بقلم: ماد قبريال
عندما اِنهمرتِ أصوات الرصاص في الخامس عشر من أبريل 2023 في العاصمة السودانية الخرطوم، لم يدور بخلد المراقبون آنذاك، بأنهم سيشهدون تكرار مآسي السودان مرة أخرى. من قتلٍ، تهجير، لجوء، نهب، واغتصاب، بهذه الصور المفزعة، التي انعدمت فيها كافة الصفات الإنسانية الحميدة. أغلب الظن وقتها بأنها ستكون اشتباكاتٍ محدودة الأثر، سيتم احتوائها، وإيجاد تسويةً ما، عملت عدة أطراف على تحقيقها في الساعات الأخيرة قبل الحرب.
منذئذ، تُذكر تقارير المنظمات الدولية والإغاثية أرقامًا عن المتأثرين بالحرب، أضحى فيها الشعب السوداني، يعاني من ويلاتها داخل البلاد وخارجها، آلاما و جراحا عميقة الجذور. ملايين النازحين واللاجئين الذين فقدوا كل ما يملكون، ولم يعد بأيديهم شيئًا، سوى الدعاء واستلهام الإرادة الشعبية الجماعية مثلما حدث في ثورة ديسمبر ضد استبداد الطغمة الحاكمة وقتئذ.
كانت تجربة الحروب الأهلية السودانية، في جنوب السودان (قبل استقلالها) 1955 – 2005، وفي إقليم دارفور، مناطق جنوب كردفان، والنيل الأزرق، تمثل عناوين الأزمة السودانية في الحديث عن أهوال الحرب، ومآسيها. كُتب عنها، ومنها ما لم يُكتب بعد. ولا أود في هذه المساحة تكرار ما كُتب، في سياق حرب 15 أبريل الراهنة. ولكن يرمي هذا المقال إلى إبراز التداعيات الأخرى لهذه الحرب، التي ما تزال تحصد أرواح السودانيين، مدنيين وعسكر وأفراد مليشيا تحارب من أجل الغنائم، حيث تمثل الحرب الذاكرة الأليمة لجراح المجتمع، حاضرًا ومستقبلًا.
يشهد السودان جميع أشكال التدمير المفجعة، الدمار الذي شهدته العاصمة، وبعض مناطق السودان الأخرى، يشبه ما حدث عند غزو بغداد، يوم هاجم هولاكو. لم ينتهي الأمر بإلحاق الهزيمة بالدولة العباسية، بل قام المغول بتدمير ماضيها ومستقبلها، برمي كتب ببغداد في نهر دجلة. هذا الفكر الذي لا يبالي سوى بتحقيق الأهداف الذاتية، يمثل تراجعا عن كل القيم الإنسانية إلى البدائية العقيمة. فقد استباحت المليشيا معاهد التعليم والجامعات ومخطوطات المتاحف، بصورة تجاوزت مظاهر العقل المتمدن إلى جنون الفعل الإنساني.
لسنوات طوال كنت أمنى النفس بزيارة الخرطوم لشراء بعض إصدارات مكتباتها ومراكزها البحثية، مثل مركز عبد الكريم ميرغني، ومركز محمد عمر بشير بالجامعة الأهلية بأمدرمان. غير أن الأقدار شاءت عكس ذلك، فتعذر الزيارة، وغدت هذه الأمكنة الآن خرابا أحدثته المليشيا في جسد الذاكرة التوثيقية السودانية.
بينما يأمل المراقبون خفوت أصوات الرصاص، يبقى التحدي الأكبر في كيفية تجاوز هذه الآثام الفظيعة، وأن يعود السودان كما كان، بفضائله وشيمه، متجاوزا آثار الحرب. لا يملك المرء حين يشاهد مثل هذه المآسي سوى الدعاء والتضرع إلى الله وطلب الرحمة والمغفرة للموتى وتمنى الشفاء للجرحى والمصابين وتلمس شفاء الأنفس المتضررة من ضحايا هذه الحرب من السودانيين. هذا البعد الإنساني والروحي أقوى ما يمكن أن نفعله كمراقبين للأحداث من الخارج. الفاجعة الكبرى أكبر مما نتصور، وأهوالها لم تخرج كلية ًبعد. لم يعافى منها الكثيرون أيضًا. شخصيًا، لم أستطع منذ بدء الحرب إكمال مسودة مقالات كنت قد شرعت في كتابة أسطرها الأولى. في معظم هذه الأوقات، منعتني مشاهد الدمار الهائلة من إكمال ما أود كتابته. صور الجرحى وجثث الموتى وشظف عيش المحتاجون، مشاهد تؤرق المرء وتعدم رفاهية الكتابة. وأنا من الفئة التي تحتاج وقتًا أطول للتعبير في مثل هذه الأوضاع.
[email protected]
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
جنرال إسرائيلي: لماذا لم تُهزم حماس بعد كل الضربات التي تلقتها؟
تساءل جنرال إسرائيلي عن أسباب عدم هزيمة حركة حماس في قطاع غزة، رغم الضربات المتتالية التي تلقتها الحركة على مدار 22 شهرا من الحرب الدموية.
وقال اللواء بقوات الاحتياط غيرشون هكوهين في مقال نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم"، إنه يلوح سؤال: "كيف لم تُهزم حماس بعد كل الضربات التي تلقتها؟"، منوها إلى أن النقاش الأخير بين رئيس الأركان ورئيس الوزراء، يتلخص في معضلة بين مسارين محتملين للعمل في المعركة القادمة.
وأوضح هكوهين أن "المسار الأول يهدف إلى احتلال قطاع غزة بالكامل في خطوة سريعة، والمسار الثاني يقترح تطويق مراكز قوة حماس"، مضيفة أنه "عند مناقشة المسارين، نرى هناك مزايد وعيوب لكل منهما، ولا يضمنان نهاية سريعة للحرب".
وتابع: "في خضم هذا الحديث فإنّ السؤال الذي يظهر هو كيف لم تهزم حماس بعد كل الضربات التي تلقتها؟"، مؤكدا أن "القول بأن ليس لديها ما تخسره هو تفسير مجتزأ. أما التفسير الأعمق فيتطلب النظر إلى قوة الإيمان الإسلامي التي تُحرك حماس".
وأردف قائلا: "مع أننا نُدرك البُعد الروحي الذي يُحرك الأعداء، إلا أننا في تصورنا للحرب، وفي تفكيرنا في طريق النصر ضدهم، نجد صعوبة في ربط البُعد المادي للأعداء ببُعدهم الروحي. يُظهر جيش الدفاع الإسرائيلي كفاءةً في كل ما يتعلق بالعمليات في البُعد المادي. لكن النظر إلى البُعدين معًا، في كيفية تشكيلهما حاليًا لروح الحرب لدى الأعداء من حولهم، يُمكن أن يُفسر كيف ولماذا كانت غزة، ولا تزال، نقطة ارتكاز الحرب الإقليمية بأكملها".
ولفت إلى أنه "رغم رحيل القائد الذي أشعل فتيل الحرب الإقليمية، إلا أن روحه تُحرّك قوى الجهاد في جميع المجالات. أشاد زعيم الحوثيين، عبد الملك الحوثي، في خطابٍ له قبيل ذكرى عاشوراء الشيعية في الخامس من يوليو/تموز، بموقف حماس البطولي قائلاً: "في غزة، تتجلّى كربلاء جيلنا". يُصبح مثال حماس في التضحية في غزة مصدر إلهامٍ لإرث التضحية - إرث أتباع الإمام الحسين".
ورأى أنه "من الواضح تمامًا أن قيادة حماس، التي تمسكت بمواصلة الحرب رغم صعوبة الوضع في غزة وحالة السكان، لا ترى في وضعهم "تفعيلًا لآلية تدمير ذاتي". في قوة الإيمان الجهادي وواجب التضحية، ثمة تفسير لكل المعاناة والدمار المحيط بهم. بالنسبة لهم، يُقصد اختبار الإيمان في مثل هذه الأوقات تحديدًا، في القدرة على تحمل المعاناة بصبر وانتظار الخلاص".
وتابع: "ما يعزز آمالهم في النصر هو الصورة المعاكسة لأصوات الضيق التي ترتفع من المجتمع الإسرائيلي"، معتبرا أنه "في مثل هذا الوضع الحربي، يتضح البعد الذي يتجاوز الأبعاد المادية للحرب. وبما أن تصور أعدائنا للحرب كجهاد يجمع جميع الأبعاد المادية والروحية، فلا بد لنا من التعمق ليس فقط في تقويض أصولها المادية، وهو ما يتفوق فيه جيش الدفاع الإسرائيلي، بل أيضًا في الإضرار المتعمد بالأساس الروحي للعدو".
وختم قائلا: "بالطبع، هذه دعوة لتغيير عقليتنا، ليس فقط في نظرتنا للحرب، بل أيضًا في إدراكنا لبعد الوعي فيها. هنا يكمن مجال عمل لم يتعمق فيه قادة دولة إسرائيل لأجيال، ولكنه أصبح الآن ضروريًا"، على حد قوله.