استوكهولم.. التواطؤ المقنّع باسم الإنسانية
تاريخ النشر: 17th, May 2025 GMT
في المشهد اليمني المعلّق بين الحرب والتسويات المؤقتة، لم يكن اتفاق “استوكهولم” سوى انعكاسٍ لأزمةٍ أعمق، حيث تحوّلت مفاوضات السلام إلى أدواتٍ لإدارة النزاع بدلًا من إنهائه. لم يكن هذا الاتفاق خطوةً نحو الاستقرار، بل كان إعادة هندسةٍ لمسار الحرب، بحيث لا يصل أي طرفٍ إلى نصرٍ حاسم، ولا تُتاح فرصةٌ حقيقيةٌ لإنهاء الصراع، بل يُترك اليمن بين قوسين من الاحتمالات السياسية والعسكرية التي لا تنتهي.
كان الاتفاق أحد أكثر اللحظات تأثيرًا في هذا المشهد المضطرب، فهو لم يُرسِ سلامًا، ولم يفتح الباب لحسمٍ عسكري، بل ألقى بالصراع في حالة اللا سلم واللاحرب، حيث بقيت الأطراف المتنازعة في وضع المراقبة المستمرة، دون تغييرٍ جذريٍّ يفضي إلى حلٍّ نهائيٍّ. لكنه، على مستوى أكثر عمقًا، شكَّل نقطة تحولٍ في إدارة النزاع أكثر من كونه وسيلةً لإنهائه؛ إذ أعاد تعريف طبيعة المعارك، وأعاد ترتيب أولويات القوى المتصارعة، كما رسم خطوط المواجهة بطريقةٍ أفرغت المسار العسكري من مضمونه، ومنحت الحوثيين فرصةً ذهبيةً لإعادة التموضع والتقاط الأنفاس، دون أن يواجهوا أي ضغطٍ فعليٍّ على أكثر الجبهات حساسيةً في اليمن.
عندما فُرض الاتفاق بضغوطٍ دوليةٍ وإقليمية، لم يكن هدفه إيقاف الحرب، بل كان خطوةً لضبط إيقاعها وفق معايير تضمن عدم انهيار أحد الأطراف بشكلٍ كامل. الحوثيون، الذين كانوا على وشك خسارة أهم مواقعهم الاستراتيجية في الحديدة، وجدوا في الاتفاق فرصةً لإعادة التموضع، حيث أتاح لهم إعادة ترتيب صفوفهم، والتوجّه إلى جبهاتٍ أخرى أكثر أهميةً في مشروعهم العسكري، أبرزها مأرب، التي تحوّلت إلى محورٍ رئيسيٍّ في سعيهم للسيطرة على المناطق النفطية والحيوية. في المقابل، واجهت القوى المناهضة للحوثيين حالةً من التجنيد القسري؛ إذ تراجعت العمليات العسكرية في الحديدة تحت غطاء الاتفاق، مما أتاح للحوثيين فرصةً لتعزيز سيطرتهم دون مواجهةٍ مباشرة.
على الطرف الآخر، شكَّل الاتفاق ضربةً لشرعية المواجهة العسكرية التي كانت تقودها القوات المشتركة لاستعادة الحديدة، إذ أُجبرت على الدخول في حالة من التجميد القسري للمعركة، مما أتاح للحوثيين تعزيز مواقعهم وترتيب صفوفهم من جديد. هذه الديناميكية أوضحت أن الاتفاق لم يكن مجرد وقفٍ لإطلاق النار، بل إعادة صياغةٍ لمعطيات الصراع على الأرض، وتأجيلٌ للحسم العسكري إلى إشعارٍ آخر.
القصف الأخير الذي استهدف ميناء الحديدة لم يكن مجرد حدثٍ طبيعي في المشهد العسكري، بل كان إعلانًا جديدًا عن انهيار اتفاقاتٍ لم تكن يومًا سوى أدواتٍ لتأجيل المواجهات الكبرى، دون أن تضمن استقرارًا حقيقيًا للشعب اليمني.
اتفاق “استوكهولم”، الذي أُجبرت عليه الشرعية بحجّة الإنسانية، بـدا وكأنه كان مجرد مرحلةٍ انتقالية تسمح لجماعة الحوثي بإعادة ترتيب أوراقها، واستمرار سيطرتها على الميناء الذي كان يجب أن يكون جزءًا من خارطة التحرير، لا مساحةً مفتوحةً أمام الصواريخ القادمة من خارج الحدود.
اللافت أن هذا الاتفاق، الذي تم تسويقه دوليًا تحت شعار تخفيف الأزمة الإنسانية، لم يكن أكثر من أداةٍ سياسية جرى استخدامها لتحقيق أهدافٍ تتجاوز حدود الأزمة اليمنية نفسها. فالقوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لم تكن معنيةً بإيقاف الحرب بقدر ما كانت تريد إعادة هندسة المعركة وفق مصالحها؛ بحيث لا تؤدي المواجهة إلى انهيارٍ كاملٍ، ولا تسمح بحسمٍ عسكريٍّ يُغيِّر موازين القوى. ولهذا السبب، لم يكن الاتفاق مجرد هدنة، بل كان بمثابة إعادة ترتيبٍ للأولويات العسكرية، خاصةً فيما يتعلق بالمناطق الاستراتيجية التي كانت محور الصراع.
البعد الأخطر للاتفاق كان في توظيفه دوليًا؛ حيث جرى التلاعب بالبعد الإنساني كذريعةٍ لمنع أي تقدُّمٍ عسكريٍّ في الحديدة، في حين أن القوى الدولية نفسها لم تتردد في التدخل العسكري عندما تعرّضت مصالحها للتهديد. فعندما قام الحوثيون باستهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر، تحولت معايير التدخل فجأةً من ضرورة الحفاظ على الاستقرار إلى حماية المصالح الغربية، وهو ما يعكس ازدواجيةً في التعامل مع الملف اليمني؛ حيث يتم تحريك القرارات وفقًا للمصلحة، وليس وفقًا لحاجة اليمنيين الحقيقية للخلاص من الحرب.
الأوضاع الإنسانية، التي قيل إن الاتفاق كان يهدف إلى تحسينها، لم تتحسَّن، بل ساءت بشكلٍ أكبر؛ حيث استغل الحوثيون غياب المواجهة العسكرية المباشرة لتعزيز سيطرتهم على المساعدات الدولية، واستخدموها كأداةٍ سياسيةٍ للضغط على السكان. وبذلك، تحوَّل الاتفاق من كونه خطوةً لإنهاء الأزمة الإنسانية، إلى أداةٍ منحت الحوثيين فرصةً لمزيدٍ من التحكم في تفاصيل حياة المواطنين، مما جعل الواقع أكثر تعقيدًا مما كان عليه قبل توقيع الاتفاق.
لقد أظهرت تطورات الحرب منذ توقيع الاتفاق أن التحفظات التي أُثيرت حينها حول خطورته لم تكن مجرد مبالغاتٍ سياسية، بل كانت قراءةً دقيقةً لما سيحدث لاحقًا. فمنذ الموافقة عليه، دخلت الحرب في حالةٍ من التوازن السلبي؛ حيث لم تتحرك جبهة الحديدة، بينما ازداد الضغط على مأرب وتعز والجبهات الحيوية الأخرى، مما زاد من تعقيد المشهد العسكري والسياسي، وأسهم في إطالة أمد الصراع بدلًا من الدفع نحو حلٍّ شاملٍ ينهي معاناة اليمنيين.
اليوم، وبعد مرور سنواتٍ على توقيع الاتفاق، أصبحت الحاجة إلى إعادة تقييمه أمرًا لا يحتمل التأجيل، ليس فقط بسبب فشله في تحقيق أهدافه الإنسانية المعلنة، بل لأنه أصبح أداةً تُستخدم لتعطيل أي محاولةٍ لاستعادة المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين. وإذا كان إيقاف العمليات العسكرية في الحديدة قد بُرِّر يومًا بأنه إجراءٌ إنسانيٌّ ضروري، فإن الواقع يُثبت أن الانسياق وراء هذه الذرائع كان خطأً استراتيجيًا، مكَّن الحوثيين من كسب الوقت، ومنحهم القدرة على توسيع نفوذهم، وتحويل المعركة إلى مناطق أخرى دون أن يكون هناك ضغطٌ حقيقيٌّ عليهم في الساحل الغربي.
إن أي حديثٍ عن استعادة اليمن اليوم لا يمكن أن يكون واقعيًا دون مراجعة هذا الاتفاق، والنظر بجديةٍ إلى الخيارات العسكرية والسياسية المتاحة لكسر حالة الجمود التي فرضها؛ لأن استمرار الوضع الحالي لن يؤدي إلا إلى المزيد من التعقيد، والمزيد من التراجع، والمزيد من المعاناة الإنسانية التي يدَّعي المجتمع الدولي أنه يريد تفاديها، لكنه في الواقع لا يفعل شيئًا حقيقيًا لمعالجتها.
في النهاية، اتفاق “استوكهولم” ليس مجرد وثيقةٍ تفاوضية، بل شكلٌ آخر من التواطؤ السياسي المقنّع باسم الإنسانية، استُخدم لإعادة رسم مسار الحرب اليمنية دون أن يوفر حلولًا عمليةً حقيقيةً للأزمة. واليوم، مع تعقيد المشهد العسكري والسياسي، تزداد الحاجة إلى فهمٍ أعمق لما يعنيه هذا الاتفاق في سياق المصالح الدولية والإقليمية المتشابكة في اليمن، حيث لم يعد الصراع مجرد مواجهةٍ داخلية، بل بات جزءًا من معادلةٍ جيوسياسيةٍ أوسع، تتحكم فيها توازنات القوى وليس إرادة اليمنيين وحدهم.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق كتابات خاصةالمتحاربة عفوًا...
من جهته، يُحمِّل الصحفي بلال المريري أطراف الحرب مسؤولية است...
It is so. It cannot be otherwise....
It is so. It cannot be otherwise....
سلام عليكم ورحمة الله وبركاتة...
المصدر: يمن مونيتور
إقرأ أيضاً:
إسرائيل توافق.."مؤسسة غزة الإنسانية" تبدأ توزيع المساعدات قبل نهاية مايو
أعلنت مؤسسة "المساعدات الإنسانية ل غزة " المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية، اليوم الخميس، أنها ستبدأ عملها رسميًا في نهاية شهر مايو الجاري داخل القطاع، وذلك ضمن آلية جديدة لإدخال وتوزيع المساعدات الإنسانية.
ووفق القناة 12 العبرية، فإن المؤسسة أكدت أنها طلبت من الولايات المتحدة البدء في ضخ المساعدات وفق الآلية الحالية مؤقتًا، إلى حين الانتهاء من تجهيز مواقع التوزيع.
من جانبها، وافقت الحكومة الإسرائيلية على دخول هذه المساعدات، التي من المقرر أن تُوزَّع في مناطق شمالي وجنوبي قطاع غزة، كما ذكر موقع "واللا" العبري.
وأكد مسؤول إسرائيلي، الخميس، لقناة "كان" الإخبارية أن بناء مراكز التوزيع الجديدة سيتم الانتهاء منه خلال أسبوعين.
اقرأ أيضا/ ويتكوف يلتقي قيادة حمـاس بالدوحة وسط جهود مكثفة بشأن غـزة
يأتي هذا الإعلان في وقت تشير فيه تقديرات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى قرب نفاد المخزون الغذائي في غزة.
وحذر رئيس الأركان، إيال زامير، رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو ، ووزراء الحكومة قائلا: "لن نتسبب في تجويع غزة، يجب أن تصل المساعدات قريبا".
وفي وقت سابق، أعلنت الولايات المتحدة عن بدء عملية إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.
من جهتها، أفادت صحيفة الأخبار اللبنانية، بأنه يجري العمل على بلورة «اتفاق سريع لإدخال مساعدات غذائية وأدوية إلى غزة» في ظلّ تفاقم أزمة الجوع بفعل الحصار الإسرائيلي، شريطة أن تصل بعض هذه المساعدات إلى الأسرى الإسرائيليين لدى « حماس ».
ووفقاً لمسؤول مصري عاد من الدوحة، فإن «اتفاق المساعدات قد يُنفّذ خلال ساعات، وربما يكون مقدّمة لوقف مؤقّت لإطلاق النار في حال تعذّر تمديده لعدة أيام بسبب تحفظات إسرائيلية».
وترافق هذا الحراك مع توجيه 65 أسيراً إسرائيلياً سابقاً في رسالة إلى كل من نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب، دعوا فيها إلى عدم مغادرة طاولة المفاوضات حتى توقيع صفقة شاملة تعيد المختطفين من غزة، مؤكدين أن «غالبية المجتمع الإسرائيلي تفضّل عودة المختطفين حتى ولو كان الثمن وقف القتال».
المصدر : وكالة سوا - عرب 48 اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من الأخبار الإسرائيلية محدث: مقتل إسرائيلية في عملية إطلاق نار قرب مستوطنة بورخين مئات الجنود يرفضون العودة للقتال في غزة تفاصيل جديدة حول مفاوضات الدوحة بشأن وقف إطلاق النار في غزة الأكثر قراءة المالية تعلن صرف رواتب الموظفين عن شهر 3/2025 اليوم الخميس بهذه النسبة سبب وفاة الأميرة جواهر بنت بندر بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود – ويكيبيديا فيلم وثائقي يكشف هوية الجندي الإسرائيلي قاتل "شيرين أبو عاقلة" مع دخول قرار الإغلاق حيز التنفيذ: الاحتلال يقتحم مدارس شعفاط ويأمر بإخلائها عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025