الثورة نت:
2025-06-02@03:57:13 GMT

الشهادة في فكر الإمام علي “عليه السلام”

تاريخ النشر: 21st, March 2025 GMT

الشهادة في فكر الإمام علي “عليه السلام”

 

العلامة / عبدالمجيد الحوثي

أطلقت الشهادة في اللغة على:-

1 – “الحضور على الواقع عند وقوعه”. ومن ثم يقال: يرى الشاهد ما لا يراه الغائب.

(ﻭﺷﻬﺪﻩ ﻛﺴﻤﻌﻪ ﺷﻬﻮﺩا ﺃﻱ ﺣﻀﺮﻩ، ﻓﻬﻮ ﺷﺎﻫﺪ، ﺟمعه ﺷﻬﻮﺩ، ﺃﻱ ﺣﻀﻮﺭ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ ﻣﺼﺪﺭ)، وهذا كما قال تعالى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) [سورة الكهف : 51] اي لم أحضِرهم عند خلقها حتى يكونوا شهودا عليها، وكما قال تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) [سورة البقرة : 133] أي أم كنتم حاضرين حين حضر الموت يعقوب عليه السلام

2 – وتقال على معنى “أداء ونقل الواقع إلى الغير”:

(ﻭﻳﻘﺎﻝ: ﺷﻬﺪ ﻟﺰﻳﺪ ﺑﻜﺬا ﺷﻬﺎﺩﺓ، ﺃﻱ ﺃﺩﻯ ﻣﺎ ﻋﻨﺪﻩ ﻣﻦ اﻟﺸﻬﺎﺩﺓ، ﻓﻬﻮ ﺷﺎﻫﺪ)، فإن كان أداء الشهادة بحق وعلى مقتضى الواقع سميت شهادة حق، كما قال تعالى : (َإِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة الزخرف : 86]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) [سورة النساء],

وان كانت بخلاف الحق والواقع سميت شهادة الزور كما قال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [سورة الفرقان : 72].

والشهادة في القرآن الكريم اطلقت على المعاني المتقدمة، وأطلقت أيضا على معان أخر منها:

3 -“اقامة الحجة وتوضيح الحق للناس ودعوتهم إليه”

حتى لا يكون للناس على الله حجة بأن يقولوا لم يدعنا أحد إلى الحق ولو دعانا لأجبنا، كما قال تعالى:(رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [سورة النساء : 165]، ثم بعد إقامة الحجة يقومون بأداء الشهادة أمام الله يوم القيامة بأنهم قد أقاموا الحجة على عباده.

وبهذا المعنى اطلق على الرسل صلوات الله عليهم بأنهم شهداء، كما قال تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) [سورة النساء : 41]. وكما قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا).[سورة المزمل : 15].

وبهذا المعنى أيضا أطلق على الأئمة الهداة الدعاة إلى الحق من آل البيت عليهم السلام بأنهم شهداء على الناس، كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).[سورة الحج : 78].

وبهذا المعنى أيضا سمى الله الأمة التي تقوم بدورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ) [سورة آل عمران : 110]، واطلق عليها انهم شهداء على الناس ووسمهم بالوسطية فقال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [سورة البقرة : 143].

معنى الشهادة في سبيل الله

بعد أن عرفنا معاني الشهادة في اللغة العربية والقرآن الكريم، ينبغي أن نعلم أن لفظ الشهادة في عرف الشرع قد غلب استعماله في من يُقتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه وإقامة الحق.

وهو أيضا في هذا الموضع مأخوذ من إقامة الحجة والشهادة لله يوم لقائه بالدعوة للناس إلى الحق “وقبولهم، أو رفضهم له”

فدم الشهيد الذي سُفك في سبيل الله وروحه الطاهرة التي أزهقت في سبيل الدعوة إلى الله ونصرة دينه هي أكبر شاهد على أولئك المجرمين الذين حاربوا الله ورسوله وخالفوا الحق وقتلوا الذين يأمرون بالقسط والحق من الناس، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [سورة آل عمران : 21].

فالشهادة في سبيل الله هي بذل الروح والنفس في سبيل الدعوة إلى الحق وإقامة الحجة على الناس بما يقطع العذر لهم أمام الله.

ولكن من المهم جدا ان نعلم انه ليس كل من يقتل في المعركة يعتبر شهيدا ويكتب عند الله شهيدا مهما لم يكن قتاله لله في سبيل إقامة الحق والدين ملتزما بالشرع وبالتوجيهات الإلهية في أقواله وأفعاله وجميع سلوكياته؛ إذ كيف يكون شاهدا على من خالف الحق وهو لم يلتزم بالحق في أقواله وأفعاله، فلا يكفي ان يكون الإنسان تحت راية الحق أو مع قيادة محقة أو لأنه يقاتل أهل الباطل في ان يُكتب عند الله من الشهداء مهما كانت تصرفاته وأعماله مخالفة للحق ولتعاليم الله سبحانه؛ ولهذا ورد في كثير من الروايات أن أناسا كانوا يقاتلون تحت راية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم المشركين فيقتلون، فيقال: يا رسول الله، فلان شهيد، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا؛ إنه في النار في عباءة غلها)، (لا؛ إنه لا يدخل الجنة عاص).

الشهادة في فكر ونهج الإمام علي

وأما إذا جئنا إلى الشهادة في فكر ونهج الإمام علي عليه السلام فإنا نرى الإمام علي عليه السلام مع ما كان عليه من صفات الفضل وخصال الخير التي تفرد بها؛ فهو: من تربى في حجر الرسول، ونما تحت إشرافه ورعايته، وهو السابق إلى الإسلام؛ وأول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو من قام الإسلام بسيفه كما قال الشاعر:

وبسيفه قامت قناة الدين

لولا سيفه ما قام منه قناه

وهو عيبة علم المصطفى؛ وباب مدينة علمه؛ وهو أخوه، ووصيه، وخليفته من بعده إلى غيرها من الفضائل التي لا تحصى لا تحتويها المجلدات الكبار.

ولكن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان مع ذلك حريصاً أشد الحرص على أن لا يفوته مقام الشهادة ودرجتها العظيمة، فهو من كان يتمناها في كل معركة يخوضها دفاعا عن الإسلام. بل كان يدعو ويبتهل إلى ربه أن يوفقه للشهادة.

ولما مضت عدة غزوات ولم يحصل على الشهادة تقدم إلى أخيه وقدوته ومثله الأعلى بالطلب أن يتقدم بالدعاء إلى ربه أن يرزقه الشهادة في سبيله.

ولما مرت عدة معارك لم ينل فيها الإمام علي عليه السلام الشهادة أخذ يعاتب حبيبه ويشكو اليه: (يا رسول الله طلبت منك ان تدعو الله لي بالشهادة وأنا أرى إخواني يستشهدون دوني)، فيرد عليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (انها من أمامك يا علي ولكن من يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، أما انها ستخضب هذه من هذه -وأشار إلى رأسه ولحيته- فكيف صبرك عندها يا علي)، فيجيب الإمام علي بتلك الروحية العظيمة التي باتت تعشق الشهادة في سبيل الله وتعرف قدرها ومنزلتها، فتعتبرها وسام شرف ودرجة رفيعة، يحمد الله الإنسان ان منحه إياها، فيقول الإمام علي عليه السلام مجيبا على حبيبه المصطفى: (ليس ذلك من مواطن الصبر يا رسول الله بل هو من مواطن الشكر).

هكذا عاش الإمام علي عليه السلام طيلة حياته وهو يحلم بالشهادة في سبيل الله ويبذل حياته للجهاد في سبيل الله، “لا يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه”، بل كان كما قال عليه السلام: “والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الرضيع بثدي أمه”، وهو القائل عند قتال الخوارج: “والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم”.

وقد كان من إتمام الفضل والشرف لأمير المؤمنين عليه السلام أن يرزقه الله الشهادة على يد شر الخلق والخليقة البذرة الشيطانية التي أنتجت منهج التكفير للمسلمين واستباحة دمائهم وأعراضهم، والذين أخبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم انهم “شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة”، فكان أمير المؤمنين هو من نال شرف قتل هؤلاء الخوارج المارقين التكفيريين في وقعة النهروان.

وعندما سمعت أم المؤمنين عائشة بقتلهم قالت من قتلهم؟؟ فقيل: علي بن أبي طالب، فقالت: أما إنه لا يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول فيه ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعته يقول فيهم :(هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة).

وهؤلاء الخوارج التكفيريون هم من حدثنا عنهم وعن صفاتهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: “يأتي أناس يحسنون القول ويسيئون الفعل”، “يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم”، “يحسبونه لهم وهو عليهم”، “تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وتلاوتكم عند تلاوتهم”، “يحفون شواربهم ويعفون لحاهم”، “أزرهم إلى أنصاف سوقهم”، “يحاربون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان”، “طوبى لمن قاتلهم وقتلوه”، “لئن أدركتهم لأقتلنهم قتلة عاد”، “هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة”، “يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”، “هم كلاب أهل النار”.

عندما نستمع إلى هذه الأوصاف التي وصف الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بها هذه الفرقة المارقة الضالة ندرك مدى ضرر وخطر هذا الفكر التكفيري على مستقبل الأمة.

ولهذا فلا يستغرب أن يقوم هؤلاء بالتقرب إلى الله -على زعمهم- بقتل أمير المؤمنين ويعسوب الدين، وسيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين؛ أخي رسول رب العالمين؛ ووصيه، وخليفته من بعده، من يدور مع الحق والحق يدور معه، من هو مع القرآن والقرآن معه، من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل الرسول على تنزيله، من يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

لا غرابة ان يقوم أشقى الخلق بالتربص لاغتيال هذه الشخصية التي انهد بمقتلها عمود الدين وتهدمت أركان اليقين وأظلمت الأرجاء واسود الفضاء.

فتربص اللعين لأمير المؤمنين سلام الله عليه وهو خارج لأداء صلاة الفجر في المسجد فضربه بسيف كان قد صقله بألف دينار وسمّه بألف دينار فشق به هامته المنيفة حتى سال الدم على لحيته الشريفة كما أخبر حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

وهنا وفي هذه اللحظة نال أمير المؤمنين ما كان ينتظره بلهفة وشوق منذ أيام شبابه ولم ينله إلا وقد بلغ الثالثة والستين من عمره وعند ذلك يطلق أمير المؤمنين صرخته التي تدل على مدى ترسخ وتجذر حب الشهادة في قلبه وكيانه قائلا:(فزت ورب الكعبة).

فاز لأنه نال شرف الشهادة في سبيل الله، فاز لأنه سار على النهج القويم الذي يؤهله لأن يكون من الشهداء مع كل ما ناله من الفضل والشرف في مسيرة البذل والعطاء اللامحدود التي قضى عمره بأكمله في سبيلها، فصلوات الله عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث إلى ربك مرضي القول مشكور السعي تحمل لواء الحمد وتقف تسقي المؤمنين على حوض الرسول الأمين، وجعلنا الله ممن سار على دربك واهتدى بهداك ورزقنا الشهادة في سبيله بحق محمد وآله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

هل نصر الله الحق بأيدي الغرب وأضاعه العرب؟

تتداعى في زماننا أركان العدالة، وتنزف فلسطين دما تحت وطأة الاحتلال الصهيوني، يتردد صدى حكمة إلهية تهز الضمائر: "إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر" (رواه البخاري ومسلم). هذا الحديث، الذي نقله أبو هريرة رضي الله عنه، يفضح حقيقة مريرة: الله قادر على نصرة الحق بأيدٍ لم تكن يوما من أهله، بينما يقف أبناء الأمة، الذين حملوا فلسطين في قلوبهم لقرون، متفرجين أو متخاذلين.

ترفع إسبانيا والنرويج وأيرلندا راية فلسطين، جنوب أفريقيا تتحدى الاحتلال في محكمة العدل الدولية، وشعوب الغرب تهتف في شوارع لندن وباريس وبالمو ولاهاي وامستردام، بينما يرقص بعض حكام العرب على أنغام التطبيع، غارقين في أوهام المصالح، تاركين غزة تنزف وحيدة. أين مروءة الأمة؟ أين صوت العروبة الذي هزّ العالم يوما؟

هل استبدل الله قوما بقوم، كما وعد في قوله: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" (محمد: 38)؟ هذا المقال ليس مجرد تحليل، بل صرخة غضب في وجه التخاذل العربي، ودعوة لاستعادة الكرامة.

إن فلسطين ليست قضية شعب، بل جرح الأمة النابض، واختبار لضميرها. فهل ستظل الأمة صامتة، أم ستستيقظ لتحمل لواء الحق، قبل أن يُسجل التاريخ خيانتها لدماء الشهداء وخذلانها لأهل فلسطين والقبلة الأولى ومسرى رسولها؟

الاستخدام والاستبدال في الإسلام: حكمة إلهية في زمن الأزمات:

يحذر الله في القرآن الكريم بقوله: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" (محمد: 38). هذه الآية ليست عقوبة في حد ذاتها، بل نظام إلهي يعكس عدل الله وحكمته.

مفهوم "الاستخدام والاستبدال" يتجاوز فكرة الجزاء إلى رؤية عميقة: الله قادر على استخدام أي أداة، حتى لو كانت بعيدة عن الإيمان، لتحقيق مقاصده. الحديث النبوي: "إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر".. تتجسد هذه الحقيقة هذه الأيام كما شهد التاريخ الإسلامي على قادة وسياسيين لم يكونوا على الصراط المستقيم، لكنهم كانوا أدوات لنصرة الحق.

أما في سياق القضية الفلسطينية، نرى هذا المبدأ يتجلى بوضوح، شعوب وحكومات من أوروبا وجنوب أفريقيا، بل وحتى أفراد من خلفيات بعيدة عن الإسلام، يقفون في طليعة المدافعين عن فلسطين، بينما تتخاذل حكومات للأسف عربية عن دورها التاريخي.

هل هذا استبدال إلهي؟ أم دعوة للأمة لاستعادة مكانتها؟

لا يدعو الإسلام إلى اليأس، بل إلى العمل. فالقضية الفلسطينية، برمزيتها الدينية والإنسانية، اختبار للأمة:

هل ستظل تنتظر نصرا من الخارج، أم ستستلهم قوتها لتكون أداة الله في نصرة الحق؟

الاستبدال ليس نهاية، بل تحذير لمن أضاعوا الأمانة أن يستعيدوا دورهم قبل أن يُسجل التاريخ تخاذلهم.

أوروبا تقود الدفاع عن فلسطين: تحولات غير متوقعة:

أصبحت عواصم أوروبا، وهي التي ارتبطت لعقود بدعم الاحتلال الإسرائيلي أو الصمت حياله، وأحيانا كثيرة كأنها تسمع أخبار عن أناس من كوكب آخر؛ ساحات لنصرة فلسطين، في مشهد يثير الدهشة والغضب.

ففي أيار/ مايو 2024، أعلنت إسبانيا والنرويج وأيرلندا اعترافها بدولة فلسطين، في خطوة هزت الدبلوماسية الغربية. هذا القرار لم يكن مجرد إعلان، بل صرخة ضد عقود من التواطؤ مع كيان يغرق في جرائمه. هذه الدول، التي كانت جزءا من تحالفات داعمة لإسرائيل سواء بالمال أو السلاح الذي لم ينقطع عن دولة الاحتلال لحظة، اختارت الوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ، مضحية بعلاقات تجارية وسياسية مع الاحتلال.

ففي أروقة البرلمان الأوروبي ارتفعت أصوات تطالب بتجميد اتفاقيات الشراكة مع إسرائيل، مستندة إلى انتهاكاتها في غزة ورفح، فقادت إسبانيا هذا الحراك، ودعت الاتحاد الأوروبي إلى دعم قرارات محكمة العدل الدولية، التي أمرت في أيار/ مايو 2024 بوقف العمليات العسكرية في رفح. هذه الخطوات كانت مدعومة بحراك شعبي غير مسبوق، من لندن إلى مدريد، ومن برلين إلى لاهاي، خرجت مظاهرات عارمة تحمل أعلام فلسطين وتندد بالإبادة الجماعية. شباب أوروبا، الذين كانوا بعيدين عن هموم الشرق الأوسط، أصبحوا صوتا مدويا للعدالة، مستلهمين قيم الإنسانية التي تجاوزت الحدود، وكيف لا وعلى أرض أوروبا أنشئت حركة مناهضة الصهيونية وغيرها من الحركات والتكتلات التي أفاقت أوروبا من سباتها على جرائم الاحتلال الإسرائيلي، فحرك الطلاب في الجامعات الأمريكية والأوروبية الماء الراكد في بحيرة أسهم الاستثمارات في فلسطين المحتلة.

في مفارقة لتجسد حقيقي للمبدأ الإلهي (الله ينصر الحق بمن يشاء)، أصبحت شعوب أوروبا، التي لا تربطها بالقضية روابط دينية أو قومية، أكثر جرأة من حكومات عربية، لكن هذا الدعم الأوروبي لا يحل محل الدور العربي، بل هو تحدٍ للأمة لاستعادة مكانتها، مستلهمة حكمة الله في نصرة الحق.

جنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية: صوت الحق من أطراف العالم:

برزت جنوب أفريقيا كمنارة للعدالة، حاملة لواء فلسطين أمام محكمة العدل الدولية. في كانون الأول/ ديسمبر 2023، رفعت دعوى تتهم إسرائيل بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية، مستندة إلى مجازر غزة. قرار المحكمة في كانون الثاني/ يناير 2024، الذي طالب إسرائيل بمنع أعمال الإبادة وتسهيل المساعدات، كان ضربة قانونية للاحتلال. وفي أيار/ مايو 2024، أمرت المحكمة بوقف العمليات في رفح، في خطوة أعادت الأمل لمن يؤمنون بالقانون الدولي.

كانت هذه الدعوى تعبيرا عن إرث جنوب أفريقيا في مقاومة الأبارتهايد، الشعب الذي عانى التمييز العنصري يرى في فلسطين مرآة لنضاله.

وعلى الجانب الآخر من الكوكب في أمريكا اللاتينية، قطعت دول مثل كولومبيا وبوليفيا علاقاتها مع إسرائيل، فيما أعلنت تشيلي وهندوراس دعمهما لتحركات جنوب أفريقيا. هذه الدول، من أطراف العالم، أصبحت صوتا مدويا لفلسطين، في وقت يغرق فيه العالم العربي في صمت رسمي ووحل مستنقع التطبيع مع المحتل. إنها لحظة تؤكد أن الله يختار من يشاء ليكونوا أدوات نصره، مستلهمين مبدأ الاستخدام الإلهي الذي لا يعرف حدودا.

العرب وحكوماتهم: خيانة المروءة وتلويث العروبة

ينبض قلب الأمة العربية ووجدانها بفلسطين، وهنا يدوي سؤال يمزق الأحشاء:

أين المروءة؟

أين تلك الروح التي هزت العالم يوما تحت راية القدس؟

فالحكومات العربية، التي كانت صوتا موحدا ضد الاحتلال، أصبحت أسيرة حسابات تجارية وخضوع سياسي، تتخلى عن كرامتها باسم المصالح. باستثناء خطوات محدودة لذر الرماد في الوجوه، مثل دعم مصر لدعوى جنوب أفريقيا أو استدعاء سفراء في الأردن، ظل الموقف العربي الرسمي جبانا، بعيدا عن الجرأة التي تتطلبها دماء الشهداء، وعن موقف الرئيس المنتخب محمد مرسي الذي أوقف حرب في 4 أيام بعد فضل الله وندائه "لن نترك غزة وحدها".

صور الأطفال الممزقين والأمهات الثكالى لم يحرك ضمير الحكام العرب لنجدة إخوانهم. بدلا من ذلك، سارع بعضهم إلى التطبيع مع المحتل، في خيانة صارخة لدماء غزة. الإمارات، التي كانت يوما رمزا للعزة العربية، رمت نفسها في أحضان الاحتلال الصهيوني، فاتحة أسواقها وموانئها لكيان يغرق في دماء الفلسطينيين. بل نادت أصواتها الرسمية باستئصال المقاومة الفلسطينية، واصفة إياها بالإرهاب، في محاولة لقتل روح الصمود التي تحمل راية القدس. هذا التطبيع ليس مجرد تخلٍ عن المروءة، بل طعنة نجلاء في قلب الأمة، وتلويث لعروبتها، وإهانة لكل شهيد سقط دفاعا عن الأرض. أين صوت "بالروح بالدم نفديك يا أقصى"؟ أم أن بريق الذهب ووهم القوة قد أعمى البصر والبصيرة، تاركا غزة وحيدة تنزف تحت سماء صامتة؟

علي النقيض، لا تزال الشعوب العربية تحمل فلسطين في قلبها. من عمان إلى بيروت، ومن تونس إلى الرباط، خرجت مظاهرات عارمة تندد بالاحتلال، لكن هذا الحراك يصطدم بحواجز القمع السياسي والتردد الحكومي. دول وقّعت اتفاقيات تطبيع، مثل الإمارات والبحرين ودول في طريقها للتطبيع، واجهت غضبا شعبيا عارما، مما يكشف الفجوة بين الشعوب وحكامها. استطلاعات رأي على مدار 17 عاما عن طريق مؤسسات رسمية وغير رسمية عربية وأجنبية بعد ما يزيد عن 4 عقود على اتفاقية العار كامب ديفيد، أظهرت أن ما يزيد عن 85 في المئة مثلا من المصريين أن الاحتلال هو العدو الأول ويجب القضاء على الاحتلال ومحاربته، كما زادت شعبية المقاومة على عكس ما كانت في 2015 من نسبة 60 في المئة إلى 88 في المئة.

فالمروءة التي يرددها الناس ليست شعارا عاطفيا، بل التزام إسلامي بمناصرة المظلوم، لكن هذا الالتزام غائب عن حكومات يقال إنها عربية تخشى مواجهة قوى تدعم إسرائيل، مفضلة الخضوع على الكرامة. هل استُبدل العرب؟ الشعوب لا تزال حية، لكنها مكبّلة بقيود حكامها.

الحديث النبوي يذكّرنا بأن الله قد ينصر الحق بغير المؤمنين، لكنه دعوة للأمة لاستعادة دورها قبل أن يسجل التاريخ عار تخاذلها.

المقارنة بين الشعوب: استبدال أم استنهاض؟

تعد فكرة "الاستبدال" قاسية، لكنها تحدٍ للتأمل. شعوب أوروبا، التي خرجت في مظاهرات في لندن وباريس وبرلين ولاهاي، أظهرت تعاطفا غير مسبوق مع فلسطين. شباب الغرب، عبر منصات مثل إكس، ينشرون صور دمار غزة، صارخين ضد الظلم. هذا الحراك ليس تضامنا عابرا، بل وعي إنساني يتجاوز الحدود.

لم تفقد الشعوب العربية شغفها بالقضية، مظاهرات الأردن ولبنان وتونس والمغرب تثبت أن فلسطين نابضة في وجدان الأمة، لكن هذا الحراك مقيد بقيود سياسية، مما يجعل تأثيره ضعيفا مقارنة بالزخم الدولي.

إن الاستبدال، إن وُجد، ليس للشعوب، بل للأدوار الرسمية. حكومات أوروبية ودول الجنوب العالمي أخذت زمام المبادرة، بينما تخاذل حكام عرب. وهنا يأتي قول الله: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد: 11)، يدعو الشعوب العربية للانتفاضة لاستعادة دورها بالضغط على حكوماتها. التضامن العالمي فرصة، لا بديل عن الدور العربي.

نحو تضامن عالمي يقوده العرب:

فلسطين ليست قضية، بل جرح الأمة النازف منذ 8 عقود واختبار ضميرها. مواقف أوروبا وجنوب أفريقيا تؤكد أن الله ينصر الحق بمن يشاء، لكن هذا النصر لا يعفي العرب من مسؤوليتهم. الاستبدال الإلهي تحذير، وليس حكما نهائيا. الأمة التي حملت راية القدس مدعوة لاستعادة مكانتها، ليس بالشعارات، بل بالأفعال.

دعوة الإسلام للمروءة هي دعوة للوحدة والعمل، فلتتحد الشعوب العربية مع التضامن العالمي، ولتهز أركان الظلم. فلسطين تنتظر أبناءها، لا ليبكوا عليها، بل ليحملوا رايتها بكرامة، مستلهمين حكمة الله في نصرة الحق، ومؤمنين بأن الأمة قادرة على قيادة العدالة والحرية.

مقالات مشابهة

  • عبادة بسيطة وأجرها كبير في العشر الأوائل من ذي الحجة .. اغتنمها
  • ثبات نبي الله إبراهيم عليه السلام في مواجهة الطاغوت : قراءة في المحاضرة الثالثة للسيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي يحفظه الله ضمن سلسلة دروس القصص القرآني
  • ذمار..فعالية لمكتبي هيئة الأوقاف والتربية والتعليم لإحياء ذكرى الولاية
  • متى تبدأ؟.. موعد تكبيرات عيد الأضحى المبارك 2025 في مصر
  • دعاء المطر والرعد.. كلمات كان يرددها النبي وقت العواصف
  • ما هي الصيغة الصحيحة لتكبيرات عيد الأضحى؟
  • موعد صلاة عيد الأضحى المبارك 2025 في مدن ومحافظات مصر
  • المليشيا علي الباطل وأهل السودان علي الحق
  • هل نصر الله الحق بأيدي الغرب وأضاعه العرب؟
  • متى يكون وقت قراءة سورة الكهف يوم الجمعة؟.. الأزهر يجيب