الدرع والردع.. باكستان نموذج يحتذى!
تاريخ النشر: 27th, May 2025 GMT
ترى متى تدرك الأمة ما يتهدد الأوطان من مخاطر وجودية فتعد الدرع والردع الذي يحميها كما فعلت غيرها من الأمم؟
ما زال صدى صوت الشيخ إبراهيم زيد الكيلاني، رحمه الله، يتردد في أذني وهو يدعو عاليًا يوم الثالث من ديسمبر/ كانون الأول 1971 في خطبة الجمعة في المسجد الحسيني الكبير، في وسط العاصمة الأردنية عمان: "اللهم انصر الباكستانيين على الهنادكة"! ولن أنسى أبدًا كيف استهوتني من كلمات الخطبة تلك الصيغة للجمع، إذ عادة ما كنا نقول "الهنود" جمعًا للهندي، لكن ذائقة الشيخ العالية أبت ألا تأتي إلا بما هو أفصح وأقوم.
كنت آنذاك طالبًا في الجامعة الأردنية وكانت فلسطين وآلامها -وما تزال- همي الأول ووجعي الدائم. ومع ذلك حاك في الصدر بعض ألم وقد أصبح واضحًا أن باكستان تخسر الحرب، وأن جناحها الشرقي، الذي حلّقت به منذ التقسيم عام 1947، أصبح جناحًا مهيضًا لطائر وليد سموه بنغلاديش، ما زال حتى الساعة يغالب الريح، لعله يُقلع.
وما كنت أدري لماذا شعرت آنذاك، كلما شاهدت على صفحات الجرائد صورة استسلام الجنرال نيازي قائد القوات الباكستانية في الشطر الشرقي بتعدادها البالغ 90 ألفًا، أن ذلك كان أيضًا مثار ألم في النفس، بل لعلّي لم أكن قد اشتدّ عُودي في الصنعة ومراقبة الدنيا بآفاق أرحب حتى استشرف عواقب ما حدث.
إعلانوكم كنت أخشى أن يعاودني ذلك الألم وتهديدات رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي لباكستان تتصاعد بعد ما حدث في كشمير التي تحتلها الهند قبل أن تندلع المواجهات. فمودي هذا يجاهر بعدائه للمسلمين ولفلسطين وبتحالفه المتعاظم مع إسرائيل.
لكن رحى الحرب هذه المرة لم تدر كما أراد لها مودي وتشدق محمومًا بالعون الإسرائيلي والغربي عمومًا، فتساقطت طائراته في المواجهة الأولى، ثم دُمِّرت بعض مطاراته وقواعد صواريخه المضادة للطائرات فخفتَت كبرياؤه المنتفخة، وتوقفت الحرب.
في المقام الأول لا يهمني في هذا المقال كيف تمكّنت باكستان من قلب حسابات مودي رأسًا على عقب، بل إن ما يهم في رأيي هو ما يمكن لنا نحن العرب أن نستخلصه من عبر ودروس من تلك المواجهة، ومن السيرورة التاريخية للصراع الهندي الباكستاني الذي يخبو حينًا وينفجر حينًا، إن كان بقي فينا، نحن العرب، ولو خيط رفيع من رشد أو قدر واهٍ من همة لنستخلص العبر، ونحاول النهوض، وقد تقرحت جلودنا من طول الرقاد.
فقد يقول قائل إن باكستان ما كان لها أن تصمد هذه المرة لولا الدعم الصيني بالسلاح المتطور والتكنولوجيا والمعلومات. ومع أن ذلك الدعم لا يمكن نكرانه، فإن الأساس في صمود باكستان منذ البداية هو الإرادة التي لا تهتز ولا تتزعزع، إرادة وجود لم تزده الأيام إلا إصرارًا على الصمود والبقاء مهما تعاظم الخطر وتضخم الخصم، ومهما كانت نتائج المواجهات السابقة.
عندما أجرت الهند تجربتها النووية الأولى في مايو/ أيار 1974 استشعر رئيس وزرائها آنذاك ذو الفقار على بوتو الخطر، وقال مقولته التي سيذكرها له التاريخ أبد الدهر: "إذا بنت الهند القنبلة فإننا سنقتات الأعشاب والأوراق، بل حتى نعاني آلام الجوع، ولكننا سنحصل على قنبلة من صنع أيدينا، إنه ليس لدينا بديل".
قبل ذلك كانت باكستان أطلقت عام 1962 برنامجًا طموحًا لصناعة صواريخ من صنع أيدي علمائها كذلك. ولسوف يذكر التاريخ تلك الأسماء الخالدة من الساسة، من أمثال بوتو، والجنرال ضياء الحق، والعلماء من أمثال عبدالقدير خان، الذين أقسموا أن تحافظ بلادهم على وجودها، فصنعوا لباكستان صواريخها وطوّروا سلاحها النووي.
إعلانأذكر ذلك اليوم الذي أجرت باكستان فيه تجربتها النووية الأولى في 28 مايو/ أيار 1998 وكم شعرت بفرح إذ تمكن بلد مسلم من ولوج عتبة التكنولوجيا النووية. كنا في غرفة أخبار الجزيرة الأولى وكان بثنا يبدأ عند منتصف الساعة الرابعة بعد الظهر. أعلنت باكستان أنها ستذيع صور التجربة بعد خطاب لرئيس الوزراء آنذاك نواز شريف. كنت يومها مدير التحرير المناوب، فهاتفت المدير آنذاك واستأذنته أن نبدأ البث على رأس الساعة بدلًا من منتصفها، فكان جوابه "برافو".
تغير لون سطح الهضبة التي فُجرت القنبلة في جوفها وأصبحت كالعهن المنفوش، كما في وصف كتاب الله لأهوال يوم القيامة. منذ تلك اللحظة أمنت باكستان لنفسها درعًا يقيها غوائل المواجهات المتكررة مع الهند التي لم تخفِ نيتها وعزمها على اقتلاع باكستان من الوجود أو تحويلها إلى كيان ضعيف يدور في فلكها، كما هو حال بنغلاديش (باكستان الشرقية سابقًا).
ومع أني لا أظن أن الواقع السياسي في باكستان ومنذ تأسيسها عام 1947 كان واقعًا نزيهًا ديمقراطيًا نموذجيًا، فإن البلاد أنجزت في سياق إدراكها لما يتهدد وجودها ما لم يدركه العرب حكامًا ومحكومين، منذ أن ظهرت "الدولة" العربية الحديثة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مع كل ما يمكن للمرء أن يبديه من تحفظات حيال مدى انطباق معنى مصطلح الدولة، كما هو في الغرب مثلًا، على كياناتنا العربية الراهنة.
صحيح أن باكستان تعاني من الفساد السياسي والاجتماعي، وصحيح كذلك أنها بحاجة لإصلاح دور الجيش في السياسة، لكن الإدراك الوطني والوعي بالتهديدات والمخاطر يجمع الجميع، الساسة وقادة الجيش وعامة الناس، على صعيد واحد فيصبح الجميع مستعدين للنفير حين تدلّهم الخطوب وتهدد الوطن.
باختصار باكستان تنفر نفير أمة تقدس الوطن بترابه وأرضه ومياهه وبحره وجباله، بحلوه ومره، بكل المعاني التي استقرت في الذهن البشري للأوطان عبر العصور. وإن كان الأمر كذلك فإن الفساد، رغم بلائه وأثره المدمر، لا يمحو وعي الأمة بالوطن في أعماق ضميرها الشعبي الجامع.
إعلاناستغرق الأمر باكستان 36 عامًا، من لحظة إطلاق برنامجها الصاروخي عام 1962 لتطور درعها النووي الذي حماها وما زال منذ ذلك التفجير التجريبي الأول عام 1998. ولو أضفنا لهذا الرقم 15عامًا أخرى، هي الفترة التي انقضت منذ التقسيم وقيام باكستان المستقلة عام 1947، لوجدنا أن الدولة الوليدة أصبحت قوة نووية في زهاء خمسين عامًا فقط.
أين واقع كياناتنا العربية من هذا الوضع؟ نحن نعاني مثل باكستان من الفساد السياسي والاجتماعي المتأصل منذ قيام دولنا، ومعظمها قامت مع قيام باكستان. لكننا لم نستشعر الخطر الذي يهدد وجودنا ساسة وعسكرًا وشعوبًا حتى الآن، فأصبح العدو الذي ينخر أوطاننا منذ قرين من الزمان صديقًا وحليفًا وحاميًا.
أسئلة كثيرة تستعصي حتى على من هم في مقام الأنبياء. لماذا يا ترى تقبل أمة أن تدفن نفسها في عدوها وتُغَيَّب عن وعيها بجغرافيتها في قلب العالم، فتقبل أن تستبدل كتلة خبيثة بقلبها النقي المتصل بالسماء؟ لماذا تقبل أمة أن تُغَيَّب عن تاريخها وتذوب في تاريخ غيرها؟ لماذا يا ترى تتبلد أمة فلا تغضب؟
أزعم أن "الوطن بترابه وأرضه ومياهه وبحره وجباله، بحلوه ومره، بكل المعاني التي استقرت في أذهان الأمم والذهن البشري للأوطان عبر العصور"، كما أدركه الباكستانيون وكما أدركته أمم كثيرة غيرهم، مغيّب عن مداركنا، ومُنمحٍ من وعينا نحن عرب الزمن الإسرائيلي، ولتتهموني بجلد الذات وعقوقها، لا ضير. لقد تساوى مفهوم الوطن في هذا الزمن بكرسي الحكم، يسلم الكرسي وصولجانه وكفى! ما سلم
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات باکستان من
إقرأ أيضاً:
الكيمياء تكشف عن أول علاج بالبخور في الجزيرة العربية قبل 2700 سنة
في واحة نائية شمال غرب المملكة العربية السعودية، وبينما كان فريق من الباحثين ينقب عن آثار حضارة قديمة، لم يتوقع أحد أن تقودهم حفريات صغيرة إلى اكتشاف مذهل يعيد كتابة تاريخ الطب الشعبي في المنطقة.
حيث كشفت دراسة جديدة عن أول دليل موثق على استخدام نبات "الحرمل"، المعروف علميا باسم "بيجانوم هارمالا"، كبخور علاجي ونفسي قبل نحو 2700 عام، أي في العصر الحديدي، لتصبح هذه هي أقدم ممارسة معروفة من نوعها في العالم.
هذا الاكتشاف، الذي نشر في 23 مايو/أيار في مجلة "كوميونيكيشن بيولوجي"، نتج عن تعاون مشترك بين معهد ماكس بلانك لعلوم الإنسان القديم بألمانيا، وجامعة فيينا بالنمسا، وهيئة التراث السعودية.
تقول قائدة فريق البحث باربرا هوبر -الباحثة المشاركة في علم الكيمياء الآثارية، في معهد ماكس بلانك لدراسة الجيو-أنثروبولوجي- إن الحفريات عثر عليها في موقع مستوطنة قديمة (واحة القرية) تقع في شمال غرب السعودية، وتعرف حاليا بأوانيها المزخرفة التي أطلق عليها علماء الآثار اسم "فخار قرية المصبوغ".
وعثر داخل هذه الأواني على بقايا عضوية دقيقة، فقرر الباحثون فحصها باستخدام تقنية تحليل متطورة تعرف "بالكروماتوغرافيا السائلة عالية الأداء مع مطياف الكتلة الترادفية"، وهي تقنية قادرة على اكتشاف المركبات النباتية حتى في أضعف العينات.
وكانت النتيجة مفاجئة، إذ إن المركبات الكيميائية التي تم اكتشافها تعود لنبات "الحرمل"، المعروف في الطب الشعبي بخصائصه المطهرة، والمضادة للبكتيريا، والمسببة لتأثيرات نفسية عند استنشاقه كبخور.
إعلانوتوضح هوبر في تصريحات للجزيرة نت: "أظهرت تحليلاتنا أن هذه هي أقدم حالة موثقة لاستخدام نبات الحرمل كبخور في الجزيرة العربية، بل في العالم بأسره. هذا ليس مجرد اكتشاف أثري، بل نافذة حقيقية على معارف القدماء بعلم النباتات، وكيف استخدموا الطبيعة لعلاج أنفسهم وتنقية أرواحهم".
لا يزال الحرمل يستخدم حتى اليوم في بعض المناطق العربية، سواء في الطب الشعبي أو في طقوس تبخير البيوت، ربما لمنع الحسد، أو لتطهير المكان. ويشير هذا الاكتشاف إلى أن تلك الممارسات ليست جديدة، بل تمتد جذورها إلى آلاف السنين.
توضح الباحثة أن دمج التحليل الكيميائي مع علم الآثار سمح بفهم أعمق للثقافات القديمة، إذ إن المعتاد ألا تبقى آثار مثل هذه الممارسات محفوظة، لكن باستخدام تقنيات التحليل الجزيئي تمكن الفريق البحثي من معرفة ليس فقط نوع النبات، بل كيفية استخدامه ومتى ولماذا. هذه المعلومات تعطينا لمحة حقيقية عن الحياة اليومية في العصور القديمة.
يعتقد المؤلفون أن مثل هذه الاكتشافات لا تحافظ فقط على قطع أثرية، بل تعيد إحياء تراث ثقافي غير مادي، وتربط بين المعارف القديمة والممارسات التي ما زال الناس في المنطقة يمارسونها حتى اليوم. كما يفتح هذا الاكتشاف بابا واسعا أمام الباحثين في مجالات متعددة، مثل الأنثروبولوجيا، وعلم الأدوية، والتاريخ الثقافي. فهو لا يكشف فقط عن استخدام نبات معين، بل عن منظومة متكاملة من المعرفة والمعتقدات المرتبطة بالنباتات والروح والصحة.