يزخر التاريخ العماني على مر العصور بالعديد من الأعلام والأقطاب والقامات العلمية الشامخة في شتى المجالات والعلوم، الفقهية والتأريخية واللغوية والتطبيقية وغيرها. هامات لا يوفي حقها مهما كتب عنها ومهما أفردت لها من صفحات وحُبِّر فيها من أوراق. نحاول في هذه الوريقات أن نصحب القارئ الكريم مع هامة من هذه الهامات ومعلمة متميزة من أعلام الفكر العماني، وقامة سامقة من قاماته العديدة، وقطب من أقطاب الأمة العمانية.

نتناوله بشيء من التركيز، ونتعرف عليه عن قرب من حيث نسبه وحياته وعصره، وأهم إنجازاته العلمية، ومكانته بين أقرانه من أقطاب الحضارة العمانية. إنه العلامة الفقيه اللغوي المؤرخ أبا المنذر سلمة بن مسلم العوتبي الصحاري.

عُرف عن العوتبي أنه موسوعة من العلوم والمعارف، وقد اعتراه بعض الغموض، رغم شهرته لدى الأوساط العلمية العمانية، من فقهاء ولغويين ومؤرخين، إلا أنه لا يزال إلى يومنا هذا لغزًا محيرًا من حيث مولده ونسبه وأهم أحداث حياته، وشيوخه الذين أخذ عنهم العلم، وتلامذته الذين أخذوا عنه، فكل تلك الإشكالات لا تزال محل نقاش وبحث لدى الباحثين والدارسين، فقد أرخ العوتبي للناس ولم يُؤرّخ لنفسه، وترجم للأنساب ولم يُترجم لنسبه، وهذا يقودنا إلى طرح تساؤل: هل تعمد العوتبي إخفاء ذلك، أم هو منهج سار عليه في المبالغة في التواضع ونكران الذات؟ أم هو ابتغاء مرضاة الله في التوجه بالأعمال لوجه الكريم دون رجاء حمد أو ذكر، كما هو معهود عن أعلام الإباضية؟

اسمه ونسبه..

هو العلامة الأصولي الفقيه اللغوي المؤرخ النسابة، أبو المنذر سَلَمَة بن مُسْلِم بن إبراهيم بن سَلَمَة الأزدي العوتبي الصحاري، فقد نسبه أغلب المؤرخين إلى الأزد، فمنهم من نسبه إلى طاحية، كالشيخ المؤرخ سيف بن حمود البطاشي، ومنهم من نسبه إلى العتيك، كالشيخ أحمد بن سعود السيابي، وعلى أي حال، فإن طاحية والعتيك كلاهما من الأزد، أما نسبته إلى عوتب فهي منطقة من مناطق مدينة صحار، أشهر المدن الساحلية بالباطنة في عُمان آنذاك، وقد عُرف العلامة سلمة بن مسلم في الأوساط العلمية قديمًا بالعوتبي أو الصحاري العماني، نسبة إلى موطنه عوتب من أعمال صحار في القطر العماني.

مولده وعصره..

رغم مكانة العوتبي وشهرته في الأوساط الفقهية والتاريخ العماني، إلا أن المصادر العمانية شحيحة جدًا بما يتعلق بنسبه وموطنه وعصره، وقد اختلف المؤرخون والباحثون في تحديد مولده والعصر الذي عاش فيه، فهل هو من علماء القرن الرابع أم من القرن الخامس أم من القرن السادس الهجري؟ ويتلخص ذلك الاختلاف في ثلاثة آراء:

الرأي الأول: يرى أصحابه أن العوتبي عاش في منتصف القرن الرابع الهجري وامتد به العمر إلى أوائل القرن الخامس الهجري، وذلك اعتمادًا على السبب الذي ذكره في كتابه الأنساب (في ذكر الملوك والخلفاء لغاية سنة: 345هـ)، ومن أنصار هذا الرأي المؤرخ العلامة سيف بن حمود البطاشي، وتابعه كثير من الباحثين.

الرأي الثاني: يرى أصحابه أنه عاش في أواخر القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجري، وذلك بناء على ما وجد من نقولات للعوتبي من مصادر تنتمي لتلك الفترة، كنقله عن ابن حزم الأندلسي (ت: 456هـ)، ونقله عن أبي حامد الغزالي (ت: 505هـ)، رغم البعد المكاني بين العوتبي وبينهما، ومن أنصار هذا الرأي سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي وتبعه في ذلك الشيخ أحمد بن سعود السيابي.

الرأي الثالث: ذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن شخصية العوتبي ليست واحدة، وإنما شخصيتان حملتا الاسم نفسه، هما: سلمة بن مسلم بن إبراهيم بن سلمة بن مسلم بن عيسى بن سلمة. الأولى: أبو المنذر سلمة بن مسلم بن إبراهيم (الحفيد)، مؤلف كتاب الأنساب، والثانية: أبو إبراهيم سلمة بن مسلم بن عيسى (الجد)، مؤلف كتاب الضياء. وعلى ذلك يكون النسب هو: أبو المنذر سلمة بن مسلم بن إبراهيم (مصنف الأنساب) بن سلمة بن مسلم بن عيسى بن سلمه (مصنف الضياء). و(مسلم بن عيسى) هو الذي شارك مع أخيه (أحمد بن عيسى) في معركة الروضة (سنة 278هـ).

وهذا الرأي تبناه المستشرق البروفسور (جون ويلكنسون) وتبعه المستشرق (باثورست)، ولكنه رأي يحتاج إلى تمحيص؛ لما وقع فيه أصحابه من الخلط بين الشخصيتين، وتقديم للمتأخر وتأخير للمتقدم، ولا نقف كثيرًا حول هذا الخلاف فما زال قائمًا بين الباحثين.

نشأته الأسرية والعلمية..

وكما أن المصادر لم تسعفنا بحياة العوتبي وعصره، كذلك لا يوجد بها الكثير عن أسرته ونشأته الأولى، ولكن من المستخلص من تراثه الفقهي واللغوي يمكن القول إن العوتبي نشأ في بيت علم وفضل، وقد تلقى علومه الأولى على يد والده (مسلم)، وكعادة طلبة العلم في ذلك الوقت لا بد للعوتبي أن يكون قد تلقى مبادئ العلوم الشرعية واللغوية باكرًا في أسرته وفي محيطها من منطقة عوتب.

أما عن مكانته العلمية فإن كتب العوتبي تنبأ بمكانته الجليلة بين علماء التراث الإباضي الفقهي واللغوي، وتنبئنا كتبه عن موسوعية العوتبي وتبحره في كثير من العلوم الشرعية والأصول والفقه واللغة، وأنه قد ظفر بمكتبة ضخمة تضم كثيرًا من المؤلفات والمصنفات، ويظهر ذلك من خلال مصنفاته ومصادره التي استقى منها علومه.

كذلك لم تسعفنا المصادر بإشارات صريحة ودقيقة عن مشايخه الذين تلقى عنهم العلم، ولكن الفترة التي عاش فيها العوتبي تزامن ظهوره مع ظهور مجموعة من العلماء، ولم تؤكد لنا المصادر اتصاله بهم، منهم القاضي أبو علي الحسن بن أحمد بن نصر الهجاري (ت: 502هـ)، والقاضي أبو بكر أحمد بن عُمر بن أبي جابر المنحي (ت: 502هـ)، والشيخ محمد بن إبراهيم بن سليمان الكندي (ت: 508هـ).

أما تلامذته الذين تتلمذوا عليه، فجلّ ما ذكرته الروايات لا يخلو من إشكال في النسبة والزمان، وعلى ذلك يبدو أن العوتبي كان رجلًا عصاميًا علم نفسه وهذبها وتبحر في العلم وترأس مكانته في زمانه.

آثاره العلمية..

ترك لنا العوتبي أعمالًا جليلة من القدر بمكان، تنوعت بين الفقه واللغة والأنساب والتاريخ، ومن تلك المصنفات:

1- كتاب الأنساب:

مجلد فريد يضم بين دفتيه مادة خصبة تنوعت بين التاريخ والأنساب، وقد ركز فيه على القبائل العمانية نظرًا لعمانيته، واستفاد في مادته من ممن تقدمه من نسّابي العرب كابن الكلبي، وابن دريد، وابن حزم، وغيرهم، وقد اعتمد على كتاب الأنساب الكثير من النسّابة العمانيين وكثير من المؤرخين ممن جاء بعد العوتبي.

2- كتاب الإبانة في اللغة:

هو معجم لغوي ضخم، يحوي مادة لغوية ونحوية وصرفية ومعجمية وبلاغية وأصولية، ومسائل متعددة في جوانب اللغة ودقائقها، ونظمه العوتبي على حروف المعجم، وهو مصنف ثمين يزخر بالجوانب الأدبية والشواهد النحوية، فصلها العوتبي شارحًا ومفصلًا وممثّلًا ومدلّلًا ومستشهدًا على مادته التي يسوقها بالكثير من الأمثلة والآراء والتوجيهات النحوية والصرفية واللغوية من كتب اللغة المتقدمة؛ ككتب الخليل، وسيبويه، والفراء، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وأبي عبيد القاسم بن سلام، والأخفش، والزجاج، والمبرد، وابن جني وغيرهم من علماء اللغة المتقدمين.

3- كتاب الضياء:

هو موسوعة فقهية ضخمة، حققت وطبعت عام 2015م من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في ثلاثة وعشرين مجلدًا، واحتوت على أصول الدين، والعقيدة، والفقه، والعبادات، والمعاملات، والمواريث، وجمعت بين ثناياها الكثير من الآراء الفقهية للمذهب الإباضي والمذاهب والفرق الإسلامية الأخرى، وتميزت بقوة التأصيل، وحسن التبويب والتقسيم على أبواب الفقه، واصطبغت بصبغة أدبية من حسن العبارة، وجمال التعبير، وحسن الألفاظ، واحتوت على شروحات لغوية ونحوية وصرفية كثيرة، ويعرض فيها العوتبي الرأي في المسألة الفقهية ثم يسوق عليها الشواهد اللغوية والنحوية، ثم يوجهها التوجيه اللغوي الذي يتماشى مع مقتضى تفسير الآيات للوصول إلى الرأي الفقهي.

4- كتاب الإمامة:

هو من الكتب التي تنسب إليه، فقد نسبه إليه العلامة نور الدين السالمي في كتابه اللمعة المرضية، وهو مخطوط ضمن مجموعة بمكتبة الإمام نور الدين السالمي.

5- سيرة منسوبة إليه:

هناك سيرة تنسب إليه، وجهها إلى رجلين كتبا إليه يسألانه عن أصول الدين، فأرسل إليهما العوتبي جوابًا على سؤالهما، وهذه السيرة موجودة ضمن كتاب الضياء.

6- رسالة وجهها إلى ولديه يحثهما فيها على اتباع أمور الدين والالتزام بها.

7- بعض الأشعار التي تنسب إليه، موجودة في مقدمة كتاب الضياء، منها:

هذا كتاب ضياءٍ في القلوبِ أخِي *** أَكْرِم بما فيه من علـمٍ ومــن أدبِ

سَمَّيْتُهُ بالضيا؛ إذ كان فيهِ هُدى *** من العمى وضِيا من ظلمة العطبِ

خَصَصْتُ نفسي به حُبًّا ومعرفةً *** له، وصنَّفْتُــه من أصــدق الكتــبِ

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: م بن إبراهیم هذا الرأی المنذر س أحمد بن کثیر من عاش فی

إقرأ أيضاً:

«صحيفة الرأي الأردنية»: أمن الدولة يستدعي المسئول الأول في جماعة الإخوان

استدعى مدعى عام محكمة أمن الدولة الأردنية، مراد العضايلة، باعتباره كان المسؤول الأول فى جماعة الإخوان المحظورة والتى كانت تمارس عملها بشكل غير مشروع، وفق ما نقلت صحيفة الرأى الأردنية عن مصدر مطلع.

ووفقا لصحيفة «الرأى» الأردنية، فإن التحقيقات التى أجرتها الأجهزة المختصة بقضية «أموال الجماعة» أفضت إلى «الحصول على أدلة واعترافات تتعلق بإدارة شبكة مالية لها امتدادات خارجية».

وأضافت أن الجهات المختصة «تحرزت على وثائق ومضبوطات عُثر عليها داخل مقرات كانت تقيم فيها الجماعة المحظورة، وتفيد بجمع واستخدام الأموال بشكل غير قانوني ولأغراض غير مشروعة» وفقا لوسائل الإعلام الأردنية.

وكان وزير الداخلية الأردنى مازن الفراية أعلن أن الجماعة المنحلة حاولت تهريب وإتلاف كميات كبيرة من الوثائق من مقارها لإخفاء نشاطاتها وارتباطاتها المشبوهة.

اقرأ أيضاًإطلاق صافرات الإنذار في الأردن بعد رصد أجسام طائرة في السماء

«الجيش الأردني»: انتهاك المجال الجوي محاولة لجرّ الأردن للصراع «فيديو»

إفلاس الإرهاب.. لماذا ظهر العولقي بوجهه واستهدف مصر والأردن؟

مقالات مشابهة

  • كتاب اسمه حيفا
  • أردوغان والعدالة والتنمية يواصلان التراجع باستطلاعات الرأي
  • تخريج أول دفعة من “برنامج التصحيح اللغوي”
  • شاب مسلم يفوز برئاسة بلدية نيويورك
  • بدء الدورة الثانية من استطلاع الرأي حول جودة الحياة والأمن بالسلطنة
  • تخريج أول دفعة من برنامج «الدبلوم العالي للتصحيح اللغوي» بمجمع الملك سلمان
  • مجْمع الملك سلمان يحتفل بتخريج أول دفعة من برنامج “الدبلوم العالي للتصحيح اللغوي”
  • تكريم مدراء الشؤون القانونية والإحصاء وفرعي مكتب هيئة الاراضي بالمراوعة وبيت الفقيه بالحديدة
  • «صحيفة الرأي الأردنية»: أمن الدولة يستدعي المسئول الأول في جماعة الإخوان
  • مؤرخ بريطاني: مواقف لندن مزدوجة ولا تمارس وساطة حقيقية مع طهران