#في_العمق
د. #هاشم_غرايبه
في لقاء تلفزيوني مع الفريق “فاسيلي ريتشنكوف” قائد سلاح القاذفات الإستراتيجية السوفياتي، تحدث فيه عن فترة الحرب الباردة بين القطبين الدوليين، وبعض المراحل الخطرة في تلك الحرب التي كادت تتحول الى حرب ساخنة ..قد تكون آخر الحروب البشرية، لما تملكه ترسانتيهما من أسلحة فتاكة قادرة على إهلاك البشر والحجر.
انتقد القاء القنبلتين الأمريكيتين على اليابان، وقال أنه من أقذر الأعمال العسكرية، فلم تكن هنالك من ضرورة إذ كانت اليابان محققة الهزيمة، لكن الأمريكيين ماطلوا في توقيع معاهدة الإستلام حتى ينجزوا التشطيبات الأخيرة للقنبلتين من أجل التجربة الحية لهما في البشر، ومعرفة الفارق بين قدرتيهما التدميرية، وفي الوقت ذاته تكون رسائل تهديد ارهابية للآخرين، لكي يعلموا أن أمريكا لا يردعها رادع عن تنفيذ أهدافها.
في حديثه بيّن أنه في فترة أزمة الصواريخ الكوبية ظل مناوبا في المطار في طائرته القاذفة الإستراتيجية التي تحمل قنبلة نووية، في انتظار الأمر بالإقلاع لإسقاطها فوق هدف محدد في أمريكا.
سأله محاوره لكن ألم تُدن قبل قليل من ألقى قنبلة على مدنيين يابانيين أبرياء، فكيف تفعل فعلهم!؟.
رد قائلا: “العسكري لا يفكر، فهو يتربى على طاعة الأوامر، والتنفيذ بلا تفكير، السياسي هو الذي يفكر ويقدّر، ولو كان متاحا للعسكري التفكير واتخاذ القرار، لما كان للقيادة السياسية من دور”.
مثلما تضيء لمعة البرق أمامك طريقا معتمة لثانية، فتحت عبارته هذه على فهمي آفاقا كانت غائمة، وأدركت عندها لماذا لا يُعين حاكما في بلادنا إلا من العسكر، وحتى لو وصل الحكم أمير، فقبل أن يوكل إليه الحكم، يرسل الى “ساند هيرست” البريطانية، ليحصل تدريب وتأهيل عسكري.
كما عرفت لماذا لا يوكل الحكم في الغرب الى عسكري، ولو نال أعلى الأوسمة وانتصر في حروبه وحمى وطنه، ذلك لأنه لم يتدرب على التفكير المستقل أصلا، فلا يصلح أن يكون قائدا سياسيا.
صحيح أن العسكري لا يقل وطنية أو انتماء لأمته من السياسي، لكن تدريبه وتأهيله كان ليكون نفرا مقاتلا ينفذ الأوامر بلا نقاش، ودائما ليس هو من يقرر، بل ينفذ أوامر من هو أعلى منه، وحتى لو كان قائدا لكل الجيش فهو ينفذ أوامر رئيس الدولة، سواء فهم مبتغاها ام لم يفهمها.
ذلك لأن تأهله أصلا للارتقاء من الجندي المقاتل الى الضابط القائد كان بحكم التقادم الزمني وبعض الدورات التدأهيلية، في فنون الهجوم والدفاع والتخطيط للمعارك، وليس من بينها أية مهارات إدارية أو فنية في الإدارة المدنية، لذلك فمهما كانت رتبة العسكري رفيعة، فهو يبقى خاضعا لمدني هو وزير الدفاع.
لو عدنا بالذاكرة الى كل الهزائم المتتالية التي منيت أمتنا بها طوال القرن الماضي، لوجدنا أن السبب الرئيس به هو الأخطاء في التكتيك والإستراتيجية، أي عدم قدرة العسكري على تقمص الدور القيادي السياسي، وبالتالي غياب التفكير السياسي الإستراتيجي، المبني على حسابات المصالح والمخاطر، فكل الذين قفزوا الى السلطة كانوا ضباطا مواهبهم تنفيذية، أما الذين وصلوا الحكم بغير الإنقلاب العسكري فقد كانوا أصلا موالين للغرب لا يفكرون خارج محدداته لهم.
في جميع المعارك التي جرت في تلك الفترة ابتداء من إستيلاء الجيش البريطاني على القدس عام 1917 بقيادة الجنرال “اللينبي”، والذي تم بعد أن أبيدت الحامية التركية، كان قوام القوة المهاجمة من المصريين والهنود، وانتصرت لأن العسكر كانوا تحت قيادة سياسية بريطانية، تخدم المصالح البريطانية والصليبية، وكل ما تلاها كان العسكر العرب فيها ينفذون السياسات الغربية، والقلة الذين تمردوا على المستعمرين مثل قوات يوسف العظمة وعزالدين القسام تم القضاء عليهم.
وعندما جاء عسكر المد القومي العربي، لم يتمكنوا من التخطيط لمعركة واحدة، لأنه لم يكن لديهم القدرة السياسية أو الإرادة السياسية للقتال، فجميع المعارك فرضت عليهم، لذلك خاضوها بلا استعداد فهزموا.
المعركة الوحيدة التي كانت بقرارهم هي عام 1973، فالنصر الأولي فيها حققته الإرادة الشعبية للجنود، لكن تحولت الى هزيمة على يد القيادة السياسية في مصر وسوريا..لأنها كانت أصلا عسكرا استولى على السلطة.
هذه هي جذور مشكلة النظام العربي، فكل القيادات من العسكر، أو تأهلت في “ساند هيرست”، فيما لا تجد ذلك في أية دولة أوروبية. مقالات ذات صلة تحت الضوء 2025/04/26
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: في العمق هاشم غرايبه
إقرأ أيضاً:
البلطجة السياسية في الحد من الأسلحة النووية
كلما هم المرء بالكتابة في قضية عامة وجد أحداثًا مروعة تشتعل من حوله، وتنعكس آثارها عليه بشكل مباشر بوصفه موجودًا بشريًّا أولًا، وبوصفه موجودًا يحيا في الجوار؛ في منطقة الشرق الأوسط المنكوبة التي تعيش أسوأ فترات تاريخها. فبينما لا تزال إسرائيل ترتكب يوميًّا المجازر المروعة ضد شعب فلسطين؛ تشن عدوانًا على إيران أدى إلى مزيد من اشتعال المنطقة من خلال الرد الإيراني المضاد. في كل عدوان تشنه إسرائيل في المنطقة تمارس «سياسة البلطجة»، وربما يبدو هذا المصطلح متناقضًا ومتداولًا على استحياء؛ ذلك أن السياسة هي فن تحقيق الممكن من خلال التفاوض والحوار لا البلطجة. ومع ذلك؛ فإننا نجد شواهد عديدة على ما يُسمى بالبلطجة السياسية في عالمنا الراهن، وهي تعني بوجه عام التبرير السياسي؛ لتحقيق هدف ما باستخدام القوة والعنف -بما في ذلك القوة العسكرية-، واستخدام التهديد أو الضغوط -كالضغوط الاقتصادية على سبيل المثال-. عدوان إسرائيل الأخير على إيران هو شكل من أشكال البلطجة السياسية باستخدام القوة العسكرية. البعد السياسي الذي تتخذه إسرائيل مبررًا لهذا العدوان هو سعي إيران لامتلاك أسلحة نووية على نحو يشكل تهديدًا لأمنها ووجودها نفسه، ويشكل خرقًا لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. لكن هذا المبرر واهٍ، ولا يستند إلى أية مشروعية؛ فالعدوان على دولة ذات سيادة يخالف المواثيق الدولية التي تعطى للمعتدى عليه مشروعية الرد على العدوان. فلماذا يعد هذا المبرر واهيًا وغيرَ مشروع؟
معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية أنشأتها لجنة برعاية الأمم المتحدة، وقعت عليها في البداية سنة 1968 ثماني عشرة دولة من بينها الدول النووية الخمس الكبرى، وهي: روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا والصين، وقد بلغ عدد الموقعين الآن 191 دولة. تدعم الوكالة الدولية للطاقة الذرية هذه المعاهدة من خلال إجراء التحقيق بشأن التزام الدول ببنودها، وأهمها: الحد من انتشار الأسلحة النووية، ونزع السلاح النووي. ولكن بعضًا من قرارات هذه الوكالة كانت مسيسة، وأكثرها ظل بلا فاعلية أو تأثير. وهي مسيسة؛ لأنها تخضع للاستخدام والتوظيف من جانب القوى العظمى ذات النفوذ، وخاصةً الولايات المتحدة الأمريكية؛ بحيث يتم التهديد باستخدام القوة بدعوى اختراق دولة ما للمعاهدة، والتغاضي عن استخدام هذه القوة بالنسبة إلى دول أخرى. ويصدق هذا عندما نتأمل ملابسات القرار الأخير للوكالة وما ترتب عليه؛ فخلال الفترة السابقة على عدوان إسرائيل كان رئيس الوكالة يصرح بأنه ليس هناك دليل يؤكد عدم سلمية المشروع النووي الإيراني، ولكن قبيل العدوان مباشرة صدر قرار الوكالة الذي صرح فيه بشكل أكثر صراحة بأن إيران غير ملتزمة باتفاقية منع الانتشار النووي. ومن الواضح أن ضغوطًا أمريكية مورست على الوكالة؛ لأن إسرائيل، بل الولايات المتحددة نفسها كانت تهدد بضرب إيران إن لم تخضع للتوقيع خلال ستين يومًا على اتفاق يحظر عليها تخصيب اليورانيوم إلا بشروطها! وقد جاءت الضربة من إسرائيل وبمباركة أمريكية معلنة. ثم لنا أن نتساءل: مَن الذي أعطى إسرائيل مشروعية توقيع العقاب على المخالفين للمعاهدة، مثلما حدث بضربها لإيران؟ ليست هناك أية مشروعية قانونية دولية؛ فهناك فقط تصريح من الدولة التي تقوم بدور «شرطي العالم» الإدارة الأمريكية إلى دولة الكيان التي تقوم بدور نائب هذا الشرطي في منطقة الشرق الأوسط.
لم يكن هذا هو الحال دائمًا؛ فبعض الدول دخلت سباق التسلح النووي مثل الهند وباكستان، ولم تلق عدوانًا مماثلًا، فهل الدول غير الموقعة على المعاهدة يحق لها التسلح النووي، وعدم الخضوع للتفتيش -وهو ما يعوق مهمة وكالة الطاقة الذرية-؟ ولماذا لا تتابع هذه الوكالة تنفيذ بنود المعاهدة فيما يتعلق بنزع أسلحة الدول النووية تدريجيًّا؟ أفلا يكون هذا مدعاة لانسحاب بعض الدول من هذه المعاهدة أو الاستهانة بها؛ ولذلك فإن كوريا الشمالية انسحبت من المعاهدة، وواصلت برنامجها النووي حتى أصبحت قوة مسلحة نووية، ومع ذلك فقد رضخت الولايات المتحدة للأمر الواقع، حتى إن ترامب نفسه قد زارها والتقى زعيمها. ولقد كان من المقرر أن تستأنف الولايات المتحدة التفاوض مع إيران في مسقط يوم الأحد من ذلك الأسبوع بشأن برنامجها النووي، وجاءت الضربة الإسرائيلية قبل ذلك بيومين وبعلم الولايات المتحدة وبدعم صريح ومعلن! وهذا يدل دلالة قاطعة على أن المستهدَف كان جلوس إيران إلى طاولة المفاوضات مهزومة منكسرة بحيث تُملَى عليها الشروط، وهذا ما يُعرف في لغة القانون بتوقيع «عقد إذعان»! ولكن خاب ظن إسرائيل وحليفها الأكبر؛ فقد ظهرت صلابة إيران وقدرتها على رد العدوان وتهديد الكيان الصهيوني في عقر داره. وعندئذ صرح ترامب بأن هذه الحرب ينبغي أن تنتهي، وجدد دعوته للمفاوضات! منتهى التناقض؛ لأن مَن هدد بالحرب ودعمها هو مَن يدعو إلى إنهائها! ولهذا ترفض إيران التفاوض إلا بعد استكمال ردها على العدوان، أي بعد أن تمتلك أوراق قوة في التفاوض. ولكن سيكون من الخطأ البالغ أن تُقدِم إيران على غلق مضيق هرمز؛ لأن هذا سيوقع ضررًا بالغًا على بلدان الخليج ومجمل الاقتصاد العالمي، ومن ثم سيعطي مشروعية قانونية للحرب عليها.
وعلى هذا كله؛ أرى أن الدوافع الحقيقية لهذه الحرب لا شأن لها بخرق معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وإنما الحفاظ على إسرائيل باعتبارها القوة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط والذراع الطويلة للولايات المتحدة في المنطقة. وربما يدعونا هذا إلى التساؤل: لماذا لم تسع الدول العربية التي تشكل حزامًا جغرافيًّا يطوق إسرائيل إلى التحالف مع إيران وتركيا، لا بهدف العدوان على إسرائيل أو معاداتها، وإنما بهدف الشراكة والتعاون في المجالات العسكرية والاقتصادية والعلمية؟ فمن شأن ذلك أن يخلق قوة موازية لإسرائيل يجعلها تُحجم عن أطماعها التوسعية والتفكير في حل جاد للدولتين، وتبنى سياسة العيش بسلام من دون عدوان. السياسة تقوم على خلق التوازنات التي تسمح بالتعايش والتفاوض عند الصراع. ولكننا لم نسع إلى خلق التوازنات في القوة؛ ولذلك فإن إسرائيل لا تزال تسعى إلى سياسة البلطجة والعدوان.
د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة