سوريا بلا عقوبات.. ما فرص مناطق سيطرة الأكراد في سوريا؟
تاريخ النشر: 19th, May 2025 GMT
مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع كافة العقوبات المفروضة على سوريا، تتجه الأنظار إلى مناطق شمالي وشرقي سوريا الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والتي تعرف بمناطق "الإدارة الذاتية"، التي تحوي معظم ثروات سوريا، وهي المناطق التي عانت من العقوبات رغم بعدها عن مركز السلطة.
"بشرى سياسية واقتصادية"رأت القيادات الكردية في القرار "بشرى سياسية واقتصادية"، وشدد سكرتير حزب الوحدة الكردي، محيي الدين شيخ آلي، على أن الخطوة تمثل فرصة لتخفيف معاناة الناس وتعزيز الأمن الغذائي وفرص العمل، "لكنها تبقى مشروطة بإصلاحات دستورية تحترم حقوق الأكراد ضمن وحدة البلاد"، حسب تعبيره.
وأعلن ترامب أثناء زيارته إلى العاصمة السعودية الرياض الثلاثاء الماضي، عزمه رفع العقوبات الأميركية على سوريا، في خطوة قال إنها تهدف إلى "تقديم فرصة جديدة لسوريا".
وأكد نصر الدين إبراهيم سكرتير الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا في حديث للجزيرة نت أن "أي انفتاح اقتصادي يحتاج إلى استقرار سياسي وضمان حقوق المكونات السورية"، محذرا من إعادة إنتاج النظام من دون إصلاحات جوهرية.
من جهته، دعا المتحدث باسم المجلس الوطني الكردي، فيصل يوسف في حديث للجزيرة نت إلى شراكات شفافة تضمن توزيع الدعم، مطالبا بدولة ديمقراطية "لا مركزية، تحترم حقوق الإنسان وتكرّس الحقوق القومية"، وفق تعبيره.
إعلانيشار إلى أن العقوبات الأميركية على سوريا بدأت عام 1979، بعد تصنيف واشنطن دمشق دولة "راعية للإرهاب"، وتوسعت لاحقا مع اندلاع الثورة عام 2011، وصولا إلى "قانون قيصر" عام 2019.
لكن مع سقوط نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، دفعت الإدارة السورية الجديدة باتجاه رفع العقوبات، واعتبرت ذلك شرطا للنهوض والاستقرار.
ما الذي يمكن أن يتغير؟رغم حالة التفاؤل التي سادت شمال شرقي سوريا، فإن خبراء اقتصاديين يرون أن الطريق لا يزال طويلا ومعقدا.
وأشار الباحث الاقتصادي، خورشيد عليكا في حديث للجزيرة نت إلى أن "مناطق الإدارة الذاتية تضررت من العقوبات رغم استقلالها الإداري عن دمشق، بسبب ارتباطها الاقتصادي بالدولة السورية، واعتماد سكانها على الليرة السورية، إضافة إلى الحصار المفروض".
وأكد عليكا أن رفع العقوبات يفتح الباب أمام فرص استثمارية كبيرة، خصوصًا في قطاعات النفط والغاز والزراعة والثروة الحيوانية، مشيرا إلى إمكانية عودة الشركات العالمية إلى المنطقة.
لكنه حذّر من أن "غياب التوافق السياسي بين الإدارة الذاتية ودمشق، وضعف البنية التحتية، يمثلان عائقين رئيسيين أمام أي انفتاح اقتصادي حقيقي"، مضيفًا أن "الاعتراف السياسي المتبادل شرط جوهري لجذب الاستثمارات وتحقيق التنمية المستدامة".
أما المحلل الاقتصادي، الدكتور شادي أحمد، فرأى في حديث للجزيرة نت أن مناطق شمال وشرق سوريا تتمتع بموارد طبيعية غنية، خاصة في قطاعي النفط والزراعة، وتنتج فائضا كبيرا من القمح، وتملك مصادر مائية جيدة، مشيرا إلى أن مستوى المعيشة فيها كان نسبيًا أفضل من بقية المناطق السورية.
لكنه يشير إلى أنه رغم الموارد، "لا توجد فرص حقيقية لجذب رؤوس أموال أجنبية أو محلية بسبب القلق السياسي وعدم وضوح مستقبل الإدارة الذاتية، مما يدفع المستثمرين إلى التريث"، وفق قوله.
إعلانويرى أحمد أن الاستثمار سيبقى محدودًا في غياب اتفاق رسمي مع دمشق يضمن الاعتراف بالإدارة الذاتية.
ويضيف أن غياب منفذ بحري، وتضارب المصالح الإقليمية، يعمّقان عزلة المنطقة اقتصاديًا، محذرًا من أن رؤوس الأموال غير النظامية قد تستغل الفوضى، بينما يظل الاستثمار الحقيقي رهينة التوافقات السياسية الكبرى.
ورغم التحسن الظاهري في سعر صرف الليرة السورية بنسبة 23%، يشكك الخبراء في استدامة هذا الانتعاش، فبدون إصلاحات هيكلية، وبنية تحتية صلبة، وبيئة سياسية واضحة، فإن رفع العقوبات قد يبقى إجراءً رمزيًا أكثر منه تحولا فعليًا.
وتبدو فرص شمال شرقي سوريا معلقة بين التفاؤل الشعبي، والواقع الاقتصادي المعقد، بانتظار تسويات سياسية لم تتبلور بعد، وفق مراقبين.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الإدارة الذاتیة رفع العقوبات إلى أن
إقرأ أيضاً:
الأكراد في لبنان.. الغائبون الحاضرون في جمهورية الحصص الطائفية
يشبه لبنان متحفاً حيّاً للطوائف، وفسيفساء مذهبية فريدة من نوعها في محيطه العربي. وقد اتسم تاريخه بالتداخل بين الدين والسياسة، والصراعات على النفوذ وحفظ الهوية، ما جعل منه حالةً فريدةً في الشرق الأوسط، أو ربما استثناءً تاريخياً في تشكيله الطائفي المتنوّع الذي يتجاوز الصورة التقليدية لطوائفه الكبرى المعروفة، والتي لعبت أدواراً محورية منذ استقلاله، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الطائف. إذ تختزن ذاكرة هذا البلد الصغير تنوعاً مذهلاً لطوائف ومذاهب، بقي بعضها مجهولاً للكثيرين، تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من نسيجه الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي ظلّ تجاهل إعلاميّ معتاد، بقيت هذه الطوائف في الظلّ، رغم ما تحمله من إرث غنيّ وقصص غير مروية، ودورٍ لا يُستهان به في تشكيل الهُوية اللبنانية، والتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي.
من هنا، يخصص موقع "عربي 21" سلسلة مقالات بعنوان "لبنان متحف طوائف الشرق الأوسط" وخصص هذه الحلقة لطائفة الأكراد على الرغم من كونها خارج التعداد الرسمي للطوائف الـ18، في محاولةٍ جادة وعميقة لإلقاء الضوء على هذه الجماعة، واستكشاف خصائصها وتاريخها وتراثها، والتعرف إلى الدور الذي لعبته وتلعبه اليوم في الواقع اللبناني، بعيداً من الصور النمطية والأحكام المسبقة.
هذه السلسلة ليست مجرد بحثٍ معرفي، بل هي جولةٌ بين مكوّنات مجتمعٍ زاخر بالتنوع، لا يزال رغم صراعاته قادراً على البقاء كأحد أغنى نماذج التعددية في الشرق الأوسط.
غالبًا ما يغيب الحديث عن مكوّن أساسي في النسيج اللبناني المعقّد، وهو جماعة الأكراد. جماعةٌ لم يُعترف بها رسمياً كطائفة من طوائف لبنان ولم تدخل في التعداد الرسمي الذي يضم 18 طائفةً على الرغم من حضورها التاريخي الذي يمتد لقرون، وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي.
ففي لبنان، "الطوائف الـ18" المُعترَف بها قانوناً هي طوائف دينية لا إثنية/قومية، حتى طائفتي الأرمن التي كنا قد تحدثنا عنهما في مقال سابق حصلتا على اعترافٍ رسمي ليس بـ"القومية الأرمنية" بحدّ ذاتها، بل بـ الطوائف الأرمنية الدينية التي لها بنية كنسيّة خاصة ومحاكم روحية أو مرجعيات خاصة، ومن ثم حُدِّدت لهم حصص تمثيل ضمن القسمة المسيحية. بمعنى آخر، لم تصبّ فلسفة الاعتراف الطائفي في لبنان، في صالح الأكراد لأن الغالبية الساحقة منهم سُنّة (شافعية/حنفية)، فاحتُسبوا ضمن الطائفة السنيّة قانوناً وسياسياً.
أكراد لبنان
بعض الأكراد في لبنان لبنانيون منذ العام 1932، وبعضهم مُجنَّسون بموجب المرسوم الذي صدر عام 1994، وبعضهم ما زال بلا جنسية لبنانية (يحمل جنسياتٍ أخرى كالسورية والعراقية والتركية). وقد جاءوا إلى لبنان في موجات هجرة متعاقبة يمكن تقسيمها إلى فترتين رئيسيتين: الموجة الأولى تاريخية قديمة، تعود إلى فترة الحروب الصليبية وتواجد القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي في بلاد الشام، حيث استقر بعضٌ من جنوده وعائلاتهم في مناطق جبل لبنان. أما الموجة الثانية، والأكثر تأثيرًا من الناحية الديموغرافية، فقد حدثت في القرن العشرين، خصوصاً في أعقاب ثورات الأكراد ضد الدولة العثمانية، ثم الدولة التركية الحديثة (1925 ـ 1950) وجاء معظمهم من ولايات دياربكر وشانلي أورفا وماردين في تركيا، ثم حدثت موجة لاحقة (أواخر الخمسينيات ـ أوائل الستينيات) هي أقرب إلى النزوح الاقتصادي من شمال سوريا وشمالها الشرقي، ومن شمال شرق العراق (إقليم كردستان العراق).
غالبًا ما يغيب الحديث عن مكوّن أساسي في النسيج اللبناني المعقّد، وهو جماعة الأكراد. جماعةٌ لم يُعترف بها رسمياً كطائفة من طوائف لبنان ولم تدخل في التعداد الرسمي الذي يضم 18 طائفةً على الرغم من حضورها التاريخي الذي يمتد لقرون، وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي.وتميزت هذه الموجة الأخيرة بأنها أدخلت إلى لبنان مجتمعًا كرديًا أكثر تماسكًا، حافظ على عاداته وتقاليده ولغته (الكردية الكرمانجية بشكل أساسي). ويعيش أبناء هذا المجتمع وفق خصائص النظام العشائري، حيث تلعب الروابط العائلية والعشائرية دورًا محوريًا في تنظيم حياتهم الاجتماعية. يتبع أغلبهم المذهب الإسلامي السني، مع وجود أقليات صغيرة من الطوائف الأخرى. ثقافيًا، يتمسكون بتراثهم الغني من الفلكلور والموسيقى والرقص الكردي، ويحرصون على الاحتفال بالمناسبات الوطنية الكردية مثل عيد النوروز وقد اتخذوا ـ عُرفاً ـ منطقة الروشة في بيروت نقطة تجمّع واحتفال.
يصعب تحديد عدد الأكراد في لبنان بدقة بسبب غياب الإحصاءات الرسمية، لكن تقديرات غير رسمية تشير إلى ما بين 100 ألف و150 ألف شخص. يتوزعون جغرافيًا بشكل رئيسي في المدن الكبرى، خصوصاً في بيروت (المصيطبة، عين المريسة) وضواحيها (برج حمود، سن الفيل، حيّ الكرنتينا) وكذلك في منطقة البقاع الغربي، وفي مدينة طرابلس شمال لبنان. وعلى الرغم من اندماجهم في المجتمع اللبناني، إلا أنهم حافظوا على نوع من التجمع الذاتي في أحيائهم، مما ساهم في صون هويتهم الثقافية والاجتماعية.
الدور السياسي والحياة العامة
على الرغم من تزايد أعداد الأكراد في أحياء بيروت والمناطق المحيطة بها منذ منتصف القرن العشرين، لم يُترجَم هذا الحضور إلى تمثيل سياسي رسمي داخل معادلة الطوائف اللبنانية. فالنظام اللبناني يقوم على الاعتراف بالطوائف الدينية وتمثيلها في مؤسسات الدولة وقوانين الأحوال الشخصية، فيما يُعرَّف الأكراد في لبنان أساسًا بهويتهم القومية، ما يجعلهم "طائفة بلا صوت" في المعنى السياسي ــ الإداري للعبارة. والنتيجة المباشرة: غياب حصّة تمثيلية باسمهم، وتَعذُّر المطالبة بحقوقهم كجماعةً مُمأسسة. إزاء هذا الفراغ، نشأت مبكرًا مبادراتٌ أهلية سعت إلى بناء كيانٍ تمثيليٍّ ولو رمزيّ وتنوعت بين جمعيات ثقافية تُعنى باللغة والتراث والاحتفالات القومية، ونوادٍ اجتماعية لعبت دور شبكة الأمان للفئات الأكثر هشاشة (عمل، سكن، مساعدة قانونية)، بالإضافة إلى محاولات حزبية خجولة هدفها تحويل هذا التجمُّع السكاني إلى قوة فعلية ذات تمثيل واضح في نظام المحاصصة. ولعل أبرز تلك المحاولات إنشاء "حزب التحرير الكردي" في 24 أيلول سبتمبر 1970 بقيادة جميل ميهو. وقد سعى الحزب إلى صياغة خطابٍ يطالب بحدٍّ أدنى من الحقوق الأساسية، تبدأ بالاعتراف بالهوية الثقافية وتصل إلى المشاركة في الحياة السياسية اللبنانية غير أن شعبيته تراجعت بعد تقارب ميهو مع الحكومة العراقية في ما يشبه التحدي لخطّ مصطفى بارزاني مصطفى البارزاني (1903–1979) وهو القائد التاريخي للحركة الكردية في العراق ومؤسِّس الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي قاد الانتفاضات الكبرى ضدّ بغداد.
هذا الاصطفاف الذي اختاره ميهو وانيحازه إلى الحكومة العراقيّة ضدّ الأكراد، أدّى إلى أسره وسجنه لدى المقاومة الكردية في العراق، فانتقلت قيادة الحزب في لبنان إلى نجله رياض الذي تسلم حزباً منشطراً إلى فصائل صغيرة تعكس انقسامات الحركة الكردية الإقليمية. وبينما كان يحاول توحيد صفوف الحزب والنأي به عن رياح الإقليم، عصفت الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990) بالحزب الذي أسس ذراعاً مسلحة سُميت "حركة الشباب الكردي" لحماية أبناء الجماعة، لكنّ تأثيرها بقي محدودًا.
.
ويصف بعض الأكراد في لبنان تجربة الحرب الأهلية بأنها نقطة تحول حاسمة في تاريخهم. فبعد أن انخرطوا في القتال تحت رايات مختلفة بهدف الدفاع عن مناطقهم، وبعد أن انضمّ بعضهم إلى فصائل لبنانية يسارية أو قومية عربية وبعضهم الآخر انخرط في "حركة الشباب الكردي" بدا أن الأكراد تشرذموا وسط الفوضى العارمة بين الأطراف التي وفرت لهم الحماية ما أفقدهم الكثير من استقلالية القرار والموقف. فتفكّكت فروع حزب التحرير الكردي واحدًا تلو الآخر، إلى أن أُعلِن رسمياً عن حلّ الحزب في العام 1991 وانتقل النشاط إلى جمعيات ثقافية وخيرية.
في الخلاصة، لم يكن تفكك الحزب الكردي الوحيد في لبنان انعكاساً لفوضى الحرب الأهلية وحدها، بل انعاكساً لأزمة الأكراد وتشرذمهم بيت تيارات وأحزاب مختلفة في كل من سوريا والعراق وتركيا. فالصراع حول حق الأكراد بتقرير مصيرهم ومطالبتهم بإنشاء كيان قومي يركّز على حكم ذاتي ظلّ حاضرًا في وعي النشطاء في لبنان، وألقى بثقله على خياراتهم الاصطفافية. وكلّ موجة تطوّرٍ أو انتكاسةٍ في "كردستان الكبرى" (تسميةٌ تشير إلى الإقليم الجبلي الذي يشكّل موطنًا رئيسيًا للشعب الكردي في المشرق، ولا تدلّ بالضرورة على دولةٍ قائمة) كانت تجد صداها في بيروت: إنقسامٌ بين من يرى الأولوية لدعم الفصائل القومية في الخارج، ومن يفضّل خطّ الاندماج اللبناني الكامل والابتعاد عن النزاعات العابرة للحدود.
وقد أفرز هذا التردُّد بين "القومية" و"المحلية" نقاشاً حاداً بين مكونات المجتمع اللبناني بشأن هوية الأكراد في لبنان: هل هم جاليةٌ ذات أجندةٍ ثقافية فقط، أم مكوّنٌ طموح يسعى للتمثيل والحصص داخل الدولة؟
بين الاندماج والتمييز
على أرض الواقع، سلكت الجماعة الكردية مسارين متوازيين. الأوّل اندماجيّ يميل إلى الانخراط التام ضمن فضاء الطائفة السّنية وضمن المؤسسات الوطنية، والمشاركة بالنشاط الاقتصادي في القطاعات الحِرَفيّة والخدماتية والأمنية، وبناء شبكات محلّية في الأحياء التي استقرّوا فيها. أمّا المسار الثاني، فـثقافيّ ــ مطلَبي، يسعى للحفاظ على اللغة والعادات وتثبيت الحضور عبر المهرجانات والفولكلور ومناسبات الذاكرة، مع المطالبة بتسهيل معاملات الإقامة والتجنيس وحقوق العمل لمن تعثّر وضعهم القانوني عبر العقود. وبين المسارين، تبقى الثغرة: الاعتراف الرسمي/المؤسسي الذي يسمح بقياس الأثر الاجتماعي والسياسي وتحويله إلى تمثيل فعلي. وتتسع هذه الثغرة مع مررور الوقت بفعل ثلاثة عوائق متشابكة:
ـ الإطار القانوني الذي لا يمنح اعترافًا جماعيًا بهويةٍ غير دينية، ما يضع سقفًا لمدى التمثيل الممكن.
ـ المناخ السياسي الذي يميل إلى القوى التقليدية ضمن المحاصصة الطائفية، فتضيق فرص الطارئين بلا حصةٍ مُحدّدة.
الصراع حول حق الأكراد بتقرير مصيرهم ومطالبتهم بإنشاء كيان قومي يركّز على حكم ذاتي ظلّ حاضرًا في وعي النشطاء في لبنان، وألقى بثقله على خياراتهم الاصطفافية. وكلّ موجة تطوّرٍ أو انتكاسةٍ في "كردستان الكبرى" (تسميةٌ تشير إلى الإقليم الجبلي الذي يشكّل موطنًا رئيسيًا للشعب الكردي في المشرق، ولا تدلّ بالضرورة على دولةٍ قائمة) كانت تجد صداها في بيروت: إنقسامٌ بين من يرى الأولوية لدعم الفصائل القومية في الخارج، ومن يفضّل خطّ الاندماج اللبناني الكامل والابتعاد عن النزاعات العابرة للحدود.ـ المعالجة الإعلامية لقضية الأكراد في لبنان التي تضعها غالباً في سياقٍ إنساني (فقر، سكن، عمل) أكثر من السياق السياسي ـ المدني.
ـ وجود عدد كبير من الأكراد مكتومي القيد (لا يحملون أي جنسية) أو من حملة الجنسيات السورية والعراقية لا اللبنانية (لم يشملهم مرسوم التجنيس الصادر 1994)
وتجدر الإشارة إلى أن اتفاق الطائف (1989) الذي أرسى قواعد الحكم بعد انتهاء الحرب الأهلية ونظم الحياة السياسية، لم يأتِ على ذكر الأكراد أو يخصص لهم أي مقعد نيابي أو وزاري، ما عمّق شعورهم بالتهميش وزاد من إصرارهم على المطالبة بالتمثيل السياسي والاعتراف بهم كطائفة مستقلة، لكن المساعي لم تلقَ أي استجابة من الطبقة السياسية اللبنانية.
في هذه المرحلة، تحولت الأنشطة السياسية الكردية إلى مساعٍ ثقافية واجتماعية تركز على تعزيز الروابط الاجتماعية بين أبناء الطائفة وحفظ التراث. في موازاة استمرار المساعي والمحاولات الفردية (من خلال دعاوى إثبات النسب وتصحيح القيود أمام المحاكم المدنية) لاكتساب الجنسية اللبنانية، أو محاولات الجمعيات واللجان المحلية التي تتولّى تجميع الملفات، وتنظيم حملات التعريف والوساطة مع الوزارات المعنية وذلك في ظل غياب ممثل رسمي للأكراد بوصفهم جماعة سياسية.
ويصرّ المعنيون على متابعة ملفات الأكراد حالة بحالة، لأهمية الحصول على الجنسية اللبنانية وأثره على الحياة الخاصة للفرد أو الأسرة فمن شأن التجنيس أن ينقلهم من وضع هشّ إلى وضع كامل الحقوق: هوية ووثائق سفر، سهولة الحركة والعمل، حقوق مدنية وسياسية (اقتراع، ترشّح، انتساب نقابي) ممارسة المهن المنظَّمة (الطب، الهندسة، المحاماة… إذ تشترط الجنسية والانتساب للنقابة) الحصول على حق التملّك والتأمين اجتماعي (الضمان، تعويضات نهاية الخدمة) وإمكانية الاستفادة الأوسع من التعليم الرسمي والجامعي.
لكن يبدو أن المخاوف الديمغرافية هي أساس التعطيل السياسي لمنح الأكراد الجنسية اللبنانية. فمنذ التسعينيات، يسيطر هاجس التوازن الطائفي على فئة من اللبنانيين فأي توسيع كبير للتجنيس يُقرأ في لبنان كتحويلٍ في ميزان الطوائف (غالبًا يُفترض أنه يصبّ في خانة السُنّة بحكم الانتماء الديني لغالبية الأكراد) فضلاً عن البيروقراطية البطيئة حتى في إنجاز الملفات المستحقّة قانونًا والتي قد تتأخر سنوات بسبب التعقيدات الإدارية والأمنية.
وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن الخروج من وصف "الطائفة بلا صوت" يتطلّب مأسسة المطالب من خلال تجميع القوى داخل إطارٍ جامعٍ مرن يُراكم تمثيلًا خدماتيًا وقانونيًا وإعلاميًا، وبناءَ تحالفات لبنانية عابرة للطوائف مع منظمات حقوقية ونقابية وبلدية لمعالجة الشؤون العملية (الإقامة، العمل، التعليم، السكن) كما يتطلب الاتفاق على سردية عامة إيجابية وتعميمها بنحو يُبرز المساهمة الاقتصادية والثقافية للأكراد، ويتجنب حصرهم في صورة "اللاجئ الدائم".
الواقع والتحديات
سيبقى موقع الأكراد في لبنان رهينة تقاطع المحرّكات الداخلية (إصلاحٌ مدني وعدالة اجتماعية) مع التطورات الإقليمية في كل من سوريا والعراق وتركيا. وقد تُرسم ثلاثة سيناريوهات للمستقبل، لا تتشابه ولا تتنافى في آن معاً:
ـ سيناريو المواطنة المدنية: حين ينجح لبنان في إحداث إصلاحات انتخابية وإدارية تُقلّل وزن القيد الطائفي وتُنشئ أدوات تمثيل مدني (في الانتخابات النيابية، في مجالس محلّية أقوى...) قد يبرز الأكراد كـمكوّن مدني يتمثّل عبر برامج حقوقية وخدمية لا عبر "طائفة جديدة"
ـ سيناريو العدالة الإجرائية: بحيث تتحسّن القوانين لتصحيح القيود ومنح الجنسية المستحقّة وتقليص انعدام الجنسية، حتى من دون احلاجة إلى تغييرات سياسية كبيرة. فينتج عن ذلك نوع من الترقية الاجتماعية-الاقتصادية التي تعزّز المشاركة النقابية والتعليمية للأكراد
ـ سيناريو التعطيل الإقليمي: إذا تجدّد التوتر في كل من سوريا والعراق وتركيا قد يولّد ضغوط نزوحٍ وهواجس ديمغرافية جديدة في لبنان، فتتقدّم مقاربة "الأمن أولًا" على حساب مصلحة أبناء الجماعة/الطائفة الكردية فتتعرقل مساعي التجنيس ويبقى الأفراد عالقين في وضع حرج (الحرمان من حقوق أساسية مثل العمل في بعض المهن، التسجيل في الجامعات الرسمية، التملك...) وكل ذلك يفاقم معاناتهم ويحد من فرصهم في الاندماج.
وعلى الرغم من أن الأكراد في لبنان اليوم لا يعيشون على إيقاع الإقليم كما في السبعينيات والتسعينيات، لكنهم ما زالوا يتأثرون به في المزاج الشعبي بطريقة قد تُبدّل الفرص والموارد. فكلّما تقدّم لبنان في حلّ ملفات التسجيل والجنسية والتمثيل المدني، تراجع أثر الريح الإقليمية في تقرير مصيرهم، وبالعكس، كل اضطرابٍ أو توتر إقليمي يزيد حذر الدولة اللبنانية من ملفات التجنيس/التسجيل والهجرة، فتتباطأ معاملات الأكراد مكتومي القيد أو "قيد الدرس" كما أن المنح المقدمة من منظمات دولية وإقليمية وبرامج التدريب قد تتكثّف أو تنكمش تبعًا لتمويل مرتبط بالساحات الكردية المحيطة. ما يترك أثراً مباشراً على الأفراد والأسر وعلى نشاط الحقوقيون المتابعين للملف الكردي.