ظلّ الفقه الإسلامي، عبر تاريخه الطويل، يتراوح بين اتجاهين متكاملين في الأصل: فقه الفتوى، الذي يُعنى بإنتاج الأحكام الشرعية التفصيلية من أدلتها، وفقًا للوقائع المستجدة، وفقه البناء، الذي يتجاوز ذلك إلى صياغة رؤية اجتهادية شاملة تُؤسس لمقاربة منظومية تُراعي مقاصد الشريعة، وتحوّل الفتوى من مجرد جواب إلى لبنة في هندسة المجتمع.

هذا التحوّل المنهجي لا يعني نقض فقه الفتوى، وإنما ترشيده وتكميله في أفق فقهي أكثر اتساعًا وشمولًا.

لقد تميزت بعض المدارس الفقهية – وفي مقدمتها المدرسة المالكية – بهذا التوجه البنائي الذي ينظر إلى الاجتهاد باعتباره أداةً لصياغة العمران البشري، وضبط النظام القيمي، وإنتاج خطاب ديني راشد، يراعي مقاصد الشريعة، ويضبط تنزيل النصوص ضمن بنيات الواقع المتشابكة.

الفرق الجوهري بين فقه الفتوى وفقه البناء لا يتوقف عند اختلاف المنهج أو المقاربة، بل يمتد إلى مستوى الرؤية الحضارية. فبينما ينشغل الأول بسؤال الحكم الشرعي في واقعة معينة، ينشغل الثاني بجملة من التساؤلات المعيارية: ما موقع هذا الحكم في النسق القيمي الإسلامي؟ هل يُسهم في ترسيخ العدالة الاجتماعية؟ هل ينسجم مع مقاصد الشريعة الكلية؟ هل يساعد في بناء أنظمة تشريعية تستوعب التعقيد الحضاري للعصر؟ في ضوء هذه الأسئلة، يصبح الحكم الفقهي عنصرًا في مشروع إصلاحي متكامل، لا مجرد فتوى منعزلة.

إنّ فقه البناء يُلزم الفقيه باجتهاد مركب، يقوم على فقه الواقع، وتحقيق المناط، واستيعاب المآلات، وتقدير المصالح والمفاسد ضمن توازن مقاصدي، لا تغيب فيه الكليات ولا تُهمّش فيه الجزئيات. في هذا السياق، يتحول الفقيه من ناقل لأقوال السابقين إلى مهندس للقيم، ومُشرّع يوازن بين النص والواقع، بين الاستدلال والتدبير، في ضوء حكمة المقصد وكليّة الشريعة.

والواقع المعاصر يكشف هشاشة الاقتصار على فقه الفتوى، إذ نواجه اجتهادات تفتقر إلى الرؤية، وفتاوى عاجزة عن تحقيق التماسك الاجتماعي، أو معالجة القضايا المعقدة في الاقتصاد، والطب، والسياسة، والهجرة، والذكاء الاصطناعي. فحين تُفتي المؤسسة الدينية في قضايا الطب أو السوق أو الدولة، دون استشارة لأهل الخبرة أو إدماج للسياق المؤسسي، فإنها تُعرّض خطابها للفقدان التدريجي للثقة والمشروعية.

من هنا، فإننا بحاجة إلى استئناف فاعل لفقه البناء، بوصفه مسارًا لإعادة تأسيس الاجتهاد الإسلامي، من خلال التكوين العلمي للفقيه، ومناهج التعليم الشرعي، ومشاريع المجامع الفقهية. فلا يكفي أن نُلقّن الطالب قواعد الاستدلال، بل ينبغي أن نُهيّئه لفهم تركيب الوقائع، وتحليل السياقات، وبناء الأحكام ضمن شبكة متكاملة من القيم والمقاصد. كما يجب أن تعيد المؤسسات الاجتهادية ترتيب أولوياتها، فتركّز على "السياسة الشرعية الوقائية" بدلًا من "فتاوى الانفعال اللحظي".

وإذا كان فقه الفتوى يتطلّب الدقة والورع، فإن فقه البناء يتطلب الحكمة والنظر المقاصدي العميق، ويحمّل الفقيه مسؤولية المشاركة في ضبط التوازن الاجتماعي، وتفعيل الوظيفة العمرانية للشريعة، وترسيخ الأمن الروحي والمعنوي للأمة.

لقد آن أوان التحوّل من اجتهاد التلقي إلى اجتهاد التأسيس، من منطق السؤال إلى منطق المشروع، ومن فقه الجواب إلى فقه البناء. فهذا وحده هو السبيل إلى استعادة الفقه الإسلامي لرسالته التاريخية، وفاعليته الحضارية، في زمن تتعاظم فيه التحديات وتتشابك فيه الوقائع.

طباعة شارك الفقه الإسلامي فقه الفتوى الأحكام الشرعية فقه البناء

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الفقه الإسلامي فقه الفتوى الأحكام الشرعية فقه البناء فقه الفتوى

إقرأ أيضاً:

أزهري يوجه رسالة للأسر وطريقة التعامل مع أسئلة الأطفال

قال الشيخ السيد محمد عرفة، عضو مركز الأزهر العالمي للفتوى، إن كل أسرة عليها أن تعمل على تربية الأطفال بعيدا عن التطرف، وأن يكون هناك استماع لكل أسئلة الأطفال.

بعد تتويجها عالميًا.. رقية رفعت تناشد شيخ الأزهر: حلمي التعيين مُعيدة لخدمة كتاب اللهفوز جامعة الأزهر ضمن التحالفات القومية في المبادرة الرئاسية “تحالف وتنمية”

وأضاف خلال حواره ببرنامج صباح الخير يا مصر، المذاع عبر القناة الأولى، أنه يجب الرد على جميع أسئلة الأطفال، ويكون هناك احتواء لما يدور في عقل الطفل، وأنه في حالة التعثر في الرد على أي سؤال فيجب الاتجاه للجنة الفتوى للرد على أي سؤال.

ولفت إلى أن المدرسة عليها دور أيضًا في تعليم الأطفال التعاليم الصحيحة للدين، وأن مادة الدين في المدرسة يجب أن تكون من أجل التوعية والتطبيق، وليست مادة دراسية فقط.

وأوضح أن الطالب يتعلم التسامح، الكرم، والرحمة، ويتعلم الأشياء الكثيرة من خلال القصص الجميلة لسيدنا محمد مع الصحابة، ولذلك علينا أن نحسن تربية الأبناء.

طباعة شارك مركز الأزهر العالمي للفتوى القناة الأولى الفتوى السيد محمد عرفة الأزهر

مقالات مشابهة

  • شوبير: صلاح لا يزال يكتب التاريخ بصدارة
  • مفتي الجمهورية يحذر: الجهل والأمية الرقمية والدينية أخطر ما يهدد وعي المجتمعات
  • تعلن محكمة بيت الفقيه أن الأخت هدى عبدالله محمد تقدمت بدعوى انحصار وراثة
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)
  • تعاون بحثي وإعلامي بين «تريندز» واتحاد إذاعات وتلفزيونات دول منظمة التعاون الإسلامي
  • الفتوى وقضايا الواقع الإنساني.. ندوة دولية نحو اجتهاد رشيد يواكب التحديات المعاصرة
  • أزهري يوجه رسالة للأسر وطريقة التعامل مع أسئلة الأطفال
  • الدكتوراه للباحث عبده العميسي في الفقه المقارن من كلية الشريعة جامعة صنعاء
  • محمد دياب يكتب: غزة بين الإنهيار وتمرد الإحتلال
  • الدكتور محمد عبد الوهاب يكتب: هل يُعد قرار الفيدرالي بشراء السندات قصيرة الأجل بداية انتعاش اقتصادي عالمي؟