إضافة إلى ما ذُكر فـي الحلقة السابقة، فإن أطروحة سيغِفْرِد كرَكاور Siegfried Kracauer الكبرى هي ان الأفلام السينمائيَّة الألمانيَّة التي أُنتجت خلال حقبة فايمار (Weimar)/ الرَّايخ الألماني/ الجمهورية الألمانيَّة (1918—1933)، بما فـي ذلك بعض من أفضل أفلام المدرسة التعبيريَّة الألمانيَّة وأكثرها فنيَّة وشهرة، قد عكست، فـي الحقيقة، صعود النازيَّة ووصولها إلى السُّلطة، حيث يحاجج كرَكاور بأن الأفلام لا تعكس «روح الأمَّة» (zeitgeist) خلال حقبة تاريخيَّة معيَّنة فحسب، ولكنها توفِّر أيضًا متنَفَّسًا للرغبات المقموعة للثَّقافة، ومجالًا للتخلُّص من أكثر نزعاتها ومكبوتاتها اللاواعيَّة سوداويَّة وشناعة.

وبصورة من الصُّور، يقول كرَكاور إن الأفلام الألمانيَّة التي أُنتجت خلال تلك الحقبة قد تنبَّأت بمجيء أدولف هتلر Adolf Hitler، شخصيّا.

وبصورة مشابهة، فإن المؤرخ السينمائي الفرنسي مارك فـيرو Marc Ferro معنيٌّ بأسئلة من قبيل كيف ان السِّينما تبوح بـ«عقليَّة» (mentalité) حقبَّة تاريخيَّة معيَّنة لدى أمَّة ما. وفـي هذا السياق، فإنه يتساءل عما إذا كانت السِّينما تُعَدُّ وثيقة مهمة ومهمَلة فـي الغالب لدراسة التَّاريخ. لقد انكبَّ فـيرو على دراسة تاريخ السينما السوفـييتيَّة ليتوصل، على عكس النُّقاد والمؤرخين «الجَماليِّين» المفرِطين فـي حقل الدِّراسات النَّظرية والنقديَّة السِّينمائية، إلى أن السينما يمكن أن تكون «مصدرًا» أو «محرِّكًا» للتاريخ، أو كلا الأمرين معًا. إن السِّينما مصدر للتاريخ لإنها ترينا الكثير من التَّمظهرات الخارجيَّة، كالجوانب الأيديولوجيَّة، والقناعات السياسيَّة، والمواقف الاجتماعيَّة والثَّقافـيَّة السَّائدة فـي برهة تاريخيَّة محدَّدة. وعلاوة على ذلك، فـيمكن للسِّينما، فـي الحقيقة، أن تحل أحيانًا محل «التَّاريخ» كما هو الحال فـي فـيلم «المدمِّرة بوتِمكِن» The Battleship Potemkin (سيرغي آيزنشتاين Sergei Eisenstein، الإتحاد السوفـييتي، 1925). لقد أصبح ذلك الفـيلم مرادِفًا فوريًَّا ولاواعيًا كلما فكرنا بما حدث فـي روسيا فـي عام 1917 على الرغم من انه يتضمن مشاهد تصوِّر «أحداثًا» لم تحدث على الإطلاق فـي تدفق الوقائع المتسارعة التي قادت إلى تأسيس أول جمهوريَّة اشتراكيَّة فـي التَّاريخ. فـي هذه الحالة، إذًا، تصبح السِّينما أداة «محرِّكة» ومساهمة فـي صياغة التَّاريخ. وحقَّا، فإن الأفلام السّينمائيَّة التي صُنِعت قبل فترة وجيزة من اشتعال أتون الحرب العالميَّة الثانية فـي عام 1939، أو بعد ذلك بمدة قصيرة، أدَّت دورًا مهمًا باعتبارها محرِّكات تاريخيَّة؛ وذلك لسبب بسيط هو أنه، وفـي ضوء سرديَّات تلك الأفلام وتمثيلاتها، فإن أفرادًا ومجموعات من النَّاس اختاروا أصدقاءهم أو أعداءهم (1).

تقدِّم نظريتا كرَكاور وفـيرو فـي العلاقة بين السِّينما والتَّاريخ أداة منهجيَّة مفـيدة لبحث العديد من الأسئلة والموضوعات التي يطرحها علينا تطوُّر أفلام الشَّيخ العربي فـي السِّينما الأمريكيَّة والمسارات المختلفة التي اختطَّها؛ حيث اقترحتُ، فـي مكان أسبق من هذه الدِّراسة، أن «التَّطور» السَّردي فـي تلك الأفلام إنما يعكس ويتمحور حول عدة أنواع من القلق والمخاوف التي انتابت المجتمع الأمريكي نفسه، سياسيَّا وثقافـيَّا، ويعبِّر عنها بصور متباينة.

لا بد، إذًا، من طرح أسئلة مُلِحَّة (ثم الإجابة عنها)، وذلك من قبيل كيف يمكن أن تساعدنا شخصيَّة الشَّيخ العربي للوصول إلى فهم أفضل للمُشَاهَدِيَّة السينمائيَّة الأمريكيَّة على النَّحو الذي مؤسِست فـيه فـي مختلف الفترات، وكيف تعكس شخصيَّة الشَّيخ العربي السِّينمائيَّة أزمات وطنيَّة مثل القلق السّياسي/ الأيديولوجي والجندري/ الجنسي كما هو مُلَمَّح به من خلال شخصيَّة الشَّيخ العربي الخُنْثَوي متكررة الظُّهور، والموضوعة جنبًا إلى جنب، بصورة تثير المفارقة، شخصيَّة الشَّيخ العربي الفحل التي لا تختفـي أبدًا، وكذلك شخصيَّة الشَّيخ العربي نصير النَّازيَّة فـي الأربعينيَّات من القرن الماضي، وشخصيَّة الشَّيخ العربي حليف السوفـييت فـي الحرب الباردة. بكلمات أخرى، لماذا وكيف أصبح الشَّيخ السِّينمائي العربي «أمريكيَّا» إلى أبعد الحدود؟

مثل الاستشراق، الذي هو ممارسة تمثيليَّة فـي المقام الأول، فإن التمثيلات تبوح بذاتها أكثر مما تكشف عن موضوعها. وبكلمات كيث موكسي Keith Moxey فإن علاقة التَّمثيلات بـ«الواقع المُحاكائي (mimetic)» تتجسد بأقل مما تظهر به فـي «الإسقاطات الثقافـيَّة، وبناء، وتقديم، ونشر القيم الثقافـيَّة» (2). وعلى نحوٍ مشابه لذلك، فإن بيتر إكس فِنغ Peter X. Feng يحاجج بأنه «لا يوجد هناك شيء اسمه تمثيل إيجابي أو تمثيل سلبي. بالأحرى، هناك تمثيلات تُحشَد وتُنشَر بصورة إيجابيَّة أو بصورة سلبيَّة، وذلك حسب السِّياقات البنائيَّة» (3). لذلك فإن على دراسة صورة الشَّيخ العربي فـي السِّينما الأمريكيَّة ألا تكون «تصحيحيَّة»، وإنني أستخدم هنا مفردة إيلا شُحط Ella Shohat وروبرت ستام Robert Stam (4) (ولهذا فإن عمل شاهين Shaheen «تصحيحيٌّ» بصورة مبالغ فـيها. ومع ذلك فإن ما قام به من دراسة مفـيد فـي حالة الجمهور عديم الفهم بالكامل للموضوع، وليس للمُنْجَمَعات النَّقديَّة والفكريَّة).

إن المرء يستحضر هنا ما أكَّده إدوَرد سعيد Edward Said عن الاستشراق نفسه: «لا ينبغي أبدًا أن يفترض المرء أن مبنى الاستشراق ليس أكثر من بناء من للأكاذيب أو الخرافات التي، إن قيلت الحقيقة بخصوصها، فإنه، ببساطة، سيذوي». على النقيض من ذلك، فإن على المرء أن يضع فـي اعتباره أن الاستشراق، بوصفه ممارسة تمثيليَّة، «يعتمد فـي استراتيجيَّته على تفوُّقٍ موضعي مرن يجعل الغربي فـي علاقة من سلسلة كاملة من العلاقات الممكنة مع الشَّرق من دون أن يفقد أبدًا الغَلَبَة النِّسبيَّة» (5). وعلى نحوٍ مشابه لما يذهب إليه سعيد، فإن ستيف نيل Steve Neale ينقد المقاربة «الواقعيَّة» لتفكيك الصُّورة النَّمطيَّة؛ إذ انه، بعد عام واحد فقط من ظهور كتاب سعيد «الاستشراق»، نشر بحثًا يحذِّر فـيه من محدوديات «تصنيف... الشَّخصيات... التي يُحَدَّد بها لها مجال ضيِّق من الأدوار المُنَمَّطة الحاطَّة من القدر» (6). وبالتالي فإنه يدعو إلى دراسة الصُّور المُنَمَّطة من منظور «السَّرد والفنتازيا» (7).

-------------------------------------

(1). Marc Ferro, Cinema and History, trans., Naomi Greene (Detroit: Wayne State University, 1988).

(2). Keith Moxey, The Practice of Theory (Ithaca: Cornell University Press, 1994), 30.

(3). Peter X. Feng, “Introduction,” in Screening Asian Americans, ed., Peter X. Feng (New Brunswick: Rutgers University Press, 2002), 5.

(4). Shohat and Stam, Unthinking Eurocentrism, 178. مصدر سابق الاقتباس

(5). Said, Orientalism, 6, 7, التوكيد أصلي. مصدر سابق الاقتباس

(6). انظر بحثه فـي:

Screen Education, nos. 32/33, Autumn/Winter 1979/80.

(7). Steve Neale, “The Same Old Story: Stereotypes and Difference” in The Screen Education Reader: Cinema, Television, Culture, eds., Manuel Alvarado, Edward Buscombe, and Richard Collins (London: The Macmillan Press, 1993), 42. التوكيد أصلي.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة التی

إقرأ أيضاً:

جوائز آيسف 2025.. فوز طالبتين سعوديتين في الكيمياء والهندسة

فازت الطالبة فاطمة العرفج، من تعليم الأحساء، بجائزة خاصة مقدمة من American Chemical Society في المعرض الدولي للعلوم والهندسة آيسف 2025 عن مشروعها في مجال الكيمياء.
كما فازت الطالبة أريج القرني من تعليم مكة بجائزة خاصة مقدمة من Fondazione Bruno Kessler في المعرض الدولي للعلوم والهندسة آيسف 2025 عن مشروعها في مجال الهندسة البيئية.
أخبار متعلقة آيسف 2025.. انتهاء تحكيم مشاريع 1700 طالب وإعلان الجوائز غدًابالتقنية والعلوم والطب.. طالبة سعودية تناقش خبراء العالم في آيسف 2025نجاح متواصل.. 40 طالبًا سعوديًا يتألقون بإبداعاتهم في "آيسف 2025"

مقالات مشابهة

  • محققًا 51 مليون دولار.. «Final Destination: Bloodlines» يتصدر شباك السينما الأمريكية
  • بعد انتشار صورة لهما... الرئاسة توضح: عون لا يعرف الشيخ موفق طريف
  • دليل شامل حول مراحل الحقن المجهري مقدمة من مستشفى بداية
  • وزيرة التخطيط: التكامل العربي ضرورة لمواجهة الصدمات التي تعصف بالعالم
  • تهديد لمقاتلة F-35 الأمريكية التي تكلّف مليارات الدولارات! صواريخ اثارت ذعر واشنطن
  • إنجاز جديد.. المملكة تحصد 9 جوائز خاصة في آيسف 2025
  • آيسف 2025.. تفاصيل جوائز طلاب المملكة
  • آيسف 2025.. تفاصيل جوائز طلاب منتخب المملكة
  • جوائز آيسف 2025.. فوز طالبتين سعوديتين في الكيمياء والهندسة