غالبا ما ترتبط منصات النفط والغاز بصورة الهياكل المعدنية العملاقة التي تقطع سطح المحيط، متصلة بشبكات معقدة من الحفارات والأنابيب التي تمتد في أعماق البحار لاستخراج ما تبقى من الوقود الأحفوري. لكنها بعد أن تستنفد آبارها وتصبح غير مجدية من الناحية الاقتصادية، تواجه مصيرا مجهولا، تتراوح خياراته بين التفكيك الكامل أو التحول إلى شيء مختلف تماما.

عادة ما كانت تُفكك هذه المنصات وتُزال من مواقعها، وهي عملية مُكلفة ليس فقط ماديا، بل أيضا بيئيا، لما تنطوي عليه من مخاطر على النظم البيئية المحيطة. لكن منذ أواخر القرن العشرين، بدأت تبرز فكرة بديلة ومثيرة للاهتمام وهي تحويل هذه الهياكل "المتقاعدة" إلى شعاب مرجانية اصطناعية.

الفكرة تقوم على مبدأ بسيط وفعّال يتلخص بأنه بدلًا من إزالة المنصة بالكامل، تُترك في قاع البحر بعد تنظيفها ومعالجتها لتتحول إلى موائل بحرية جديدة تدعم التنوع البيولوجي وتوفر ملاذا للكائنات البحرية.

تجارب عالمية ناجحة

اعتمدت دول عدة هذا النهج البيئي-الصناعي، من بينها الولايات المتحدة وماليزيا وتايلاند وأستراليا. ففي خليج المكسيك وحده، تحولت مئات المنصات القديمة إلى شعاب مرجانية نابضة بالحياة، حيث تجذب أنواعا متعددة من الأسماك والرخويات والكائنات الدقيقة.

إعلان

وبفضل تصميمها الهيكلي المجوف والمعقد، توفر هذه المنصات بيئة مثالية للحياة البحرية، شبيهة إلى حد كبير بالشعاب المرجانية الطبيعية.

ففي كاليفورنيا، أظهرت دراسات ميدانية أن بعض هذه المنصات تستضيف ما يصل إلى 10 أضعاف الحياة البحرية مقارنة بالشعاب المرجانية الطبيعية المجاورة، مما يشير إلى قدرتها الفائقة على تعزيز النظم البيئية.

شعاب مرجانية اصطناعية  بهيكل معدني لمساعدة الحياة البحرية على التعافي (شترستوك) التكنولوجيا لخدمة الطبيعة

الميزة الكبرى لهذه المنصات هي بنيتها المعدنية الضخمة، التي تُوفّر مأوى ممتازا للكائنات البحرية. بمرور الوقت، تغطي الطحالب والمرجان هذه الهياكل، فتتحول إلى نظم بيئية متكاملة تجذب أنواعا عديدة من الأسماك والكائنات اللافقارية. كما تساهم في استعادة الموائل البحرية التي تضررت بسبب الأنشطة البشرية أو الكوارث البيئية.

ويعد هذا التحول من الاستخدام الصناعي إلى الاستخدام البيئي مثالا ناجحا على كيف يمكن للبنية التحتية الصناعية أن تُعيد الانسجام مع البيئة بدلا من تدميرها.

مخاطر محتملة

مع ذلك، لا تخلو هذه المبادرات من التحديات. إذ تُحذر منظمات بيئية من وجود ملوثات متبقية، مثل طين الحفر أو الهيدروكربونات العالقة في الهياكل، مما قد يُهدد النظم البيئية الحساسة.

كما أن هناك مخاوف من أن تتحول هذه الشعاب الاصطناعية إلى "نقاط جذب" للأنواع الغازية التي قد تُحدث اختلالا في التوازن البيئي المحلي.

وللحد من هذه المخاطر، تضع برامج التحويل الصارمة شروطا دقيقة تشمل تنظيف المنصات بالكامل، وإزالة المواد الخطرة، وتقييم الموقع من حيث التيارات البحرية ودرجات الحرارة والأنواع المحلية، إلى جانب ضرورة مراقبة بيئية طويلة الأمد لضمان استدامة النظام البيئي المستحدث.

تفاوت في سياسات الدول

تُعد الولايات المتحدة رائدة في تطبيق هذا النهج، بفضل برامج حكومية وشراكات علمية تتيح متابعة المنصات المحوّلة وضمان التزامها بالمعايير البيئية. وعلى النقيض، تتعامل الدول الأوروبية بحذر أكبر، بسبب التزاماتها باتفاقية "أوسبار" (OSPAR) التي تمنع في كثير من الحالات ترك البنية التحتية الصناعية في البحر بعد انتهاء خدمتها.

أما كندا، فرغم سجلها البيئي المتقدّم، تتبنى نهجًا مختلفًا. فهي تفضّل إغراق السفن الحربية القديمة -مثل سفينة لصنع شعاب اصطناعية في المياه الباردة- بدلا من استخدام منصات النفط القليلة نسبيا لديها، بسبب القيود البيئية والتدقيق العام المتزايد على صناعة النفط والغاز.

المبدأ ذاته بدأ يُستخدم أيضا في أنظمة المياه العذبة، كما في البحيرات العظمى بأميركا الشمالية. حيث جرى تحويل أراض صناعية مهجورة وموانئ قديمة إلى أراض رطبة ومناطق طبيعية تستضيف أنواعا جديدة من الكائنات الحية، مما يدل على أن إمكانيات تحويل الهياكل الصناعية إلى موائل بيئية لا تقتصر على البحار فقط، بل تشمل المياه الداخلية.

الشعاب المرجانية تواجه صعوبات للبقاء في ظل التغير المناخي (شترستوك) تحديات التغير المناخي

ومع تصاعد تأثيرات التغير المناخي، مثل ارتفاع درجات حرارة المحيطات وتزايد حموضتها، تُواجه الشعاب المرجانية -سواء الطبيعية أو الاصطناعية- تحديات جديدة. فالمرجان حساس جدًا للتغيرات البيئية، وقد تتأثر قدرته على النمو والبقاء في ظل الظروف المتغيرة.

إعلان

مع ذلك، تمثل هذه الشعاب الاصطناعية فرصًا بحثية فريدة، حيث تُستخدم كمختبرات طبيعية لدراسة التكيّف البيئي وفهم كيفية استجابة النظم البيئية البحرية للتغيرات المناخية.

ولا يزال هذا النهج يُثير جدلا مستمرا. فبينما يرى البعض أن تحويل منصات النفط إلى شعاب مرجانية هو مجرد وسيلة "نظيفة" لتقليل تكاليف التفكيك، يعتبره آخرون نموذجا ذكيا للحلول المستدامة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الشعاب المرجانیة النظم البیئیة شعاب مرجانیة منصات النفط هذه المنصات التی ت

إقرأ أيضاً:

فلسطين مرآة للاختلال الكوني.. حين تصبح العدالة عبئا على المظلوم

الميزة الأهمّ للقضية الفلسطينية هي عدالتها التي لا تحتمل الالتباس من حيث التأسيس، ومن حيث المسار، فالفلسطينيون هم أكثر شعوب المنطقة الأصليين الذين دفعوا ثمن الاستعمار الغربي بعد انهيار السلطنة العثمانية، فبينما انتهت سايكس بيكو إلى تأسيس دول عربية جديدة على أساس التقاسم الانتدابي بين بريطانيا وفرنسا، فإنّ الانتداب البريطاني لفلسطين انتهى إلى وعد بلفور الذي تجسّد تاليا بإقامة إسرائيل في العام 1948، ولم يكن بين سايكس/ بيكو (3 كانون الثاني/ يناير 1916)، ووعد بلفور (2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917)، إلا سنة وتسعة شهور فحسب. وبينما تتشكل اليوم في المجال العربي المحيط بفلسطين وطنيات على أساس هذا التقسيم؛ يعاني الفلسطينيون لا الاستعمار الإسرائيلي فحسب، ولكن أيضا استمرار سياسات الإبادة والتطهير العرقي والإمعان في محو خياراتهم السياسية والنضالية، ويدفعون ثمن الاختلال العالمي السياسي والأخلاقي، وانهيار السرديات الكبرى الجامعة، بحيث يجد الفلسطيني نفسه وحيدا، مهما كانت خياراته سواء سلك طريق التسوية وقدّم فيها كل التنازلات غير المحتملة، أو احتفظ بأدوات المقاومة المسلحة.

لم يدفع الفلسطينيون، والحالة هذه، ثمن التقاسم الاستعماري للمشرق العربي فحسب، ولكن حُلّت المسألة اليهودية، والتي هي مسألة غربية بامتياز، على حساب الشعب الفلسطيني، في أكثر أنماط الظلم غرابة ودلالة على إمكانات الانحطاط البشري، وبالرغم من القبول الفلسطيني الضمني بدفع ثمن هذا الظلم باتجاه الفلسطينيين نحو القبول باقتسام فلسطين على أساس غير عادل، فإنّ هذا الخيار كذلك بات أمرا مستحيلا، وفي هذا السياق نفسه، كان اقتلاع شعب من أرضه وإحلال آخرين مكانه، وتشييد ذلك على تصورات أسطورية، يفترض أنّها تصادم العقلانية والعلمانية الغربية، لكن المفارقة في كون هذا الغرب العقلاني/ العلماني هو الذي أسّس إسرائيل!

لم ينحصر الظلم الواقع على الفلسطينيين في ذلك، فقد دفع الفلسطينيون ثمن الهزائم العربية في حربي 1948 و1967، وثمن التناقضات العربية الداخلية، من قبل النكبة وأثناءها وبعدها حتى الساعة. وبالرغم من كون هذه الحقيقة التاريخية يفترض بها أن تكرّس فلسطين قضية عربية، فقد انتهى الأمر لأن تكون فلسطين بوابة عربية إلى قلب العالم الغربي، ولا سيما واشنطن، لا بحملها إلى ذلك العالم والدفاع عنها فيه، ولكن تماما بالتخلي عنها، أي بالتحالف مع إسرائيل، أو دفع الأثمان للغرب بغرض الحماية وطلب النفوذ، من كيس القضية الفلسطينية.

هذه الاعتبارات كلّها من شأنها أن توفّر الأساس المناسب لصياغة مشروع كوني لمواجهة الاختلال الأخلاقي وما ينجم عنه من سياسات منحطة في هذا العالم، ليس فقط لأنّ فلسطين تملك الطاقة الفائضة للكشف الدقيق عن اختلالات العالم، ولكن أيضا لأنّ كل القضايا الكونية سواء الناجمة عن الرأسمالية وتمركزها في الغرب/ الشمال لأسباب تاريخية، أو عن النيوليبرالية المذرّرة للاجتماع الإنساني لصالح الفردانية والهويات الصغيرة، وهو ما سوف تدفع ثمنه المجتمعات والشعوب التي لا تجد من يقف معها، تتجلّى كوارثها في فلسطين وعلى الفلسطينيين، وفي كيفيات تكريس التبعية للغرب/ الشمال، وللشبكات الاقتصادية النافذة في العالم، على حساب الفقراء، وعلى حساب الاستقلال الحقيقي للدول التابعة، خاصة في المنطقة العربية التي تملك، كما يفترض، التطلعات التاريخية والثقافية، والموارد السياسية والاقتصادية، لتكون صاحبة إسهام كوني يتجاوز موقع التابع الراهن.

وبعدما تجلّى هذا الظلم التاريخي بنحو فاحش وغير مسبوق بحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، فإنّه وبدلا من الالتفات إلى فلسطين، بوصفها محورا صالحا لتشييد مشروع كوني لمواجهة اختلال العالم، فقد تمكن الإسرائيلي، بلا أدنى كابح من الاستمرار 18 شهرا، حتى الآن، في حرق أكثر من مليوني فلسطيني وتجويعهم في مساحة مغلقة لا تزيد على 365 كيلومترا مربعا.

والفلسطيني كأيّ مظلوم، تتسم مظلمته بهذا القدر العالي من العدالة والوضوح، لا بدّ وأن يسعى إلى تركيز مظلمته هذه في وعي العالم، ومن باب أولى الذين هم أقرب إليه ثقافيّا واجتماعيّا، علاوة على مسؤوليتهم التاريخية تجاه هذه المظلمة، أي العرب والمسلمين، بيد أنّ الاستجابة العالمية، على مستوى جماهير الناس وأفرادهم، كانت أحسن منها في المجال العربي في فلسطين، ليس فقط بسبب السطوة الأمنية للأنظمة العربية المتحالفة قطعا مع إسرائيل، ولكن أيضا لسياسات التحطيم والتذرير للمجتمعات العربية، ومركزتها حول يومياتها الاقتصادية، وتجريدها من الهمّ السياسي، وهو ما انتهى لا إلى وعي مشوّه فحسب بخصوص القضية الفلسطينية، وما تمثله من مشترك عربيّ يتداخل حتى مع اليوميات الاقتصادية للعربيّ المطحون، ولكن أيضا إلى ضمور في الإحساس الأخلاقي.

ويمكن ملاحظة هذا الضمور الأخلاقي في الكيفيات التي يُعبّر بها نشطاء ومثقفون عرب عن موقفهم من الإبادة المفتوحة على الشعب الفلسطيني بغزة، بعد استثناء الإعلام الممول رسميّا وما يتصل به من لجان إلكترونية، ففي غمرة الإبادة والتجويع، يعجز هؤلاء الناشطون والمثقفون عن إبداء تعاطفهم مع الشعب المشرد والمسحوق والمجوّع إلا بإدانة بعض من هذا الشعب بتحميله المسؤولية عن مصاب الفلسطينيين، في تجاوز مريع لمسار القضية الفلسطينية برمته وسلوك الاحتلال، فاتهام المقاومة الفلسطينية تراوح بين إدانتها وتحميلها المسؤولية في تبرئة ضمنية للاحتلال، وبين اتهامها بالعمل لأجندة إقليمية، أو السعي لتكريس سلطتها، بالرغم من أنّها هدمت كلّ مكتسباتها السلطوية في سياق نضالها.

لكن الأسوأ من ذلك، تلك الخطابات التي لا تقصر إدانتها على المقاومين، ولكنّها تدين الفلسطينيين كلّهم بدعوى أنهم حوّلوا قضيتهم من قضية عادلة إلى دين، وأنفسهم إلى آلهة، وهي خطابات -للأسف- يتبناها بعض النشطاء السوريين، في مدّ منهم لخطّ تنافس المظلوميات الذي اخترعوه طوال 14 عاما من عمر المعاناة السورية. ويمكن ملاحظة هذا الاختلال العقلي والضمري، ليس فقط في الكيفية التي يجري فيها توصيف قضية من شأنها أن تكون أساس مشروع كوني مشترك، علاوة على أنّها بالبداهة ينبغي أن تكون كذلك عربيّا وإسلاميّا، ولكن أيضا لو قلبنا هذه الخطابات على أصحابها وقيّمنا تجاربهم ونضالهم وثوراتهم بالمنظور نفسه لنلاحظ مستويات التمركز المريعة حول الذات، تصبح فلسطين والحالة هذه شرطا لشفاء بعض العرب والمسلمين من أسقام ضمائرهم وخراب عقولهم أيضا.

x.com/sariorabi

مقالات مشابهة

  • كيف تفاعلت المنصات مع تضارب الأنباء بشأن اتفاق غزة؟
  • فلسطين مرآة للاختلال الكوني.. حين تصبح العدالة عبئا على المظلوم
  • دويرة.. مشروع لمهندسة عراقية سيغير وجه مدينتها ويجعلها رمزاً للابتكار البيئي
  • فايز السعيد يطلق «صح»
  • كيف يعدم الاحتلال آخر مظهر للحياة في غزة؟
  • أطلق فريق من العلماء في جامعة مانشستر مشروعا يهدف إلى استكشاف إمكانية استخدام تفتيح السحب البحرية كوسيلة مؤقتة للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري. مشروع طموح لتبريد الأرض باستخدام السحب البحرية صورة ارشيفية / ria.ru يُموَّل المشروع من قبل وكالة البحوث والابتك
  • دليلك لاستخدام منصات الضيافة المجانية في السفر
  • قطة تعود للحياة بعد ساعات تحت الخرسانة في شانلي أورفا التركية
  • متخطية اليابان.. الهند تصبح رابع أكبر اقتصاد في العالم
  • فايب كودينغ.. هل تصبح المشاعر لغة البرمجة الجديدة؟