الأفلاج العُمانية.. إرث حضاري ووجهة سياحية تواجه تحديات المناخ
تاريخ النشر: 3rd, June 2025 GMT
في قلب التاريخ العُماني العريق، تواصل الأفلاج العُمانية سرد حكاية حضارة ضاربة في القدم، تجسد عبقرية العُماني في التكيف مع الطبيعة وتطويعها لخدمته وخدمة المجتمع، حيث تعد الأفلاج نظاما فريدا لإدارة المياه والري منذ القدم في سلطنة عُمان، وتعد موروثا حضاريا أبدعه العمانيون وجزءا لا يتجزأ من ثقافة وحضارة العُماني، ولا تزال هذه القنوات المائية تؤدي دورا محوريا في الزراعة وتوزيع المياه في العديد من الولايات حتى يومنا هذا رغم التحديات المناخية والتغيرات والتطورات العمرانية الحديثة.
وفي تحول لافت يجمع بين عبق التاريخ وروح الحاضر باتت الأفلاج العُمانية -التي كانت لعقود طويلة شريان الحياة الزراعي ومصدرا رئيسيا للمياه- مقصدا ومزارا سياحيا يستهوي الزوار من داخل سلطنة عُمان وخارجها، وهذا التحول جاء نتيجة جهود متكاملة من الجهات الحكومية والمجتمعية التي عملت على ترميم وصيانة عدد من الأفلاج؛ لإبراز القيمة الثقافية والجمالية لهذه القنوات المائية وذلك بتحويلها إلى وجهات سياحية وتراثية في الوقت ذاته، لتظهر براعة العُماني في إدارة الموارد وتقديم نموذج فريد للتنمية المستدامة المرتبطة بالهُوية العمانية. وتظهر أشكال تحول الأفلاج من مصدر مائي إلى مقصد سياحي بالاعتراف الدولي بقيمتها التراثية؛ إذ تم إدراج خمسة أفلاج عُمانية ضمن قائمة التراث العالمي (اليونسكو) وهي: الخطمين، ودارس، والملكي، والميسر، والجيلة، ما شكّل نقطة تحوّل مهمة في تاريخ الأفلاج العُمانية ورفع مكانتها عالميًّا، حيث لفت الأنظار إلى القيمة التاريخية والمعمارية لنظام الري، هذا مما شجّع على المحافظة عليها وترويجها كمواقع سياحية أثرية وتراثية. كما تهتم حكومة سلطنة عُمان ممثلة في وزارة التراث والسياحة بالترويج السياحي للأفلاج وتطويرها وترميمها وتحسينها كونها جزءا من الهُوية الثقافية العُمانية وربطها بالمواقع والمسارات السياحية الأخرى التي تشمل القلاع والحصون والقرى والحارات الأثرية، مما جعلها جزءا من تجربة السائح المتكاملة، كما هو الحال في فلج الخطمين بولاية نزوى وكان لتطوير البنية التحتية دور بارز في استقطاب السياح لزيارة الأفلاج والتعرف عليها، إذ تم تحسين المرافق والخدمات السياحية حول هذه الأفلاج مثل المسارات الممهدة واللوحات الإرشادية ومراكز المعلومات، ما سهّل الوصول إليها وزاد من إقبال الزوار عليها، بالإضافة إلى الفعاليات السياحية والبرامج الإرشادية والتجارب التراثية لهذه الأفلاج التي تعد جانبا من جوانب البرامج السياحية المستدامة في سلطنة عُمان.
تراث مائي عريق
وفي ظل تصاعد التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية على الموارد المائية، تواجه الأفلاج -التي تمثل تراثا مائيا عريقا- تحديات متزايدة غير مسبوقة تهدد استدامتها واستمراريتها ودورها الحيوي في دعم المجتمعات الزراعية والجانب السياحي، إذ تتعرض الأفلاج اليوم -التي شكلت لعقود شريان الحياة في الكثير والعديد من الولايات- لخطر الجفاف وتناقص منسوب المياه الجوفية وذلك نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وتغير نمط هطول الأمطار وندرتها. وهذا الواقع يضع مستقبل هذا الإرث العريق أمام مفترق طرق يتطلب تدخلات علمية وتنموية عاجلة للحفاظ عليها كجزء من التراث والثقافة العُمانية، كما يفرض ضرورة ملحة لإعادة تقييم آليات صيانة هذه النظم التراثية وتطوير استراتيجيات تكيف فعّالة لضمان استمراريتها في بيئة مناخية متغيرة.
وتظهر آثار هذه التحديات على المزارعين والمسؤولين عن الأفلاج كما يُدعون بـ«وكلاء الأفلاج»، حيث يقول المزارع علي بن عامر العويسي: «نعاني نحن أصحاب المزارع المعتمدين على الأفلاج في ري المزارع من صعوبات متزايدة بسبب التغيرات المناخية التي أثّرت بشكل مباشر على مستوى الأفلاج وبالتالي على جدول ريّها وكمية اكتفائها من الري، إذ إن عدم انتظام جريان الفلج يؤثر بشكل واضح على المحصول الزراعي وذلك يحدث بسببين؛ بسبب قلة هطول الأمطار وأيضا زيادة منسوبها في أوقات الأنواء المناخية والمنخفضات الجوية، لذلك قلة الأمطار تؤدي إلى جفاف سواقي الأفلاج وبالتالي تناقص منسوب مصدر الري للمزرعة. ومن الجانب الآخر، فإن هطول الأمطار الغزيرة يؤدي إلى انكباب الرمل داخل مجرى الفلج وصعوبة تنظيفه، ولكن تظل المشكلة الأولى والأكثر انتشارا وصعوبة على المزارع والأفلاج هي الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة، لذلك اقترح على جميع المزارعين المعتمدين على الأفلاج في ري مزارعهم البحث عن مصادر أخرى للري وذلك لضمان استمرار نمو محصولهم الزراعي».
تحديات
من جانبه يقول أحمد بن سيف الريامي، وكيل فلج الثابتي بولاية إبراء: «نحن وكلاء الأفلاج والمسؤولين عنها نلاحظ هذه المشاكل والتحديات التي تواجه الأفلاج في ظل التغيرات المناخية نذكر منها ارتفاع درجات الحرارة المستمر في كل عام الذي يمكن أن يؤدي إلى زيادة استهلاك مياه الأفلاج ونقص منسوبها لدى المزارعين نتيجة تبخر المياه بشكل أسرع، كما أن تفاوت هطول الأمطار في كل عام قد يؤدي إلى نقص كميات مياه الأفلاج، مما يؤثر على الزراعة والموارد المائية، بالإضافة إلى أن الأجواء المناخية الاستثنائية قد تؤثر على الأفلاج نتيجة الأودية القوية التي قد تدمر فتحات آبار الأفلاج ومجاريها وانقطاعها، مما تتطلب مبالغ كبيرة لإعادتها إلى ما هي عليه. ولكن لا نخفي أنه على الرغم من هذه التحديات، فإننا نسعى جاهدين للمحافظة على هذه الأفلاج لما فيه مصلحة المزارعين وأيضا لاستمرارها كمقصد سياحي، وذلك بنشر الوعي بثقافة المحافظة على الأفلاج بكل ما تحمله الكلمة من معنى ومفردات».
من جانب آخر، أوضح ماجد بن ناصر الحرملي متحدثا عن ناصر بن سعيد العويسي، وكيل فلج الشارق بولاية دماء والطائيين أن «التغيرات المناخية تشمل جانبين، وهنا أركز على الأمطار القوية التي تؤدي إلى تدمير السواقي واندثارها خصوصا الأفلاج الغيلية، كما هو الحال في الكثير من الأفلاج في ولاية دماء والطائيين، ولكن الحكومة أثناء هذه التحديات تستجيب لمناداة المواطن لتضع الحلول بإصلاح الأفلاج وسواقيها المدمرة، ولكن قد تتأخر بعض الإصلاحات في الأفلاج ذات المصدر العميق، كما هو الحال في فلج الشارق الذي يقع على عمق 12 مترا، وهي تتأخر ولكن تُنجز».
ويتحدث يعقوب بن يوسف بن سعيد الحارثي، وكيل فلجَي الصغيّر ومجينين بولاية إبراء: «كان للحكومة أثر ودور كبير في هذه المسألة والوقوف عليها، فقد سنّت الحكومة تشريعات منظمة ومشروعات مرتبطة بالتغير المناخي، مثل تقنين استخدام مياه الفلج العشوائي والغمر عند سقي المزارع والتحول إلى الري الذكي، وكذلك إنشاء السدود والتي لها أثر إيجابي في المحافظة على جريان المياه، كما عملت على حفر آبار مساعدة للأفلاج وكذلك مشروع ما يسمى بالاستمطار الصناعي، وبالتالي فتتمثل مهمة وكيل الفلج في التنسيق مع المزارعين والتواصل معهم من خلال التقليل من الزراعات المستهلكة للمياه، وكذلك تشير بعض الدراسات إلى زيادة الأعاصير وتساقط كميات كبيرة من المياه، مما يؤدي إلى تآكل البنية التحتية للأفلاج، فنحن نتّجه إلى ما يُعرَف بسدود حماية الفلج والمزارع، والحد من الآبار الخاصة، وحث المزارعين على الانتقال من الري القديم إلى استخدام أساليب حديثة، وكذلك تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية المحافظة على الأفلاج والحفاظ عليها في ظل التغيرات المناخية في الوقت الحالي».
كما يضيف وكيل أفلاج بلدة الفليج بولاية إبراء علي بن عبدالله بن مسعود آل خليفين: «مياه الفلج غيلية المصدر هي الأكثر تأثرا بالتغيرات المناخية، كما هو الحال في الفلج في بلدة الأفلاج، والتي تعتمد اعتمادا كليا على السيل والأمطار، وفي هذا الوقت وفي ظل درجات الحرارة المرتفعة فإن المياه الجارية من الوادي لا تمكث في الأرض إلا عدة أيام حتى يستفيد منها الفلج وذلك بسبب انحدارها الزائد عن مستوى الفلج وقلة الأمطار على مدار السنين. والآبار الموجودة حاليا لمساعدة الفلج منسوب المياه فيها ضعيف جدا، علما بأن مياه الفلج مملوكة لناس في البلدة ناهيك عن أن الثقاب والفتحات الموجودة عند أم الفلج عمقها ثمانية أمتار وبذلك يقل مستوى المياه ويحصل الجفاف في المزارع الموجودة بالبلد».
وختاما، فإن الأفلاج تعد جزءا أساسيا من التراث الثقافي العُماني والجانب البيئي ويتطلب من الجميع الحفاظ عليها والتكاتف أفرادا ومجتمعا وحكومة؛ لمواجهة التحديات المناخية الراهنة التي تواجهها الأفلاج العُمانية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التغیرات المناخیة درجات الحرارة هطول الأمطار على الأفلاج الأفلاج فی یؤدی إلى ع مانیة
إقرأ أيضاً:
وزير التعليم العالي: الجامعات ركيزة أساسية لمواجهة تحديات المناخ وبناء الوعي البيئي
شهد الدكتور أيمن عاشور، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، والدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف، افتتاح فعاليات المؤتمر الدولي للمناخ والبيئة في نسخته الثالثة، وذلك بحضور الدكتور نظير عياد مفتي الجمهورية، والسيد عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق، والدكتور محمود محيي الدين رائد المناخ ورئيس المؤتمر (عبر الفيديو كونفرانس)، والدكتور محمود فتح الله رئيس الأمانة الفنية لمجلس الوزراء العرب المسئولين عن شئون البيئة بجامعة الدول العربية، والدكتور وائل عقل رئيس جامعة النيل الأهلية، والدكتورة نيفين عبدالخالق عميد كلية التعليم المستمر بجامعة النيل الأهلية.
يُعقد المؤتمر تحت رعاية رئيس مجلس الوزراء وجامعة الدول العربية، وتنظمه جامعة النيل الأهلية – كلية التعليم المستمر، بالتعاون مع مؤسسة مهندسون من أجل مصر المستدامة، وبدعم عدد من الوزارات، وبمشاركة واسعة من المحافظين والسفراء والوزراء السابقين والخبراء والعلماء وصناع القرار وممثلي المنظمات الدولية والأهلية.
وفي كلمته التي ألقاها نيابة عن الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، نقل الدكتور أيمن عاشور تحيات رئيس الوزراء للمشاركين، وتمنياته بنجاح المؤتمر وتحقيقه لمخرجات مؤثرة في فعالياته المختلفة.
قضايا المناخ وتغير البيئةوأكد الوزير أن المؤتمر يناقش واحدة من أهم القضايا المصيرية التي تواجه البشرية في العصر الحالي، وهي قضايا المناخ وتغير البيئة، مشيرًا إلى أن الجامعات ومراكز البحث العلمي تمثل ركيزة أساسية للتصدي لهذه التحديات، من خلال وضع الحلول وتبني السياسات ونقل التكنولوجيا، موضحًا أن دور مؤسسات التعليم العالي لا يقتصر على إنتاج المعرفة فحسب، بل يمتد إلى بناء وعي بيئي لدى الأجيال الجديدة وتوجيه طاقاتهم نحو الابتكار المسئول والبحث الهادف.
وأشار الدكتور أيمن عاشور إلى أن وزارة التعليم العالي تولي اهتمامًا كبيرًا لقضايا البيئة والتغير المناخي ضمن استراتيجيات البحث العلمي، فضلًا عن دعم المشاريع البحثية متعددة التخصصات، وتعزيز التعاون بين الجامعات المصرية ونظيرتها الدولية في هذا المجال الحيوي، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن التحديات العالمية لا تُواجه إلا عبر تعاون دولي قائم على تبادل الخبرات والمعرفة.
وفي ختام كلمته، شدد الوزير على أهمية المؤتمر باعتباره منصة علمية رفيعة تناقش قضايا الطاقة النظيفة، وإدارة الموارد الطبيعية، والاقتصاد الأخضر، والتكنولوجيا البيئية، معربًا عن أمله في أن تخرج فعالياته بتوصيات ذات أثر ملموس في دعم السياسات البيئية وتوجيهها نحو مسارات أكثر فعالية واستدامة.
وفي كلمته استعرض وزير الأوقاف، جهود الوزارة في بناء الوعي البيئي من خلال برامج متنوعة، وأعلن دعم الوزارة لجامعة النيل الأهلية في جهودها عبر كلية هندسة الطاقة والبيئة وكلية علوم المياه والأمن الغذائي، لتقديم برامج دراسية متخصصة تسهم في تخريج كوادر مؤهلة تعمل على حماية البيئة والمناخ، مؤكدًا حرص الوزارة على دعم هذه المبادرات النوعية، راجيًا النجاح والتوفيق في تحقيق أهداف المؤتمر.
فيما أكد الدكتور وائل عقل، رئيس جامعة النيل الأهلية، أن المؤتمر يُجسد التوافق بين الجامعات واستراتيجية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في مواجهة التحديات المناخية، مشيرًا إلى خطورة قضايا البيئة والمناخ المعاصرة، وقدرة مؤسسات التعليم العالي على مواجهتها بالعلم والبحث.
واستعرض الدكتور وائل عقل جهود جامعة النيل في دعم البحث العلمي بمجالات الطاقة المتجددة، والزراعة الذكية، وإدارة الموارد المائية، ونمذجة المناخ، وأنظمة الإنذار المبكر بالذكاء الاصطناعي، وكذلك دور كلية هندسة الطاقة والبيئة وكلية علوم المياه والأمن الغذائي بالجامعة، في تشجيع الطلاب وأعضاء هيئة التدريس على إطلاق مشاريع مبتكرة صديقة للبيئة وذات جدوى اقتصادية، والتي نال عدد منها جوائز دولية. كما أشار إلى مقترح الجامعة بإنشاء "وادي العلوم" لدعم تخريج علماء ورواد أعمال متخصصين يسهمون في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ورؤية مصر المستقبلية.
وأوضح المهندس محمد كامل، رئيس مؤسسة مهندسون من أجل مصر المستدامة، نبذة عن المؤتمر منذ انطلاقه عام ٢٠٢٣، وأبرز القضايا التي تناولها، مشيرًا إلى أن النسخة الحالية تتكامل في محاورها مع يوم البيئة العالمي الذي ينظمه برنامج الأمم المتحدة للبيئة تحت شعار "إنهاء التلوث البلاستيكي"، وأعلن عن إطلاق عدد من المبادرات على هامش المؤتمر، وتخصيص جائزة لأفضل ابتكار في مجال حماية البيئة.
وأوضحت الدكتورة نيفين عبد الخالق أن المؤتمر يهدف إلى رفع الوعي العام بقضايا المناخ والبيئة، وتسليط الضوء على المبادرات والمشروعات التي تحقق أهداف التنمية المستدامة، بالإضافة إلى إطلاق مبادرات بيئية ومجتمعية جديدة وتكريم أبرز المشاريع والأفكار التي تتماشى مع رؤية مصر لتغير المناخ.
ويشمل المؤتمر أربع جلسات محورية حول: آلية تعديل حدود الكربون (CBAM) وتحديد سعر عادل لانبعاثات الكربون في السلع المستوردة من خارج الاتحاد الأوروبي، والاقتصاد الدائري، والهيدروجين الأخضر، والذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في مجالات المياه والبيئة.
كما شهد المؤتمر إلقاء العديد من الكلمات رفيعة المستوى، ويضم جلسات نقاشية بمشاركة جامعة النيل الأهلية حول بناء المدن المستدامة، وتحقيق رؤية مصر 2030، والانتقال إلى أنماط إنتاج واستهلاك مستدامة، والاستثمار في الابتكار، ودعم الاقتصاد الأخضر. كما يشهد المؤتمر إقامة معرض للأفكار الابتكارية، ومائدة مستديرة؛ لمناقشة الحد من استخدام البلاستيك، إلى جانب مناقشة استغلال المناطق الصحراوية في إنشاء نُزُل بيئية، وخلق أراضٍ زراعية، ودعم السياحة البيئية.