استيقظ السودان أمس على تصعيد غير مسبوق، حين تعرضت مدينة بورتسودان لهجوم بطائرات مسيّرة استهدفت قاعدة عثمان دقنة الجوية ومرافق مدنية، في هجوم وصفه مراقبون بأنه الأخطر منذ تحوُّل المدينة إلى العاصمة المؤقتة للدولة. وقد حمل البيان الرسمي الصادر عن الحكومة السودانية، عبر وزير الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة خالد الإعيسر، لهجة غير مسبوقة من الوضوح والمواجهة، جاء فيه:

“تعرضت مدينة بورتسودان صباح اليوم لهجوم غادر شنّته ميليشيا الدعم السريع الإجرامية، بمساندة داعميها.

وقد استُخدمت في الهجوم سبع طائرات مسيّرة انتحارية، شكّلت غطاءً لهجوم نفذته طائرة استراتيجية أخرى على قاعدة عثمان دقنة الجوية، مما أسفر عن أضرار مادية دون خسائر في الأرواح. إن هذا الاعتداء يؤكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذه الحرب ليست مجرد تمرد من ميليشيا الدعم السريع، بل هي عدوان مكتمل الأركان تُديره وتدعمه دولة الإمارات العربية المتحدة… تُدار من غرف تحكم في أبوظبي، بما يشكّل تهديدًا للأمن الوطني وخطرًا على الأمن الإقليمي والدولي”.

هذا التصريح، بما يحمله من دلالات سياسية وقانونية، يضع العلاقات السودانية–الإماراتية أمام مفترق طرق، ويؤكد بوضوح أن السودان لم يعُد يعتبر الصراع الداخلي شأنًا محصورًا في جغرافيا محلية، بل يراه امتدادًا لصراع إقليمي يستهدف سيادة الدولة وقرارها الوطني.

ما يعزز هذه الاتهامات تقارير موثوقة وُجِّهت إلى الإمارات بدعم قوات الدعم السريع، حيث كشف تقرير فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة في أبريل 2025 عن وصول قذائف هاون بلغارية إلى هذه القوات، رغم أن الشحنة كانت موجَّهة أصلاً إلى الإمارات “رويترز” . وفي أكتوبر 2024، قدّم السودان لمجلس الأمن أدلة على تزويد أبوظبي للميليشيا بمعدات عسكرية ودعم طبي “سودان تريبيون” . كما وثّقت صور أقمار صناعية تكرار هبوط طائرات شحن إماراتية في تشاد، في سياق يُشتبه بنقل أسلحة “رويترز” . وأكدت “هيومن رايتس ووتش” في 14 سبتمبر 2024 استخدام الدعم السريع ذخائر وصواريخ صربية مصدرها الإمارات، ودعت إلى حظر شامل على تصدير السلاح إلى السودان.

ورغم هذا التراكم في الأدلة والتصريحات، فإن السودان لم يُبادر حتى الآن إلى طلب جلسة طارئة لمجلس جامعة الدول العربية، وهي خطوة تبدو ملحّة في ظل وضوح طبيعة العدوان. ويبدو أن جزءً من التردُّد يعود إلى وجود تيارات داخل الدولة السودانية ما تزال تُراهن على الإبقاء على العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات، وربما تحسُّبًا لردود أفعال من دول شقيقة، رغم ما تكشفه الوقائع الميدانية.

إقليميًا، أصدرت وزارة الخارجية السعودية بيانًا أدانت فيه بشدة استهداف المرافق الحيوية في بورتسودان وكسلا. ورغم أن البيان لم يُسمِّ الفاعل، فقد شدد على ضرورة احترام سيادة السودان ووقف القتال فورًا، وأكد دعم المملكة لحل سياسي يحفظ وحدة الدولة. كما أصدرت وزارة الخارجية القطرية أيضًا بيان ، وصفت فيه الاستهداف بأنه منافٍ للقانون والأعراف الدولية ومُهدِّد لأمن المنطقة. كذلك وزارة الخارجية المصرية ودولة الكويت جمهورية إيران والاتحاد الافريقي، و مجلس التعاون الخليجي .

هذه المواقف يجب أن تستثمر لبناء موقف عربي موحَّد داعم للتحرك السوداني، خصوصًا في ظل تزايد القلق الإقليمي والدولي من تداعيات الحرب.

من الناحية الأمنية، فإن الهجوم على بورتسودان يفتح الباب واسعًا أمام الحاجة لإعادة هيكلة منظومة الدفاع الجوي، وتفكيك شبكات الخلايا النائمة، وتفعيل قوانين الطوارئ لتأمين الداخل، لا سيما أن بورتسودان تمثل حاليًا الرئة التي تتنفس منها الدولة السودانية مع العالم الخارجي. أما استمرار السياسات الأمنية الحالية، القائمة على ردّ الفعل، فهي تكرّس الضعف وتترك الأمر رهينًا بالتطورات.

لا بد من الاعتراف بأن الحرب تحوّلت من مجرد صراع داخلي إلى مواجهة إقليمية مفتوحة، تهدف إلى تفكيك الدولة وفرض واقع سياسي يخدم أجندات خارجية. هذا التصعيد يضعنا أمام ما يُعرف بـ”حرب الظل بالوكالة”، حيث تُستخدم أطراف إقليمية ميليشيا الدعم السريع لتنفيذ عمليات عسكرية نيابة عنها، مما يُعقّد المشهد العسكري ويُطيل أمد الحرب ، في محاولات لفرض تسوية سياسية تُنقذ الداعمين المحليين والإقليميين من المساءلة القانونية عن دورهم في تغذية الحرب والانتهاكات الواسعة المصاحبة لها. بجانب تمكين التدخل الدولي ، وكل تأخير في تسمية الأمور بمسمياتها، يمنح المعتدين وقتًا إضافيًا لإعادة التموضع وتعميق اختراقهم للسودان . كذلك على جامعة الدول العربية أن تتحرك فورًا حتى لا تُوصَف بالسلبية.

اللحظة الراهنة لا تسمح بالتردد. فقد تحوّلت الحرب إلى معركة شاملة على الدولة السودانية، ولم يعُد ممكنًا اختزالها في “تمرد داخلي”. يجب، تفعيل كل أدوات الرد السياسي والدبلوماسي، بما في ذلك مخاطبة المنظمات الإقليمية والدولية، وبناء تحالفات دفاع مشترك مع دول صديقة تملك الإرادة والقدرة على موازنة التدخل الإقليمي.

هذا، وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن السودان يواجه حربًا بالوكالة تُدار من عواصم بعيدة بأدوات محلية، تستهدف وحدة البلاد ومواردها ومستقبلها. وقد آن الأوان أن تتحرك الدولة بكل أدواتها للدفاع عن سيادتها، وألّا تترك مسارات الحرب والدبلوماسية في يد الصدفة أو المجاملة أو الحسابات الخاسرة.

دمتم بخير وعافية.
إبراهيم شقلاوي
الإثنين 5 مايو 2025

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

خبراء ومحللون لـ«الاتحاد»: أكاذيب «سلطة بورتسودان» محاولات يائسة للهروب من الفشل الداخلي

أبوظبي (الاتحاد)

أخبار ذات صلة «مبادرات محمد بن راشد العالمية» تدعم اللاجئين السودانيين في تشاد الإمارات: مستقبل الحكم في السودان حق حصري للشعب

أدان خبراء ومحللون الحملة السياسية والإعلامية المشبوهة، التي تشنها «سلطة بورتسودان» ضد الإمارات، واعتبروا أنها مناورة مكشوفة للتغطية على الفشل الداخلي وفقدان الشرعية الشعبية والدولية، مؤكدين أن الدولة تمثّل أحد أبرز الداعمين للشعب السوداني إنسانياً وسياسياً، ونهجها الدبلوماسي المتوازن هو ما يثير حنق قوى وأطراف تسعى إلى مصادرة مسار التحول المدني في السودان.
وقال فداء الحلبي، الباحث في الشأن العربي، إن تجدد المزاعم الكاذبة التي تسوقها أطراف بعينها ضد الإمارات ليس مستغرباً، إذ إن النهج المعتدل ومواقفها الثابتة في دعم الدولة المدنية كانت من أبرز العقبات التي حالت دون سيطرة هذه الأطراف على الحكم بالسودان.
وأضاف الحلبي، في تصريح لـ «الاتحاد»، أن الإمارات دافعت عن حقوق الشعب السوداني في قيام دولة مدنية، عبر قنواتها الدبلوماسية ونشاطها الدولي، الذي تُوِّج بتوقيع اتفاق «الرباعية» الداعم للتحول المدني، مؤكداً أن الدولة تعاملت مع الملف السوداني بمسؤولية عالية، بعيداً عن أي أطماع سياسية أو اقتصادية.
وأشار إلى أن المهيمنين على «سلطة بورتسودان» يواجهون اليوم عُزلة داخلية متزايدة، نتيجة المقاومة الشعبية التي تسعى لاستعادة مكتسبات ثورة ديسمبر، مما دفعها إلى محاولة توجيه أنظار الرأي العام نحو الخارج، عبر فبركة اتهامات باطلة ضد الإمارات ودول أخرى، في محاولة بائسة لتصدير أزمتها السياسية. 
من جانبها، قالت لنا مهدي، خبيرة الشؤون الأفريقية ومستشارة الإعلام الدولي وفض النزاعات، إن عودة استهداف الإمارات إعلامياً وسياسياً تكشف عن تناقض عميق في الخطاب السياسي لمسؤولي «سلطة بورتسودان»، حيث تحاول هذه الأطراف إخفاء إخفاقاتها الداخلية بافتعال خصومات خارجية ضد دولة لطالما دعمت الشعب السوداني في مجالات الإغاثة والتنمية.
وأضافت مهدي، في تصريح لـ«الاتحاد»، أن هذا الهجوم يعكس أزمة فكرية لدى التيار الإخواني، القائم على نظرية المؤامرة ورفض الشراكات الإقليمية البناءة، بالإضافة إلى أن جماعة الإخوان ترى في أي دولة عربية ناجحة أو مؤثرة خصماً لمشروعها السلطوي لا شريكاً في استقرار المنطقة، وأن استهداف الإمارات إعلامياً هو تكتيك للهروب من مواجهة المجتمع الدولي، إذ تواجه «سلطة بورتسودان» ملفات متزايدة تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب، معتبرة أن الرهان على خطاب الكراهية أصبح رهاناً خاسراً في ظل وعي الشعوب العربية.
في السياق، أوضح الخبير الأمني، ياسر أبوعمار، أن الموقف الإماراتي تجاه الأزمة السودانية يعكس إدراكاً عميقاً لطبيعة الصراع وتركيبته المعقدة، حيث لم تنجر وراء المزايدات السياسية، بل اختارت طريق التهدئة والدبلوماسية الهادئة. 
وذكر أبوعمار، في تصريح لـ«الاتحاد»، أن الإمارات تتعامل مع الملف السوداني من منظور الأمن الإقليمي الشامل، وتدرك أن استمرار الصراع لا يهدّد فقط وحدة السودان بل يمتد أثره إلى أمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وهي مناطق ترتبط بشكل مباشر بمصالح العالم العربي.

مقالات مشابهة

  • خبراء ومحللون لـ«الاتحاد»: أكاذيب «سلطة بورتسودان» محاولات يائسة للهروب من الفشل الداخلي
  • وزير الخارجية الأسبق: القمة المصرية السودانية بحثت جهود وقف الحرب
  • هريدي: القمة المصرية السودانية بحثت جهود وقف الحرب في السودان والتحضير لاجتماع واشنطن
  • السودان بين مستنقع الميليشيات ومأزق الدولة المنهكة
  • انفجارات تهز أم درمان وسط تصدي الجيش السوداني لمسيرات تابعة للدعم السريع
  • الدولة البتتشكّل بعد الحرب حاليّا في بورتسودان ليست ما كنّا نطمح إليه في ديسمبر
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: أمن المعلومات واستعادة البيانات
  • الأمم المتحدة تُـدين استهداف الدعم السريع “المتكرر والمتعمد” للمدنيين في الفاشر
  • السودان.. مسيرتان للدعم السريع تستهدفان منطقة عد بابكر شرقي الخرطوم
  • بقال وآخرون.. من يملك حق العفو؟