في قلب التاريخ العُماني العريق، تواصل الأفلاج العُمانية سرد حكاية حضارة ضاربة في القدم، تجسد عبقرية العُماني في التكيف مع الطبيعة وتطويعها لخدمته وخدمة المجتمع، حيث تعد الأفلاج نظاما فريدا لإدارة المياه والري منذ القدم في سلطنة عُمان، وتعد موروثا حضاريا أبدعه العمانيون وجزءا لا يتجزأ من ثقافة وحضارة العُماني، ولا تزال هذه القنوات المائية تؤدي دورا محوريا في الزراعة وتوزيع المياه في العديد من الولايات حتى يومنا هذا رغم التحديات المناخية والتغيرات والتطورات العمرانية الحديثة.

وفي تحول لافت يجمع بين عبق التاريخ وروح الحاضر باتت الأفلاج العُمانية -التي كانت لعقود طويلة شريان الحياة الزراعي ومصدرا رئيسيا للمياه- مقصدا ومزارا سياحيا يستهوي الزوار من داخل سلطنة عُمان وخارجها، وهذا التحول جاء نتيجة جهود متكاملة من الجهات الحكومية والمجتمعية التي عملت على ترميم وصيانة عدد من الأفلاج؛ لإبراز القيمة الثقافية والجمالية لهذه القنوات المائية وذلك بتحويلها إلى وجهات سياحية وتراثية في الوقت ذاته، لتظهر براعة العُماني في إدارة الموارد وتقديم نموذج فريد للتنمية المستدامة المرتبطة بالهُوية العمانية. وتظهر أشكال تحول الأفلاج من مصدر مائي إلى مقصد سياحي بالاعتراف الدولي بقيمتها التراثية؛ إذ تم إدراج خمسة أفلاج عُمانية ضمن قائمة التراث العالمي (اليونسكو) وهي: الخطمين، ودارس، والملكي، والميسر، والجيلة، ما شكّل نقطة تحوّل مهمة في تاريخ الأفلاج العُمانية ورفع مكانتها عالميًّا، حيث لفت الأنظار إلى القيمة التاريخية والمعمارية لنظام الري، هذا مما شجّع على المحافظة عليها وترويجها كمواقع سياحية أثرية وتراثية. كما تهتم حكومة سلطنة عُمان ممثلة في وزارة التراث والسياحة بالترويج السياحي للأفلاج وتطويرها وترميمها وتحسينها كونها جزءا من الهُوية الثقافية العُمانية وربطها بالمواقع والمسارات السياحية الأخرى التي تشمل القلاع والحصون والقرى والحارات الأثرية، مما جعلها جزءا من تجربة السائح المتكاملة، كما هو الحال في فلج الخطمين بولاية نزوى وكان لتطوير البنية التحتية دور بارز في استقطاب السياح لزيارة الأفلاج والتعرف عليها، إذ تم تحسين المرافق والخدمات السياحية حول هذه الأفلاج مثل المسارات الممهدة واللوحات الإرشادية ومراكز المعلومات، ما سهّل الوصول إليها وزاد من إقبال الزوار عليها، بالإضافة إلى الفعاليات السياحية والبرامج الإرشادية والتجارب التراثية لهذه الأفلاج التي تعد جانبا من جوانب البرامج السياحية المستدامة في سلطنة عُمان.

تراث مائي عريق

وفي ظل تصاعد التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية على الموارد المائية، تواجه الأفلاج -التي تمثل تراثا مائيا عريقا- تحديات متزايدة غير مسبوقة تهدد استدامتها واستمراريتها ودورها الحيوي في دعم المجتمعات الزراعية والجانب السياحي، إذ تتعرض الأفلاج اليوم -التي شكلت لعقود شريان الحياة في الكثير والعديد من الولايات- لخطر الجفاف وتناقص منسوب المياه الجوفية وذلك نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وتغير نمط هطول الأمطار وندرتها. وهذا الواقع يضع مستقبل هذا الإرث العريق أمام مفترق طرق يتطلب تدخلات علمية وتنموية عاجلة للحفاظ عليها كجزء من التراث والثقافة العُمانية، كما يفرض ضرورة ملحة لإعادة تقييم آليات صيانة هذه النظم التراثية وتطوير استراتيجيات تكيف فعّالة لضمان استمراريتها في بيئة مناخية متغيرة.

وتظهر آثار هذه التحديات على المزارعين والمسؤولين عن الأفلاج كما يُدعون بـ«وكلاء الأفلاج»، حيث يقول المزارع علي بن عامر العويسي: «نعاني نحن أصحاب المزارع المعتمدين على الأفلاج في ري المزارع من صعوبات متزايدة بسبب التغيرات المناخية التي أثّرت بشكل مباشر على مستوى الأفلاج وبالتالي على جدول ريّها وكمية اكتفائها من الري، إذ إن عدم انتظام جريان الفلج يؤثر بشكل واضح على المحصول الزراعي وذلك يحدث بسببين؛ بسبب قلة هطول الأمطار وأيضا زيادة منسوبها في أوقات الأنواء المناخية والمنخفضات الجوية، لذلك قلة الأمطار تؤدي إلى جفاف سواقي الأفلاج وبالتالي تناقص منسوب مصدر الري للمزرعة. ومن الجانب الآخر، فإن هطول الأمطار الغزيرة يؤدي إلى انكباب الرمل داخل مجرى الفلج وصعوبة تنظيفه، ولكن تظل المشكلة الأولى والأكثر انتشارا وصعوبة على المزارع والأفلاج هي الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة، لذلك اقترح على جميع المزارعين المعتمدين على الأفلاج في ري مزارعهم البحث عن مصادر أخرى للري وذلك لضمان استمرار نمو محصولهم الزراعي».

تحديات

من جانبه يقول أحمد بن سيف الريامي، وكيل فلج الثابتي بولاية إبراء: «نحن وكلاء الأفلاج والمسؤولين عنها نلاحظ هذه المشاكل والتحديات التي تواجه الأفلاج في ظل التغيرات المناخية نذكر منها ارتفاع درجات الحرارة المستمر في كل عام الذي يمكن أن يؤدي إلى زيادة استهلاك مياه الأفلاج ونقص منسوبها لدى المزارعين نتيجة تبخر المياه بشكل أسرع، كما أن تفاوت هطول الأمطار في كل عام قد يؤدي إلى نقص كميات مياه الأفلاج، مما يؤثر على الزراعة والموارد المائية، بالإضافة إلى أن الأجواء المناخية الاستثنائية قد تؤثر على الأفلاج نتيجة الأودية القوية التي قد تدمر فتحات آبار الأفلاج ومجاريها وانقطاعها، مما تتطلب مبالغ كبيرة لإعادتها إلى ما هي عليه. ولكن لا نخفي أنه على الرغم من هذه التحديات، فإننا نسعى جاهدين للمحافظة على هذه الأفلاج لما فيه مصلحة المزارعين وأيضا لاستمرارها كمقصد سياحي، وذلك بنشر الوعي بثقافة المحافظة على الأفلاج بكل ما تحمله الكلمة من معنى ومفردات».

من جانب آخر، أوضح ماجد بن ناصر الحرملي متحدثا عن ناصر بن سعيد العويسي، وكيل فلج الشارق بولاية دماء والطائيين أن «التغيرات المناخية تشمل جانبين، وهنا أركز على الأمطار القوية التي تؤدي إلى تدمير السواقي واندثارها خصوصا الأفلاج الغيلية، كما هو الحال في الكثير من الأفلاج في ولاية دماء والطائيين، ولكن الحكومة أثناء هذه التحديات تستجيب لمناداة المواطن لتضع الحلول بإصلاح الأفلاج وسواقيها المدمرة، ولكن قد تتأخر بعض الإصلاحات في الأفلاج ذات المصدر العميق، كما هو الحال في فلج الشارق الذي يقع على عمق 12 مترا، وهي تتأخر ولكن تُنجز».

ويتحدث يعقوب بن يوسف بن سعيد الحارثي، وكيل فلجَي الصغيّر ومجينين بولاية إبراء: «كان للحكومة أثر ودور كبير في هذه المسألة والوقوف عليها، فقد سنّت الحكومة تشريعات منظمة ومشروعات مرتبطة بالتغير المناخي، مثل تقنين استخدام مياه الفلج العشوائي والغمر عند سقي المزارع والتحول إلى الري الذكي، وكذلك إنشاء السدود والتي لها أثر إيجابي في المحافظة على جريان المياه، كما عملت على حفر آبار مساعدة للأفلاج وكذلك مشروع ما يسمى بالاستمطار الصناعي، وبالتالي فتتمثل مهمة وكيل الفلج في التنسيق مع المزارعين والتواصل معهم من خلال التقليل من الزراعات المستهلكة للمياه، وكذلك تشير بعض الدراسات إلى زيادة الأعاصير وتساقط كميات كبيرة من المياه، مما يؤدي إلى تآكل البنية التحتية للأفلاج، فنحن نتّجه إلى ما يُعرَف بسدود حماية الفلج والمزارع، والحد من الآبار الخاصة، وحث المزارعين على الانتقال من الري القديم إلى استخدام أساليب حديثة، وكذلك تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية المحافظة على الأفلاج والحفاظ عليها في ظل التغيرات المناخية في الوقت الحالي».

كما يضيف وكيل أفلاج بلدة الفليج بولاية إبراء علي بن عبدالله بن مسعود آل خليفين: «مياه الفلج غيلية المصدر هي الأكثر تأثرا بالتغيرات المناخية، كما هو الحال في الفلج في بلدة الأفلاج، والتي تعتمد اعتمادا كليا على السيل والأمطار، وفي هذا الوقت وفي ظل درجات الحرارة المرتفعة فإن المياه الجارية من الوادي لا تمكث في الأرض إلا عدة أيام حتى يستفيد منها الفلج وذلك بسبب انحدارها الزائد عن مستوى الفلج وقلة الأمطار على مدار السنين. والآبار الموجودة حاليا لمساعدة الفلج منسوب المياه فيها ضعيف جدا، علما بأن مياه الفلج مملوكة لناس في البلدة ناهيك عن أن الثقاب والفتحات الموجودة عند أم الفلج عمقها ثمانية أمتار وبذلك يقل مستوى المياه ويحصل الجفاف في المزارع الموجودة بالبلد».

وختاما، فإن الأفلاج تعد جزءا أساسيا من التراث الثقافي العُماني والجانب البيئي ويتطلب من الجميع الحفاظ عليها والتكاتف أفرادا ومجتمعا وحكومة؛ لمواجهة التحديات المناخية الراهنة التي تواجهها الأفلاج العُمانية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التغیرات المناخیة درجات الحرارة هطول الأمطار على الأفلاج الأفلاج فی یؤدی إلى ع مانیة

إقرأ أيضاً:

اللجنة العُمانية القطرية المشتركة تستعرض مسارات تعزيز التعاون الثنائي

العُمانية: استعرضت اللجنة العُمانية القطرية المشتركة بمسقط اليوم خلال اجتماعها في الدورة الـ 24، أوجه التعاون المشترك في المجالات المالية والاقتصادية، ومستجدات المشروعات الاستثمارية، وبحث مسارات تعزيز التعاون الثنائي في عدة قطاعات منها الصحة والتعليم والعمل والإسكان، ومجالات النقل والزراعة والثروة السمكية، والتعاون الإعلامي.

ترأس الجانب العُماني معالي سلطان بن سالم الحبسي وزير المالية، ومن الجانب القطري سعادة علي بن أحمد الكواري وزير المالية بدولة قطر.

وأشار معالي وزير المالية في كلمته إلى أن اللجنة المشتركة تمثل نموذجًا متميزًا للتعاون الثنائي، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى تعزيز العمل المشترك لتحقيق التقدم والازدهار، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة بين الشعبين الشقيقين.

كما أشاد معاليه بالجهود التي يبذلها أعضاء اللجان من الجانبين، مؤكدًا على التقدم الملحوظ في سير عدد من المشروعات الاستثمارية المشتركة، داعيًا إلى بذل المزيد من الجهود نحو تكاملية الرؤى المالية والاقتصادية العُمانية القطرية بما يتوافق مع رؤى القيادتين الحكيمتين.

من جانبه، أكد سعادة وزير المالية القطري، على أهمية هذه الاجتماعات ودورها في دفع العلاقات الثنائية، موضحًا أن اجتماعات اللجنة المشتركة تشكّل عمق العلاقات بين البلدين الشقيقين، وتشكّل منصة مهمة لتعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري وتطوير شراكات عملية تدعم مسيرة التكامل الخليجي وتفتح آفاقاً أوسع للتنمية المستدامة في مختلف القطاعات.

وعلى هامش الاجتماع، وقّعت وزارة المالية وبنك قطر للتنمية مذكرة تعاون إطارية تهدف إلى تعزيز التعاون الاستراتيجي حيث تضمنت تقديم تسهيلات ائتمانية لدعم تنفيذ المشروعات المشتركة، وتحفيز التعاون الثنائي بين سلطنة عُمان ودولة قطر في مجال التمويل والتجارة؛ بما يحقق التكامل الاقتصادي وفتح آفاق جديدة للاستثمار بين القطاعين العام والخاص في البلدين، إضافة إلى المساهمة في تنويع الاقتصاد العُماني والقطري من خلال المشروعات التي يتم تقديم التسهيلات التمويلية لها.

وقّع مذكرة التعاون عن الجانب العُماني معالي سلطان بن سالم الحبسي وزير المالية، فيما وقّعها عن الجانب القطري سعادة علي بن أحمد الكواري وزير المالية ورئيس مجلس إدارة بنك قطر للتنمية.

كما تم توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار وبنك قطر للتنمية في مجال تطوير التبادل التجاري وتنمية الصادرات، حيث تضمنت دعم المُصدّرين من كلا البلدين الشقيقين، واقتراح سياسات وخطط ترويجية لتنويع التبادل التجاري بالتعاون مع القطاعين الحكومي والخاص، كما تسعى لتطوير قاعدة البيانات التجارية وبناء تحالفات استراتيجية تسهم في تعزيز التجارة وتنويع سياسات الاستيراد.

وقّعها عن الجانب العُماني سعادة ابتسام بنت أحمد الفروجية وكيلة وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار لترويج الاستثمار، وعن الجانب القطري وقّعها عبدالرحمن بن هشام السويدي الرئيس التنفيذي لبنك قطر للتنمية.

يُذكر أن اللجنة العُمانية القطرية تأسست في عام 1995م لتعزيز التعاون المشترك والتواصل الدائم بين البلدين عبر بحث أوجه التعاون المختلفة وإيجاد الفرص الممكنة وإقامة المشروعات الاستثمارية التي تخدم المصالح المشتركة.

مقالات مشابهة

  • مفتي الجمهورية: الجهل والأمية الرقمية والدينية أخطر تحديات تواجه المجتمعات
  • وزير السياحة والآثار: التراث المصري إسهام حضاري للإنسانية جمعاء
  • منظمات أممية وإغاثية لـ«الاتحاد»: تحديات إنسانية غير مسبوقة تواجه السودان
  • شريف الجبلي: صناعة البلاستيك تواجه تحديات نسعى لحلها بالتعاون مع وزارة البيئة
  • البانة بعبري.. بلدة الأفلاج العريقة وواحة التاريخ والطبيعة
  • خبير سياسي: مصر الوحيدة التي تواجه المشروع الدولي لتقسيم سوريا وتفكيك الدولة
  • حملة مخاطر الأنواء المناخية وأمواج تسونامي تؤكد رفع الجاهزية للحالات الطارئة
  • قيادة عُمانية لحدث عالمي
  • اللجنة العُمانية القطرية المشتركة تستعرض مسارات تعزيز التعاون الثنائي
  • تواصل فعاليات الحملة الوطنية للتوعية من مخاطر الأنواء المناخية وأمواج تسونامي