لجريدة عمان:
2025-05-15@06:08:58 GMT

تعلّم الرومانسيّة ودع عنك التاريخ

تاريخ النشر: 9th, April 2025 GMT

قبيل ظهر الجمعة وصلنا إلى قرية «كيبويني»، وهي على بُعد ستة كيلومترات من «المدينة الحجرية» التي سكَنّا فـيها. وكانت وجهتُنا «قصر السعادة» الذي بناه السلطان خليفة بن حارب بن ثويني عام 1915. وفور وصولنا استقبَلَنا الدليل القائم على القصر بامتعاض، لأنّ الوقت الآن غير مناسب للزيارة، فقد اقترب موعد صلاة الجمعة.

قلتُ محاولًا التخفـيف من امتعاضه: «اذهب للصلاة، ودع تلك المرأة تشرح لنا». ردّ وقطراتُ ماء الوضوء تقطر منه: «هذه عملها محاسبة فقط».

دفعنا الرسوم المقررة بعد السؤال التقليدي الذي يتكرر فـي كلِّ مكان نذهب إليه: «هل أنتم ضيوف؟»، وتأتي الإجابة ذاتُها فـي كلِّ مرة: «نعم. نحن ضيوف». وأظن أنهم يكررون لنا السؤال دائمًا لأنهم لا يستطيعون أن يجزموا هل نحن من زنجبار أو من عُمان، خاصةً أننا نتحدّث لغتهم. أخذَنا الدليل إلى أقسام «قصر السعادة» المختلفة؛ والذي تبدو حالته جيدة بعد أعمال الصيانة التي أجريت له. أخبرنا أنّ الحكومة الزنجبارية استخدمت القصر فـي بعض المراسم الرئاسية، وجعلت منه مقرًّا لسكن رئيس الوزراء فـي سنة 1986 لفترةٍ وجيزة؛ ثم حُوِّلَ إلى متحفٍ وطني يستقبل الزوار ابتداءً من عام 2022م. أخبرَنا أيضًا أنّ القصر كان استراحة السلطان خليفة بن حارب فـي عطلات نهاية الأسبوع، بعيدًا عن ضوضاء المدينة. وما لم يخبرنا به أنه بعد أحداث عام 1964، استولى الانقلابيون على القصر واستخدموه مقرًّا لاجتماعاتهم الرسمية، وبعد سنواتٍ من الإهمال أقدمت حكومة زنجبار على ترميمه. تساءلتُ فـي قرارة نفسي: تُرى كيف هو شعور أحفاد السلطان خليفة بن حارب وهم يرون أموالهم وبيوتهم تُسرَق من أمام أعينهم وهم بلا حول ولا حيلة ولا قوة؟! ثُمَّ وسّعتُ التساؤل: بِمَ يُحِسّ يا تُرى أولئك الذين نُهبت أموالهم بغير حقّ من العُمانيين واليمنيين والهنود؟! مثل هذه المآسي تحدُث عادةً عندما تقلم أظافر العدالة التي أمر بها الله عز وجل فـي كتابه الكريم، إنها تخلِّف فـي الحلق طعمًا أمرَّ من العلقم، غير أنّ المظالم الفادحة ستظلّ كتابًا مفتوحًا يُقرأ على رؤوس الأشهاد فـي ذلك اليوم الذي لا ينفع فـيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وفـي ظلِّ هذه المظالم هناك من أعيد لهم بعض ممتلكاتهم بعد جهد جهيد. وقد حكى لي أحد هؤلاء أنّ الانقلابيين استولوا على عقار يعود لجدته، واستحلّوه سنين طويلة بغير وجه حقّ، وعندما أعيد لهم بعد ذلك الجهد، استغرق الأمر سنوات أخرى لبيعه (مضطرين) لأنّ العقار أصبح من حقِّ عشرات الورثة. والعقار حاليًّا يرمم من قبل المشتري الهندي ليصير فندقًا. ونستطيع أن نقيس هذا الأمر على أناس آخرين تعرضوا للنهب، وحين عادت ممتلكاتهم المنهوبة لم يستطيعوا الاستفادة منها بسبب التقادم؛ وهناك كثيرون استسلموا للأمر الواقع، مؤثرين الراحة بدلًا من صداع الرأس والجري هنا وهناك، لا سيما وأنّ الدلائل والشواهد تشير إلى أنّه لا أمل فـي عودة حقهم المسلوب. وقد قادني التساؤلات إلى أن أسأل نفسي: لماذا لا يشتري أحفاد السلطان خليفة بن حارب هذا القصر، طالما أنّ كلَّ شيء قابلٌ للبيع الآن؟!

فـي استراحة السعادة، شاهدنا المقتنيات الشخصية للسلطان خليفة وكامل الأثاث من أسرّة وكراسٍ وطاولات، وسمح لنا القائم عليها أن نلتقط صورة تذكارية فـي الكرسي السلطاني (كرسي العرش) الذي كان يترأس فـيه السلطان الاجتماعات، وبه شعاره الخاص. وكعادته استغل سيف الموقف فصوّر لقطات فـيديو نشرها فـيما بعد فـي حسابه فـي «إنستجرام» وفـي «تيك توك»، وكان لسليمان -كعادته أيضًا- تعليقاته اللطيفة واللماحة؛ فعندما رأى كرسيًّا خاصًّا مصممًا لشخصين يجلسان عليه متقابلين، بعدما وصفه الدليل بأنه «كرسي المحبة»، صرخ سليمان: «يا زاهر تعلّم الرومانسية وخلي عنك التاريخ».

أخبرني الباحث ناصر الريامي أنّ الأثاث الموجود فـي الاستراحة حاليًّا ليس هو الأثاث الأصلي للقصر، إذ إنّ معظم الأثاث الحالي منقول من «بيت العجائب» و«بيت الساحل»، بعدما تقرر غلقهما وحجب جمهور العامة عنهما منذ ما يربو على الثلاث سنوات؛ مخافةَ الانهيار بالكامل، بعد أن انهار جزء من «بيت العجائب»، ليعقب ذلك نقل أغلب أثاثهما إلى متحف استراحة السعادة (قصر كيبويني). وعليه؛ فإنّ هذا الوضع قد يُحدِث لبسًا لزوار المتحف، فـيظنون خطأً أنّ الأثاث المعروض هو ذاته الذي تزينت به الاستراحة فـي فترة السلطان المؤسس لها، ومن جلس على عرش زنجبار من بعده. وأنا شخصيًّا وقعتُ فـي الفخ، فظننتُ أنّ هذا أثاثُ القصر؛ لأنّ المرشد لم يشر إلى الموضوع، لا من قريب ولا بعيد.

هناك مقطع مصوّر يعرض نزول السلطان عبدالله بن خليفة بن حارب السُلّم وخلفه أخوه السيد حارب بن عبدالله، بينما يصطف بجانب السلّم ثلة من الشرطة تحية للسلطان. هذا المقطع لم أكن أعلم أنه مأخوذٌ من هذا القصر إلا بعد أن قرأتُ سلسلة المقالات التي كتبها الباحث ناصر الريامي عن القصور السلطانية فـي زنجبار، وإلا لكنتُ أخبرت سيف أن يلتقط لنا صورًا فـي السلّم نفسه للذكرى.

تجولنا فـي الاستراحة التي تتكون من ثلاثة طوابق. الطابق الأرضي به عدد من الغرف، خُصصت لمن يرافق السلطان من أفراد الأسرة المالكة، كما يشغلها الضيوف أحيانًا، وتوجد بجوار السُلّم غرفة للحارس مزودة بجهاز اتصال هاتفـي من النوع الكلاسيكي العتيق؛ فإذا ما قرر السلطان زيارة الاستراحة يجري الاتصال بالحارس وتنقل إليه التعليمات بتجهيزها لاستقبال جلالته وضيوفه. ومتى ما وصل السلطان يرفرف علم الدولة الأحمر على منارتها مربعة الشكل. أما عن المساحة الإجمالية لقصر السعادة فـيُقدِّرها الباحث محمد بن حمد العريمي ما بين ألفـين إلى ثلاثة آلاف متر مربع. ويعلّق العريمي على طريقة بنائه فـي مقال له فـي صحيفة «أثير» الإلكترونية بالقول: إنه «وعلى الرغم من عدم وجود المساحات الكبيرة التي تميّز القصور عادةً بسبب كونه قصرًا خاصًّا لاستراحة السلطان وقضاء إجازاته، إلا أنّ مكوناته وطريقة بنائه تنم عن ذوقٍ عالٍ فـي التصميم، وتشير إلى التقدم الحضاري الذي وصلت إليه زنجبار فـي تلك الفترة، ومسايرةِ حكامها للتطور الحاصل فـي العمارة والبناء. وقد اختير المكان بعناية حيث إنه مبنيٌّ على حافة الجبل ويطل بشكلٍ كامل على البحر».

هذه الإطلالة على البحر هي ما يجعل قصر السعادة من أجمل الأماكن التي تهفو النفوس لزيارتها أكثر من مرة، خصوصًا مع هدوء المكان، والمساحة الخضراء التي تحيط به من كلِّ جانب.

على كل حال، تركنا القائم على المتحف أو القصر أو الاستراحة ليلتحق بما تبقى من خطبة صلاة الجمعة، وواصلنا مسيرنا إلى «بيت المرهوبي» لنشاهد معلمًا آخر من معالم التاريخ العُماني فـي الشرق الأفريقي.

زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

لحظة عُمان وقيادتها التاريخية الفارقة

لا أحد يجادل اليوم في أن النظام العالمي يتغير، وتتغير معه أو بسببه كل موازين القوى، ويتراجع النظام الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، يحدث هذا التغيير الكبير هذه المرة في لحظة تغير حضاري متزامن مع تغير نظام النفوذ العالمي؛ فالحضارات التي كانت في قمة نشوتها منتصف القرن الماضي تتراجع اليوم وتصعد في المشهد، وإنْ ببطء، حضارات جديدة بقيم مختلفة عن تلك القيم التي أغرت العالم في النصف الثاني من القرن العشرين. وخلال هذا التغيير تتشكل محاور جديدة، ويعاد رسم الجغرافيا السياسية، تصعد قيم ومبادئ سياسية واقتصادية وثقافية وتخبو أخرى.

أمام هذا المشهد الكبير والمزدحم بالتغيرات العميقة الذي يحدث في العالم نحتاج أن نسلط الضوء على ما يحدث في الدول الوطنية؛ وكيف تبني مساراتها وسط ما يحدث وكيف تحافظ على استقلالها وسيادتها دون أن تنصهر في التجارب الكبرى الصاعدة أو تذبل مع الذابلين.

وتجربة سلطنة عُمان بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- مهمة جدا لأسباب كثيرة من بينها الأسباب التاريخية التي تجعل عمان واحدة من بين أعرق الدول في منطقة الشرق الأوسط، ونظامها السياسي الأقدم في العالم وتجربتها في بناء الدولة مختلفة تماما عن التجارب المجاورة لها.

يعيد صاحب الجلالة السلطان المعظم تعريف دور عمان الاستراتيجي انطلاقا من تراكم تاريخي طويل وعقلانية سياسية جديدة تتكئ على خبرة في المنطقة وما أسسته من ثقة كبيرة في الوجدان السياسي العالمي، وما يميز رؤية جلالة السلطان أنها واقعية جدا وعميقة، وعمقها كما سبق مستمد من خبرة طويلة تقارب عمر الدولة في عُمان.

وهذه الرؤية أو الفلسفة باتت واضحة للعالم الذي يرى الثقل الحقيقي لعُمان ولقيادتها ويفهم قوتها لا في الجانب النفعي ولكن البعد الاستراتيجي. اعتراف الأمين العام يُعد مؤشرا دقيقا على صعود «القوة التفاوضية الصامتة» التي باتت تمارسها عُمان، فليس ثمة ملف أهم للمنطقة اليوم من الملف النووي الإيراني، وليس أخطر على المنطقة من دخول الولايات المتحدة في ما يمكن أن نسميها «حربا» مع اليمن، وليس ثمة خبر سعيد للعالم من أن التجارة في البحر الأحمر يمكن أن تكون منذ الآن آمنة وسالكة. ورغم أن عُمان تحاول أن تبتعد عن الأضواء وتقدم نفسها كوسيط فقط إلا أن الأمر في حقيقته يتعدى ذلك إلى أنها تخلق شروطا لهذه الوساطات ولانعقادها في لحظة تبدو فيها الثقة بين مختلف الأطراف معدومة.

والمؤكد أن ما قاله جلالة السلطان- أعزه الله- في محادثته مع الأمين العام للأمم المتحدة بأن «الدور العُماني من أجل الخير والسلام للجميع» ليس أمنية أخلاقية وإنما عقيدة استراتيجية لعمان ولفكر جلالة السلطان المعظم لمن يقرأ فلسفة عمان وقائدها بوعي وروية. لكن عُمان وخلافا للكثير من الدبلوماسيات في المنطقة لا تميل إلى المبالغة في الاصطفاف حتى إلى جوار القوى الكبرى، إنما تصنع لنفسها مركزا ثابتا في مشهد يمكن أن يكون واضحا فيه تفكك الأطراف. ولذلك يمكن القول إن عُمان تتحرك من الحياد بوصفه فعلا مؤثرا لا موقفا سلبيا.

هذا الفلسفة في السياسة الخارجية لا يمكن فصلها عن التحول الداخلي العميق الذي يحدث في عُمان.. فمنذ 2020، يقود جلالة السلطان المعظم إعادة صياغة هادئة للدولة ولكنها عميقة جدا ومبنية، أيضا، على رؤية وفلسفة وليست اجتهادات لحظية أو ردة فعل طارئة، حيث انتهج جلالته سياسة ضبط التغيير عبر تخفيض الاعتماد الريعي دون تفكيك البنية الاجتماعية. هذا التحول، بصمته وبطئه، قد يكون أحد أكثر التحولات تعقيدا في الخليج، لأنه يتجاوز مرحلة ترتيب الإنفاق، إلى إعادة تعريف وظيفة الدولة الحديثة.

وعلى مستوى الجغرافيا السياسية، تقدم عُمان اليوم ما يمكن تسميته بـ«واقعية الدولة البناءة» وهو النموذج الذي تستخدم فيه الدول الشرعية الأخلاقية والرصيد السياسي الطويل كوسيلة للتأثير. ولذلك لم يكن تدخل عُمان في وساطة حفظ الملاحة في البحر الأحمر أو في الملف النووي لإحداث تحول عسكري مباشر، رغم أنه سيحدث لاحقا من تلقاء نفسه، ولكن هدفها اللحظي يتمثل في إعادة تشكيل الجغرافيا التفاوضية، وفتح نوافذ للحلول حين يعتقد العالم أن الأبواب مغلقة إلى الأبد.

إن ما يحدث في عُمان أو من عُمان ليس إنجازا دبلوماسيا فقط، إنه في الحقيقة «فن الحكم» الذي يأتي في لحظة تواجه فيها الكثير من دول العالم تحديا بنيويا متعدد الأبعاد في ظل تفكك المقومات التقليدية للشرعية السياسية.

وإذا كان حجم الأحداث الحقيقي لا يرى في لحظة حدوثها عندما يكون الناس مأخوذين بها أو بما حولها فإن وقتا قريبا سيأتي ويرى فيه العالم أجمع ما حدث في عُمان في لحظة من أصعب لحظات التاريخ وأعقدها وكيف أعاد جلالة السلطان هيثم المعظم بناء النموذج العماني داخليا وخارجيا بما يتوافق والمتغيرات والتحولات الكبرى وبما يتناسب وطموحه لعُمان العظيمة في وجدانه ووجدان شعبه.

مقالات مشابهة

  • الرئيس أحمد الشرع: سوريا لكل السوريين بكل طوائفها وأعراقها ولكل من يعيش على هذه الأرض المباركة، التعايش هو إرثنا عبر التاريخ وإن الانقسامات التي مزقتنا كانت دائماً بفعل التدخلات الخارجية، واليوم نرفضها جميعاً.
  • ترامب في قطر.. ما هو «القصر الطائر» الذي أثار حملة انتقادات حادة؟
  • وزير الخارجية أسعد الشيباني: نشارك هذا الإنجاز شعبنا السوري الذي ضحّى لأجل إعادة سوريا إلى مكانتها التي تستحق، والآن بدأ العمل نحو سوريا العظيمة، والحمد لله رب العالمين. (تغريدة عبر X)
  • فتحي عبد الوهاب: سعيد بكل ما قدّمته ولم أندم على أي مشهد أو دور |فيديو
  • جلالة السلطان يهنئ رئيس الباراجواي
  • بسبب الجوارب.. شقيق يقتل أخاه في القصر الكبير
  • متعب الحربي يمازح خليفة الدوسري: ملابسك مفرش غرف نوم.. فيديو
  • خليفة الدوسري يمازح نجل لودي في مشهد عفوي.. فيديو
  • لحظة عُمان وقيادتها التاريخية الفارقة
  • تقى حسام تكشف لـ صاحبة السعادة كواليس قلبي ومفتاحه ورحلتها من الإذاعة للتمثيل