لطالما كان للنجوم حضور قوي في الثقافة العربية، ولا تزال الكثير منها تحمل أسماء عربية حتى اليوم، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى في سورة الأنعام: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"، وارتبط العرب بالنجوم بشكل وثيق، فأطلقوا عليها أسماء ووصفوها بدقة، ولم يقتصر تأثيرها على علم الفلك وحسب، بل امتد أيضًا إلى الشعر والأدب، حيث تغنّى بها الشعراء وحيكت حولها الأساطير، مستخدمينها لرسم صور خيالية تربط بين النجوم وتوضح مواقعها في السماء ضمن حكايات وقصص مشوقة.
والنجم الذي نتحدث عنه هو نجم "الغميصاء" ويسميها العرب أيضا "الغميضاء"، هو أحد نجوم كوكبة الكلب الأصغر، وتعود شهرة هذا النجم الأبيض المائل إلى الصفرة كونه ثامن ألمع نجم في السماء، وعند العرب يعتبر هو أحد نجوم منزلة الهقعة، وهي إحدى منازل القمر في التقويم العربي القديم، ولو تتبعنا هذا النجم في المعاجم اللغوية العربية لوجدنا أن ابن منظور في معجمه الشهير لسان العرب قد فصل في سبب تسمية هذا النجم بهذا الاسم، بل وأورد الأسطورة العربية في ربط هذه النجم بغيره من النجوم التي نقلها بلسان الأديب العماني ابن دريد فهو يقول: " والشعرى الغموص والغميصاء ويقال الرميصاء: من منازل القمر، وهي في الذراع أحد الكوكبين، وأختها الشعرى العبور، وهي التي خلف الجوزاء، وإنما سميت الغميصاء بهذا الاسم لصغرها وقلة ضوئها من غمص العين، لأن العين إذا رمصت صغرت. قال ابن دريد: تزعم العرب في أخبارها أن الشعريين أختا سهيل وأنها كانت مجتمعة، فانحدر سهيل فصار يمانيا، وتبعته الشعرى اليمانية فعبرت البحر فسميت عبورا، وأقامت الغميصاء مكانها فبكت لفقدهما حتى غمصت عينها، وهي تصغير الغمصاء.
ويطلع نجم "الغميصاء" في الجزيرة العربية، قبيل الفجر في أوائل يناير، ثم يصبح ظاهرًا طوال الليل في الربيع، ويكون في أوج ارتفاعه في السماء في شهر فبراير، وهو أحد نجوم فصل الشتاء المميزة، ويغرب مع دخول الصيف، ويختفي في ضوء الشمس خلال الأشهر الحارة.
وظهور نجم "الغميصاء" في السماء قبل الفجر كان يُعد من علامات اشتداد البرد، خاصة في شهر يناير، حيث يدل على أن الشتاء دخل مرحلته الباردة، وكان الفلاحون يربطونه بموسم "الصفري"، وهو الوقت الذي تبدأ فيه الأشجار بإسقاط أوراقها وتستعد لمواسم النمو القادمة.
وإذا أتينا إلى ما ذكرته الدراسات الحديثة من معلومات فلكية عنه، فهذا النجم يبعد عنا تقريبا 162 سنة ضوئية، سطحه أكثر حرارة من الشمس، حيث تبلغ حرارته 11,772 كلفن مقارنة بـ5,778 كلفن للشمس، ومن حيث الحجم فقطره أكبر من الشمس بحوالي 2.1 مرة، أي أنه أكبر من الأرض بـ2.5 مليون مرة.
وقد ورد هذا النجم في أشعار العرب وأخبارهم، فنجد مثلا الشاعر الجاهلي الشنفرة ذكر هذا النجم في لاميته المشهرة حيث قال:
وَأَصبَحَ عَنِّي بِالْغُمَيْصاءِ جَالِساً
فَرِيقَانِ مَسؤُولٌ وَآخَرُ يَسأَلُ
فَقَالُوا لَقَدْ هَرَّتْ بِلَيْلٍ كِلَابُنَا
فَقُلْنَا أَذِئْبٌ عَسَّ أَمْ عَسَّ فُرْغُلُ
وهذا الشاعر العباسي رهين المحبسين أبو العلاء المعري يذكر هذا النجم في معرض ذكر فكرة العبور من النهر فقال:
عَبَرَ الناسُ فَوقَ جِسرٍ أَمامي
وَتَخَلَّفتُ لا أُريدُ عُبورا
أَشعَرَ اللَهُ خالِقُ الأُمَمِ الشِع
رى الغُمَيصاءَ ذِلَّةً وَالعَبورا
كما أن الشاعر العباسي أبا منصور الثعالب قد ذكر هذا النجم وأسماه الغيضاء بالضاد، فقال:
كأَنَّما الشمسُ سكرى فهي راجعةٌ
من قبلِ موعدِها تومي بأضواءِ
كأنَّما الأرضُ شحراء من الذهب آل
إبريز سامية نحو الغميضاءِ
ومن الشعراء الذين ذكروا هذا النجم الشاعر الأندلسي الشهير حازم القرطاجني الذي يقول:
كأنك إذا فُتَّ الثريَّا مكانةً
سطوتَ بكفَّيها خصيبٍ وجدباءِ
ورُعْتَ عَبورَ الشعْرَيَيْنِ فلم تغر
خفوقاً وبذا السعد نورَ الغميصاءِ
ونجد الشاعر العثماني ابن النقيب ذكر هذا النجم في أشعاره فقال:
أيا من له في كل مجد موثَّل
رواق على الشعْرى الغميْصاء حابسُ
إِليك بها من خدْر فكر مكفّل
بروض جياد القول وهي شوامس
كما أن للشعر الحديث نصيبا في ذكر هذا النجم، فهذا الشاعر العراقي حمزة قفطان يذكر "الغميصاء" ويقول إن هجر أختها لها لم يكن من باب الجور فقال:
فإن عبرت تلك العبور فادمعي
طفحن وما نهر المجرة جاري
وقد أبكت الأخرى الغميصاء زفرتي
وما هجرتها أختها بجوار
وأيضا نجد الشاعر البغدادي جميل صدقي الزهاوي يذكر هذا النجم فيقول:
هَل بعين الشعرى الغميضاء لَيلاً
أَخبروني قذى من الأقذاء
ما أَظن الميزان يوزن فيه
بعض ما في الحلوى من الأشياء
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی السماء نجم فی
إقرأ أيضاً:
عبدالرحمن الخزيمي بين «قراءة في جبين نازح بغدادي» و«في صحاري المستحيل»
لم تكن مشاركات الشاعر عبدالرحمن الخزيمي في الملتقيات الأدبية الشبابية بالكثيرة؛ إذ اقتصرت على مشاركتين فقط، لكنه في المشاركتين قدّم نصين أبرزا للمشهد الشعري الشعبي في عُمان شاعرا شابا حاملا أدواته الشعرية البديعة في نسج نصوصه الشعرية التي كان يشتغل عليها بروية وتأنٍ ومراجعات تطول أحيانا يريد من خلالها تقديم نص شعري يليق بحيويته الشعرية المندفعة ذلك الوقت.
عرفت الخزيمي كشاعر لأول مرة في الملتقى الأدبي التاسع بالبريمي عام 2003م، يومها شارك بقصيدة عنوانها (قراءة في جبين نازح بغدادي) حصل بها على المركز الثالث في المسابقة، وكانت شهادة انطلاقة لشاعر شاب قادم من ولاية شناص يحمل مشعل الشعر الشعبي، قبل أن يفوز نصه الآخر (في صحاري المستحيل) بالمركز الأول بمسابقة الملتقى الأدبي الثاني عشر بولاية صور عام 2006م أي بعد ثلاث سنوات من مشاركته الأولى.
وفي تقديري كانت السنوات الثلاث كفيلة بأن تصنع اختلافا كبيرا بين النصين في اشتغالات اللغة على سبيل المثال، وفي الصُّور الشعرية، والبناء الشعري. يومها كان نص الخزيمي فارقا في اشتغالاته الفنية الأمر الذي قدّمه شاعرا مبدعا على الأقل في تحولات القصيدة الشعبية آنذاك.
في الملتقى الأدبي بولاية البريمي طالعنا الخزيمي بنص واقعي، يتناول قضية إنسانية، قضية سقوط بغداد ذلك العام، فاشتغل في فكرته على التجربة الإنسانية بتقديم الوجع الإنساني والمكاني في صورة نص شعري. كان سقوط بغداد يومها حديث الإعلام والناس، فاستغل شاعرنا فكرة النزوح للاشتغال على نص شعري يطوف بنا في عالم الوجع والحزن والألم المسيطر على الإنسان العربي. وبلغة منكسرة داخليا يقرأ الخزيمي الوجع المتمثل في هيئة نازح عن الأرض. ويعتمد النص في واقعيته على اشتغالات اللغة المتطورة التي يصطاد من خلالها الشاعر فكرة السقوط والنزوح والوجع الذي يملأ وجدان العراقي.
تبدأ القصيدة بالبوح والنوح والحزن كمقدمة للدخول إلى الألم الداخلي، فتنطلق الذاكرة في التعبير عن مشاعر مختلطة بين الماضي والحاضر:
تمرّ السالفة ويبتلّ من أحداقها نحري ... وش أقسى من حروف ما تجيك وفي يديها فالْ
دريتي لو يمون الجمر ويشعل هالوطن سري ... بكون أقوى جواد ما تعثّر أو عرف خيّالْ
ولكن تشبه عيوني خيوطك ما لقت فجري ... أنا من سال في دمعة فصول.. وعزة.. ورجَّالْ
أبا ذكركم صرخت البارحة بالحيل يا سطري ... أنا وش لي من الذكرى أصارع دمعتي واحتالْ
أبا ذكركم حكاوي تنتهي فيني وأنا أدري ... بأن الموت في وجهي ونسيت أحمل معي موالْ
كثير البوح يملى هالجهات ويغرفه حبري ... تمدّه قهوة الماضي سواد.. وحبةٍ من هالْ
تذكّرت اللحون اللي طعون تشتهي صدري ... وكان الفجر من دمع الفرات يرتّب الأشكالْ
مسافر ما لقيت إلا جبيني جابر كسري ... أمانه لا تخليني أموت ولا هنا لي بالْ
الذكرة مشحونة، والقلب يفيض بالذكرى، لكن الشاعر وبعد أبيات طالت في إبداء المشاعر والأحاسيس التي من خلالها يوجّه الصورة على الواقع ينتقل إلى استحضار الماضي، وكأنه في عملية الربط هنا يحاول أن يقدّم بغداد الحضارة والتاريخ بعد مشاعره الجياشة، فيستحضر (بابل) في وسط الاسترجاع التاريخي، ويعرّج على العروبة التي سقطت بسقوط بغداد:
ترى يا بابل الماضي هنا في خاطري يطري ... أنينٍ لو نزفنا ما نزفنا غير هالمثقالْ
يا عين الحرف يتبعها بريق الراء في جمري ... واشيل الباء بكفوفي وامنّي بعدها الأجيالْ
لقد استطاع الخزيمي اقتناص الفكرة وتقديمها في لغة اشتغل على دلالاتها جيدا، حاول من خلالها رسم صورة النزوح والألم الذي رافق السقوط، ولعل البيت الأخير في القصيدة يشير إلى ذلك حين قال:
وقفت وكنت أحسبني أشيل الحظ في عمري ... مشيت وما دريت إني أحط الماي في الغربالْ.
برغم الجماليات التي يمكن أن يلحظها القارئ في القصيدة السابقة، فإن الخزيمي قدم في قصيدته (في صحاري المستحيل) نصا مختلفا عن النص السابق، لغة واشتغالا فنيا مال فيه إلى الرمزية أكثر من الواقعية، فكانت الفكرة مغيبة تقريبا، يميل فيها إلى الذاتية والتعبير عن الأنثى والرومانسية كمنطلق في بناء النص. يطالعنا الشاعر بذلك في أول النص، في عتبة العنوان مازجا بين دلالات الوعورة في كلمتي (الصحاري) و(المستحيل) وكأنه يقصد بذلك الدخول إلى عالم الخيال الشعري المكثف، ثم يعرّج على عتبة المقدمة التي لم تزد العنوان إلا رمزية حين قال: «لكل وجهته.. تخط على عباب المصير كل أوراق الغربة والضياع.. لتروي قصة اختزلتها الأيام إلى أرض الرحمة هناك».
تتحول العتبتان إلى إشارة للبحث عن الرمزية، مُشكلة من الغربة والضياع والمستحيل دلالات يتوارى خلفها النص. فيفتتح الشاعر نصه قائلا:
نامت الزرقه بعيونك والمدينة للكسوف
حالمة شقّت سحاب الصدر من فرط الحنين
كان شمع الخوف يقرى عن أساميها الرفوف
وكنت أنا همس الرهان اللي يصافحها رهين!
وش للمدى
إلا عيونك والنخيل
متشابهة كل النجوم بضحكتك
لو لامست أهدابك .. أطراف المدى
وش حيلته كل المطر
صوبك يميل
يتساقط بعين الظما
طاحت ورا شوفك
تواريخ وفصول ...
مارتاحت الشمس بيمينك
وصار للعشب المعلق في ظفايرها سنابل
وش لعثمك؟! هذي عصافيرك.. نجوم بساعتي
ثكلى.. ف موعدها.. عبورك...؟!
في الحنين.
في هذه القصيدة بالتحديد ينطلق الشاعر من زوايا عدة لبناء قصيدته، فنجده إضافة إلى رمزية الدلالات، يمزج في خطابه إلى الأنثى رومانسية مجروحة، تشربت بالغياب والرحيل، فهو يفتقد إلى الآخر الذي كان صورة من الماضي، هنا تتحول الرومانسية إلى لغة ضائعة وأنين وفقد وبحث عن الماضي. المقطعان الآتيان يشيران إلى فكرة امتزاج الرمزية بالخطاب الرمزي المغترب والحزين، إذ نجد الشاعر يتلاعب برمزية الدلالات في المقطع العمودي محاولا التنصل من فكرة محددة، أما في المقطع التفعيلي نجده يشتغل الخطاب الأنثوي الباحث فيه عن الغياب والفراق:
كان محرابي عجاج وكان لون الصبر خوفْ ... وكنت رمز الجوع في ظل الخلود المستكينْ
آه يا قلب المواني من كسر عزم الحروفْ؟ ... يندفنْ هالعمر وانتي شامخة مثل الأنينْ
صرت ابطعن هالثواني وكان منديلي سيوفْ ... سالفة صحَّتْ فتات الخبز في عين السجينْ !!!
يومها لف البحر رمل الحواري بالحتوفْ ... ونام ذا الليل بضلوعي والهدب حارس امينْ !
هذه الليله هي الأولى
هذه الليلة هي الذكرى الكفيفة بالرحيل
جيت ابذكر بعد خمس سنين
وش معنى غيابك
ضايع بعينك
وانا الصمت القتيل
شفت هالدنيا حناجر
كلها صاحت عليك
وانا مثل الارض
لاصارت يباب
وانتي اجمل نهر
يجري في صحاري المستحيل !!!
يمزج الخزيمي بين تفعيلات الشعر وبين النص العمودي في محاولة لإيجاد نص مكتنز بالدلالات، يراوح فيها بين النغم الموسيقي وهذا الاشتغال في ذاته ينبئ عن مهارة يشتغل عليها الشاعر في إيجاد تصارع دلالي في المعاني.
لعل النصين السابقين كانا من النماذج البارزة التي مرّت على نصوص الملتقيات الأدبية والتي يومها كانت متنفسا للشعراء الشباب الذين يشتغلون على نصوصهم الشعرية بروية وتأنٍ، فكان عبدالرحمن الخزيمي واحدا من الشعراء الذين أنجبتهم مسابقات الملتقى الأدبي.