د. عبدالله الغذامي يكتب: هل العقل وطن
تاريخ النشر: 12th, April 2025 GMT
في الفلسفة يجري طرح فكرة الفيلسوف بوصفه المواطن العالمي، والفيلسوف من حيث هو الحاكم، أي أن العقل وطنٌ كوني شعبه مواطنون عالميون فلاسفة، وحاكمهم منهم، وهذه سردية ثقافية لها تبعاتها المفاهيمية والسلوكية.
والذي قال بحكم العقل هو أفلاطون وتغليب قدرات العقل على كل أنظمة السلوك، وهو ابتدأ أولاً من موقفه السلبي ضد الديمقراطية التي يرى أنها قتلت سقراط، وأنها تجعل الغوغاء يحكمون، وفي الوقت ذاته فهو ضد الدكتاتورية، ولهذا لجأ لفكرة حكم الفيلسوف، على أن هذه الأحقية المطلقة للفيلسوف لدى أفلاطون تأتي من نظرية أن العقل هو الأقدر على الحكم، وبما أن الفيلسوف يأتي على قمة الهرم العقلي، فهو إذن من يحكم، ومنه تأتي العدالة.
وكما العقل يحكم فراسل يقول بالمواطن العالمي، وقوام فكرته أن مفهوم المواطن العالمي يركز على الفرد، وهو هنا الفيلسوف الذي يجعل ذاتيته تتصل مع الذوات والكينونات الأُخر، وكلها عنده كائنات واقعية دنيوية تتعامل مع واقع دنيوي وحدُّها هو حدود هذا العالم، ولكن صفة هذا المواطن العالمية صفة مثالية رغم واقعيته، فهو يمثل صفات العقلانية والنظر الحر والمستقل.
ولكن الواقع لا يعزز نظرية أفلاطون ولا نظرية برتراند راسل سيحضر، ولعل سقراط أولى منهما في رؤية الواقع الإنساني، فهو ينظر بنظرة أكثر إنسانية، فيصف الفلاسفة بأنهم أنصاف أموات لأنهم يعون أن للحياة صورةً أخرى غير الصورة الجسدية، وهي صورة الروح حين تتحرر من سجن الجسد، والموت هو لحظة التحرير، وهذا ما يعيه الفلاسفة الحقيقيون، ولذا فحياتهم مرتبطةٌ بهذا المعنى، وسيكونون مثل البجع حين تغرد بهجة بميعادها مع الموت، والفيلسوف لا يخاف إذن من الموت. وهذه حال عاشق الحكمة الصادق في حبها والذي ترسخت فيه هذه القناعة القائلة بأنه لن يبلغ أبداً الحكمة الجديرة بأن تسمى حكمةً في أي مكان آخر ماعدا العالم الآخر. والفلسفة لهذا في خدمة الله كما يحدد سقراط، ويزيد بالقول إن واجبه الديني هو تحقيق معنى العدالة.
وهنا يسبق سقراط كل النظريات المغرورة حول الفليسوف حاكماً أو مواطنا عالمياً، ولن تكون أي من الفكرتين إلا حالة غرور وتعصب للتخصص والذات المتفلسفة، وهذا ضربٌ من المواطنة السردية التي تنقض نفسها كما نقضها سقراط قبل أن تتولد عبر تلميذه المباشر أفلاطون وتلميذه اللاحق متأخراً برتراند راسل. ولا بد هنا من الإشارة إلى معارضة ديفيد هيوم لأفلاطون، حيث يقول إن العاطفة هي التي تحكم وليس العقل.
وفي الثقافة العربية تسود فكرة (الحكيم) بوصفه عمدة المعاني وركيزة التدبير. وهذه الفكرة هي الأقرب للواقعية بما أن الحكيم هو الميزان الواقعي بسلوكه الذاتي أولاً وبسلوكه مع الظروف والبشر، والحكمة تعني قراءة الواقع بشروط الواقع دون تعالٍ على حقيقة ومجريات الحوادث، ولذا ففكرة الحكيم هي الأوثق ظرفياً وبشرياً.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي
إقرأ أيضاً:
د. محمد بشاري يكتب: من الجُرأة على التخيّل إلى صناعة المستقبل
لم يعد من المقبول أن تنحصر لقاءاتنا الفكرية في إنتاج بيانات ختامية أو سرد توصيات معتادة تستعيد ذات العبارات وتكرّر ذات المواقف. فما نحتاجه اليوم ليس تكرار ما قيل بالأمس، بل إحياء ما لم يُقال بعد، واستدعاء ما لم يُفكر فيه بعد. نحن في حاجة إلى جرأة جديدة، جرأة على التخيل لا تكتفي بوصف الواقع، بل تتجاوزه إلى تصور الممكن وابتكار الأفق.
لقد أصبح من الواضح أن الأطر التقليدية لفهم الشباب ودورهم قد باتت عاجزة عن مواكبة تحولات الزمن.
لم تعد الأجوبة المعلبة قادرة على إقناعهم، ولم يعد الخطاب الذي يُسقط عليهم التصورات من علُ، قادرا على إدماجهم. إن الحاجة اليوم تتجه صوب فتح أبواب الأسئلة الكبرى التي تخرجنا من ضيق الأجوبة الجاهزة إلى سعة التفكير المشترك. الشباب لا ينتظرون من يرسم لهم الطريق، بل يبحثون عمن يمنحهم حق المشاركة في إعادة رسم معالمه.
إن من بين أهم الأسئلة التي ينبغي أن نطرحها اليوم:
كيف يمكن أن نُعيد هندسة العلاقة بين المقدّس والواقع؟ كيف نصوغ توازنا جديدا بين النصّ والتجربة، بين الشريعة والحكمة، بحيث يشعر الشاب أن الدين ليس عبئًا مضافًا على الحياة، بل روحًا تبعث فيها المعنى وتحررها من الفراغ؟
وهل لدينا ما يكفي من الشجاعة النقدية للاعتراف بأن الكثير من خطاباتنا الدينية والتربوية لم تعد تواكب تحولات العصر، ولا تستجيب لانتظارات جيل رقمي يعيش في عوالم هجينة من الافتراضي والواقعي، ومن الواقعية النفسية إلى الرمزية الثقافية؟
ثم، كيف يمكن أن نخلق فضاءات جديدة للتعلم تتجاوز النماذج الجامدة للمؤسسات التقليدية؟ فضاءات يتجاور فيها المتعلم مع العالم، والمتدين مع الفنان، والفقيه مع عالم الاجتماع، ضمن مجتمع معرفة جديد لا يفصل بين العقل والروح، ولا يختزل الإنسان في وظيفة أو شعار.
ألا يجدر بنا أن نعيد الاعتبار للتجارب المحلية المتعددة، التي تحمل في تفاصيلها حكمة الأرض وصدق الواقع، بدلًا من السعي الدائم لاستيراد نماذج كبرى لا تتلاءم مع سياقاتنا ولا تعبّر عن ملامحنا الثقافية الحقيقية؟ ربما يكون ما يُنقذ شبابنا ليس خطابا معولما ولا مشروعًا أمميا، بل معنى قريبًا حيًا صادقًا ينبثق من بيئاتهم ويلامس حاجاتهم الواقعية.
ثم، لماذا لا نحول كل لقاء فكري من مجرد حدث موسمي إلى محطة تأسيسية دائمة تُعيد بناء مفهوم العمل التشاركي، حيث تتحول اللقاءات إلى ورش مفتوحة للإبداع لا إلى مناسبات للنشر الإعلامي فقط؟
أليس الأجدر أن يتحرك هذا الأفق بإرادة القيم لا بمنطق التمويل؟ أليس الأجدر أن يُبنى على صرامة السؤال لا على خمول التقليد؟
لقد تعب الشباب من الزيف الفكري ومن الشعارات التي لا تلامس وجدانهم. هم في حاجة إلى صدق في الموقف، وجرأة في التفكير، وفضاءات حرة للتعبير والمشاركة. ومتى فعلنا ذلك، سنكتشف أن الإنسان فيهم لم يمت، بل ينتظر من يحرّكه ويستنهضه. إنهم نبضنا الأصدق، ورايتُنا التي لن تنكسر ما دمنا نؤمن بأن المستقبل لا يُهدى، بل يُصنع.