحتلال البريطاني.

الاحتلال ليس مجرد إجراء عسكري وسيطرة فيزيائية على مساحة من الأرض، بل هو عملية احتلال للعقل والفكر الجمعي، يسعى لتطويع الشعوب عبر تغيير قِيَمها وتوجهاتها لتتماهى معه أو تخدم مصالحه
مطلع القرن التاسع عشر، عادت قضية الاستقلال مرة أخرى إلى الواجهة، ولكن من خلال "النضال السلمي" والمطالبة بالحكم الذاتي. وفي عام 1999 تم تأسيس البرلمان الاسكتلندي بعد استفتاء شعبي منح اسكتلندا حق إدارة شؤونها الداخلية، ولكنها بقيت تحت سيطرة بريطانيا عسكريا وفي السياسية الخارجية.

في عام 2014، أُجري أول استفتاء تاريخي على فكرة "الاستقلال" الكامل عن بريطانيا، إلا أن النتائج كانت صادمة وغير متوقعة، حيث عارض 55في المئة فكرة الانفصال، نتيجة حملات تخويف مكثفة قادتها الحكومة والبنك المركزي البريطاني، حذرت من آثار اقتصادية واجتماعية سلبية. هذا الضغط أثّر بوضوح على قرار الاسكتلنديين، الذين فضلوا البقاء ضمن المملكة المتحدة على مواجهة مخاطر الاستقلال.

كان للتعايش الطويل مع الاحتلال أثر عميق على الوعي الجمعي، فأعاد تشكيل الأفكار والتوجهات، وغرس في النفوس قناعة بأن بقاء الاحتلال مقبول ما دام يضمن "العيش".

وهكذا، فضّل كثيرون الخضوع على المجازفة، حتى بدا وكأنهم أحرقوا ماضي أجدادهم وميراث نضالهم الطويل بعود ثقاب رخيص، لأجل دفء مؤقت.

ب- المقدسيون كنموذج.. تحولات خطيرة في القناعات والتصورات

منذ أكثر من عقدين، لم يشهد الشارع الفلسطيني حراكا جامعا ملهِما كـ"انتفاضة الأقصى" عام 2000، التي انطلقت شرارتها من المسجد الأقصى وامتد لهيبها إلى الضفة الغربية، بمشاركة كافة أطياف الشعب ومكوناته السياسية والاجتماعية، وبكافة الوسائل السلمية والمسلحة. أعادت الانتفاضة آنذاك الروح إلى القضية الفلسطينية، ودفعت بها إلى صدارة المشهد الإقليمي بعد سنوات من الغياب عقب اتفاقية أوسلو.

لكن الاحتلال واجه هذه الانتفاضة بتنكيل ممنهج استمر خمس سنوات، شمل القمع والتدمير والاعتقال والتصفية، ما دفع قطاعات واسعة في الضفة إلى التراجع خطوات إلى الخلف، والانكفاء على الذات في حالة من "وهم الاستقرار الزائف"، ضمن معادلة اللا سلم واللا حرب، والالتزام الأحادي بأوسلو.

لكن على الرغم من ذلك، لم يستسلم الفلسطينيون، فحملت غزة راية المقاومة بعد انسحاب الاحتلال عام 2005، لتبدأ مرحلة جديدة من قيادة الأمة الفلسطينية في مسار الكفاح المسلح في طور جديد.

لكن الضفة ظلت تحمل آثار الهجمة القمعية، فالتحولات الفكرية كانت أعمق ما خلفه هذا القمع طويل الأمد، خاصة في القدس. ففي استطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي بتكليف من معهد واشنطن في حزيران/ يونيو 2022 حول تصورات "المقدسيين" عن القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، أبدى 50 في المئة من المقدسيين رغبتهم في حمل الهوية "الإسرائيلية"، و60 في المئة رفضوا اندلاع انتفاضة جديدة أو دعمها، معتبرين أن تحسين سبل المعيشة أهم من الانخراط في الصراع، و70 في المئة رفضوا استهداف "المدنيين الإسرائيليين"، بينما 65 في المئة رأوا أن الصراع شأن كبار السن والسياسيين، و50 في المئة رحبوا باتفاقيات "أبراهام" التي وقعتها دول عربية مع دولة الاحتلال.

في استطلاعين مماثلين أجراهما المركز الفلسطيني للبحوث المسحية (PSR) ومركز القدس للإعلام والاتصال (JMCC) في حزيران/ يونيو 2024 في الضفة الغربية، عبّر 55 في المئة عن رفضهم الكفاح المسلح ودعمهم الحلول السلمية لإقامة الدولة الفلسطينية.

هذه التوجهات تزامنت مع اعتماد اقتصادي واسع على الاحتلال، إذ يعمل 180 ألف فلسطيني داخل أراضي الـ48، وقرابة 40 ألفا في مستوطنات الضفة الغربية. فإذا اعتبرنا أن متوسط عدد أفراد الأسرة الفلسطينية هو 5 أفراد، فإن 20 في المئة من الفلسطينيين في الضفة وغزة يرتبط مأكلهم ومشربهم حصرا بالعمل في خدمة مشاريع الاحتلال، وقرابة 10 في المئة من سكان الضفة يعيشون من خلال تنمية وتوسيع مشاريع الاستيطان.

خلاصات نهائية

من خلال أربع تجارب مختلفة في التعامل مع الاحتلال، رأينا من قاوم وحرّر، ومن تراجع ورضخ، ومن لا يزال في تفاعل مستمر نحو التحرر. ومن هذه التجارب نستخلص ما يلي:

* الاحتلال ليس مجرد إجراء عسكري وسيطرة فيزيائية على مساحة من الأرض، بل هو عملية احتلال للعقل والفكر الجمعي، يسعى لتطويع الشعوب عبر تغيير قِيَمها وتوجهاتها لتتماهى معه أو تخدم مصالحه.

* المسار السياسي لم يكن وحده لنيل الاستقلال، بل شكلت المقاومة بشقيها الشعبي والمسلح، مفترق طرق في تاريخ الشعوب. فالمكاسب السياسية المؤقتة لا تصمد أمام مشاريع الاحتلال الطويلة المدى، بينما المقاومة رغم كلفتها تفتح أفق التحرر الحقيقي.

المقاومة حين تختار المواجهة، فإنها تراهن على تحقيق أربعة مكاسب: إفشال خطط العدو، والحفاظ على الهوية، وإحياء القضية، وإعادة تجميع المكونات الوطنية حول مسار المقاومة والنضال
* في الحالات التي اختارت فيها الشعوب السلامة والتعاون مع الاحتلال هربا من القمع، لم تحصد إلا مزيدا من الإهانة، حيث استُخدم أفرادها في خدمته، وجُنّدوا لحروبه، وسُلِبَت نساؤهم وأراضيهم، ولم تتم استعادة شيء من الحقوق والكرامة إلا بالمقاومة.

* التطبيع الطويل مع الاحتلال يفقد الجيل الأول تدريجيا الدافعية والحافزية للتحرر، ويعرض الأجيال الجديدة إلى مخاطر طمس الهوية، ويدفعها للتماهي مع الاحتلال وقبوله كواقع يومي، ما يهدد الهوية ويهدر التضحيات المبذولة.

* ولهذا، حين تبدو قرارات المقاومة للبعض أحيانا "متهورة"، فهي في الواقع استجابة اضطرارية لحالة تآكل وطني عميقة. فقد تلجأ المقاومة أحيانا إلى التصعيد ونقل المجتمع من استقرار مادي هش إلى اشتباك مفتوح، بهدف إعادة الحياة للهوية والقضية المهددتين بالموت السريري. فالمقاومة حين تختار المواجهة، فإنها تراهن على تحقيق أربعة مكاسب: إفشال خطط العدو، والحفاظ على الهوية، وإحياء القضية، وإعادة تجميع المكونات الوطنية حول مسار المقاومة والنضال.

خاتمة

إن التصور السماوي للإنسان يمنحه قيمة متوازنة، لا يُفرط في الفرد لصالح الجماعة، ولا يُقدّس الذات على حساب القيم. فالإنسان بلا هوية ولا معتقد يتحول إلى عبد لمن يطعمه، كالحيوان الذي يتبع راعيه، بغض النظر عن عدله أو ظلمه.

والحرية ليست شعارا حديثا، بل قيمة إنسانية أصيلة، كرّمها الإسلام بجعل تحرير العبيد وتخليص الأسرى قربى إلى الله وتكفيرا للذنوب، والتضحية في سبيل الدفاع عن الأهل والعرض والوطن سبلا لبلوغ منازل الشهداء.

وهنا نستطيع الإجابة بكل وضوح على سؤالنا، أيهما كلفته أكبر؟

فكُلفة المقاومة رغم شدتها، تظل أقل بكثير من ثمن الاستسلام. فالمقاومة تجدد الحياة وتنقل الراية بين الأجيال، بينما الاستسلام طريق بلا عودة، هجرة من ذاتك إلى ذات الآخر، ينتهي بذوبان الإنسان في ذات المحتل، وخسارته لهويته وكرامته وإنسانيته.

مقالات مشابهة

  • الاحتلال يغتال فلسطينيا في طمون ويدفع بتعزيزات إلى نابلس
  • بعبوات برميلية شديدة الانفجار.. استهداف قوة إسرائيلية في غزة ووقوع قتلى وإصابات
  • قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل 14 فلسطينيًا من الضفة الغربية
  • اقتحام نابلس.. واعتقال العشرات من مدن الضفة صباح اليوم
  • حادثة الإعدام في جيت.. جنود الاحتلال يتوقون لقتل فلسطينيي الضفة كما في غزة
  • ما بين الحياة الآمنة تحت الاحتلال والمقاومة أيهما كلفته أكبر؟ (2)
  • كيف استقبل النازحون في مراكز الإيواء بطولكرم عيد الأضحى؟
  • مستشفى العودة بغزة: وصول 28 مصابا جراء إطلاق مسيرات الاحتلال
  • لإنهاء المقاومة.. الاحتلال ينقل نموذج تدمير رفح لشمال الضفة الغربية
  • الضفة الغربية.. استشهاد فلسطيني برصاص الاحتلال في الخليل