الروحانيات كمرآة لتاريخ السودان
يُعد التصوف في السودان ظاهرة متعددة الأبعاد؛ دينية، اجتماعية، وسياسية، ساهمت بعمق في تشكيل الهوية الوطنية على مر العصور. من الطرق الصوفية التي قادت المقاومة ضد الاستعمار، إلى التيارات المعاصرة التي تناقش الديمقراطية وحقوق المرأة، يظل التصوف السوداني تيارًا روحيًا حيًّا يتكيّف مع تحولات الواقع دون أن يفقد جوهره.

في هذا المقال نقف عند الثابت والمتحول في تجربة التصوف السوداني، من خلال مقارنة بين صيغته التقليدية والمعاصرة.
أولًا: التصوف التقليدي – البناء الاجتماعي والسياسي
أ. الطرق الكبرى وأدوارها التاريخية
القادرية: من أقدم الطرق، ارتبطت بالتجارة ونشر الإسلام في غرب السودان عبر شبكة الزوايا، ولعبت دورًا بارزًا في دعم مقاومة المهدية للاستعمار التركي-المصري.
الختمية: تأسست في القرن التاسع عشر، وتحالفت لاحقًا مع الاستعمار البريطاني، مما أثار جدلًا حول موقعها السياسي. مع ذلك، احتفظت بنفوذ كبير خاصة في شرق السودان.
السمانية: ارتبطت بقبائل البجة، وكان لها تأثير ثقافي واضح من خلال الشعر والمدائح النبوية.
ب. الطقوس كنسيج مجتمعي
الحضرة: لم تكن مجرد ذكر جماعي، بل مثلت فضاءً اجتماعيًا لتسوية النزاعات وتعزيز الروابط القبلية.
الأضرحة: مثل ضريح الشيخ حمد النيل في أم درمان، الذي أصبح مزارًا وطنيًا يجمع السودانيين بمختلف مشاربهم.
المولديات: مهرجانات دينية سنوية استُخدمت أحيانًا كمنصات للتعبير عن رفض السياسات الرسمية، كما حدث في عهد الرئيس جعفر نميري.
ج. العلاقة المعقدة مع السياسة
دعمت طرق مثل الأنصار حكومة الصادق المهدي الديمقراطية (1986–1989)، بينما تحالف بعض شيوخ الختمية مع نظام البشير، مما أثر على مصداقيتهم في الشارع السوداني.
ثانيًا: التصوف المعاصر – تفكيك المركزية ومواجهة التحديات
أ. عوامل التحول
التمدين: انتقال السكان من الريف إلى المدن أدى إلى ضعف الارتباط بالزوايا التقليدية.
صعود السلفية: منذ الثمانينيات، واجهت الطرق الصوفية هجومًا شرسًا من التيارات السلفية المدعومة من النظام، مما دفعها إلى إعادة تعريف نفسها.
التكنولوجيا: مثلت منصات مثل "يوتيوب" و"فيسبوك" أدوات جديدة لعرض الذكر والمجالس الصوفية، خصوصًا خلال جائحة كوفيد-19.
ب. ملامح التصوف الجديد
التصوف الفردي: بعض الشباب يتبنون التصوف من خلال قراءات شخصية لجلال الدين الرومي أو الاستماع إلى مدائح، دون الانتماء لطريقة بعينها.
التصوف النسوي: ظهور شخصيات نسائية مثل السيدة مريم الميرغنية
تنتمي إلى البيت الميرغني، ويرجح أنها كانت بنتًا أو حفيدة لأحد خلفاء السيد محمد عثمان الميرغني.
كانت كاتبة ومدرّسة، وشاركت في مجالس الذكر النسائية.
نُسبت إليها عدة رسائل روحية كانت تُتداول بين النساء المريدات. بكسلا، ساهم هذا في كسر هيمنة الذكورية في القيادة الروحية.
التصوف النشط: شارك صوفيون شباب في ثورة ديسمبر 2019، مستلهمين مفاهيم العدالة الإلهية والكرامة في مواجهة الطغيان.
ج. حوار الأجيال والثقافات
التراث والحداثة: فنانون شباب مثل عصام صديق دمجوا بين أبيات ابن الفارض وإيقاعات الراب السوداني.
السلام الأهلي: لعب بعض الشيوخ الصوفيين دورًا في مبادرات المصالحة القبلية في دارفور، مقابل خطاب ديني متشدد متصاعد.
ثالثًا: التحديات الراهنة
التمويل الخارجي: دعم بعض الدول الخليجية للتيارات السلفية يهدد استقلالية الزوايا الصوفية.
الانقسامات الداخلية: خلافات بين الشيوخ التقليديين حول القيادة والشرعية، خاصة بعد سقوط نظام البشير.
الاستقطاب السياسي: وُجهت اتهامات لبعض الطرق بالميل لقوى الثورة المضادة بعد 2019.
رابعًا: مستقبل التصوف – اختراع الذات من جديد؟
التعليم البديل: بعض الزوايا في شرق السودان بدأت تمزج بين العلوم الحديثة والمناهج الصوفية لجذب الأجيال الجديدة.
الحوار العالمي: شارك صوفيون سودانيون في مؤتمرات دولية حول الإسلام الروحي، كصورة بديلة عن التشدد.
الروحانية الكونية: بدأت تظهر توجهات لدى بعض الشباب لدمج التصوف مع عناصر من الفلسفات الشرقية مثل البوذية واليوغا، ما يثير نقاشًا حول حدود التجديد الديني.
التصوف كفلسفة مقاومة
ليس التصوف في السودان مجرد ممارسة دينية، بل هو سردية مقاومة تعبّر عن نضال داخلي واجتماعي طويل الأمد. إذا كان التصوف التقليدي قد حافظ على الهوية خلال فترات الاستعمار، فإن التصوف المعاصر يحاول أن يصون روح المجتمع في مواجهة تحديات العولمة والتشدد. في كل تحولاته، يظل التصوف السوداني مرآة لروح هذا الشعب، الباحث عن المعنى، والعدل، والسلام.

zuhair.osman@aol.com

   

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

إطلاق خدمات الجيل الخامس في مصر.. ما المزايا التي تقدمها للمواطنين؟

قالت مها الصبروتي، أستاذ الاتصالات اللاسلكية، إن خدمات الجيل الخامس هي المرحلة الجديدة في الذكاء الاصطناعي، حيث تختلف مميزاته عن الجيل الرابع في كثير من الأمور.
 

سباق التكنولوجيا .. كيف يختلف الجيل الخامس عن الرابع؟رسميًّا.. إطلاق خدمات الجيل الخامس من قلب الأهرامات بعد غد الأربعاء

وأضافت “الصبروتي”، خلال مداخلة هاتفية ببرنامج “صباح الخير يا مصر” المذاع على القناة الأولى، أن الجيل الخامس يعمل على 3 محاور رئيسية وهي السرعة الفائقة مقارنة بباقي الأجيال، بالإضافة إلى انخفاض زمن الاستجابة مقارنة بالجيل الرابع.

وأوضحت أن الجيل الخامس يدعم استخدام الكثير من الأجهزة، بما يعرف بـ إنترنت الأشياء، ما سيساهم في دعم التحول الرقمي بشكل كبير.

ولفتت إلى أنه يمكن التحكم في تحويل الشبكة من خلال إعدادات الهاتف.

 

طباعة شارك الجيل الخامس الذكاء الاصطناعي الجيل الرابع

مقالات مشابهة

  • كامل الوزير يلتقي وزير التنمية العمرانية السوداني لبحث آفاق التعاون
  • إطلاق خدمات الجيل الخامس في مصر.. ما المزايا التي تقدمها للمواطنين؟
  • تركيا.. التضخم يواصل الارتفاع خلال شهر مايو
  • متحدث منظومة النقل في الحج: رفع تقنية تبريد الطرق بالمشاعر المقدسة بنسبة 82% مقارنة بالعام الماضي
  • كيف سيتجاوز رئيس الوزراء السوداني الجديد حقول الألغام المحيطة به؟
  • رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس يحل الحكومة
  • وزير الخارجية السوداني يبلغ مسؤول مصري موقف السودان من إعلان حكومة موازية
  • يوجّـه السيد رئيـس الوزراء د.كـــامـل إدريــس كلمة إلى الشعب السوداني عند الساعة الثالثة من مساء اليوم
  • توقعات بارتفاع إنتاج الذهب في غانا بنسبة 6.25% خلال 2025
  • خالد عامر يكتب تحديات ما بعد 7 أكتوبر.. قراءة في المشهد الفلسطيني