في قلب التاريخ العُماني العريق، تواصل الأفلاج العُمانية سرد حكاية حضارة ضاربة في القدم، تجسد عبقرية العُماني في التكيف مع الطبيعة وتطويعها لخدمته وخدمة المجتمع، حيث تعد الأفلاج نظاما فريدا لإدارة المياه والري منذ القدم في سلطنة عُمان، وتعد موروثا حضاريا أبدعه العمانيون وجزءا لا يتجزأ من ثقافة وحضارة العُماني، ولا تزال هذه القنوات المائية تؤدي دورا محوريا في الزراعة وتوزيع المياه في العديد من الولايات حتى يومنا هذا رغم التحديات المناخية والتغيرات والتطورات العمرانية الحديثة.

وفي تحول لافت يجمع بين عبق التاريخ وروح الحاضر باتت الأفلاج العُمانية -التي كانت لعقود طويلة شريان الحياة الزراعي ومصدرا رئيسيا للمياه- مقصدا ومزارا سياحيا يستهوي الزوار من داخل سلطنة عُمان وخارجها، وهذا التحول جاء نتيجة جهود متكاملة من الجهات الحكومية والمجتمعية التي عملت على ترميم وصيانة عدد من الأفلاج؛ لإبراز القيمة الثقافية والجمالية لهذه القنوات المائية وذلك بتحويلها إلى وجهات سياحية وتراثية في الوقت ذاته، لتظهر براعة العُماني في إدارة الموارد وتقديم نموذج فريد للتنمية المستدامة المرتبطة بالهُوية العمانية. وتظهر أشكال تحول الأفلاج من مصدر مائي إلى مقصد سياحي بالاعتراف الدولي بقيمتها التراثية؛ إذ تم إدراج خمسة أفلاج عُمانية ضمن قائمة التراث العالمي (اليونسكو) وهي: الخطمين، ودارس، والملكي، والميسر، والجيلة، ما شكّل نقطة تحوّل مهمة في تاريخ الأفلاج العُمانية ورفع مكانتها عالميًّا، حيث لفت الأنظار إلى القيمة التاريخية والمعمارية لنظام الري، هذا مما شجّع على المحافظة عليها وترويجها كمواقع سياحية أثرية وتراثية. كما تهتم حكومة سلطنة عُمان ممثلة في وزارة التراث والسياحة بالترويج السياحي للأفلاج وتطويرها وترميمها وتحسينها كونها جزءا من الهُوية الثقافية العُمانية وربطها بالمواقع والمسارات السياحية الأخرى التي تشمل القلاع والحصون والقرى والحارات الأثرية، مما جعلها جزءا من تجربة السائح المتكاملة، كما هو الحال في فلج الخطمين بولاية نزوى وكان لتطوير البنية التحتية دور بارز في استقطاب السياح لزيارة الأفلاج والتعرف عليها، إذ تم تحسين المرافق والخدمات السياحية حول هذه الأفلاج مثل المسارات الممهدة واللوحات الإرشادية ومراكز المعلومات، ما سهّل الوصول إليها وزاد من إقبال الزوار عليها، بالإضافة إلى الفعاليات السياحية والبرامج الإرشادية والتجارب التراثية لهذه الأفلاج التي تعد جانبا من جوانب البرامج السياحية المستدامة في سلطنة عُمان.

تراث مائي عريق

وفي ظل تصاعد التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية على الموارد المائية، تواجه الأفلاج -التي تمثل تراثا مائيا عريقا- تحديات متزايدة غير مسبوقة تهدد استدامتها واستمراريتها ودورها الحيوي في دعم المجتمعات الزراعية والجانب السياحي، إذ تتعرض الأفلاج اليوم -التي شكلت لعقود شريان الحياة في الكثير والعديد من الولايات- لخطر الجفاف وتناقص منسوب المياه الجوفية وذلك نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وتغير نمط هطول الأمطار وندرتها. وهذا الواقع يضع مستقبل هذا الإرث العريق أمام مفترق طرق يتطلب تدخلات علمية وتنموية عاجلة للحفاظ عليها كجزء من التراث والثقافة العُمانية، كما يفرض ضرورة ملحة لإعادة تقييم آليات صيانة هذه النظم التراثية وتطوير استراتيجيات تكيف فعّالة لضمان استمراريتها في بيئة مناخية متغيرة.

وتظهر آثار هذه التحديات على المزارعين والمسؤولين عن الأفلاج كما يُدعون بـ«وكلاء الأفلاج»، حيث يقول المزارع علي بن عامر العويسي: «نعاني نحن أصحاب المزارع المعتمدين على الأفلاج في ري المزارع من صعوبات متزايدة بسبب التغيرات المناخية التي أثّرت بشكل مباشر على مستوى الأفلاج وبالتالي على جدول ريّها وكمية اكتفائها من الري، إذ إن عدم انتظام جريان الفلج يؤثر بشكل واضح على المحصول الزراعي وذلك يحدث بسببين؛ بسبب قلة هطول الأمطار وأيضا زيادة منسوبها في أوقات الأنواء المناخية والمنخفضات الجوية، لذلك قلة الأمطار تؤدي إلى جفاف سواقي الأفلاج وبالتالي تناقص منسوب مصدر الري للمزرعة. ومن الجانب الآخر، فإن هطول الأمطار الغزيرة يؤدي إلى انكباب الرمل داخل مجرى الفلج وصعوبة تنظيفه، ولكن تظل المشكلة الأولى والأكثر انتشارا وصعوبة على المزارع والأفلاج هي الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة، لذلك اقترح على جميع المزارعين المعتمدين على الأفلاج في ري مزارعهم البحث عن مصادر أخرى للري وذلك لضمان استمرار نمو محصولهم الزراعي».

تحديات

من جانبه يقول أحمد بن سيف الريامي، وكيل فلج الثابتي بولاية إبراء: «نحن وكلاء الأفلاج والمسؤولين عنها نلاحظ هذه المشاكل والتحديات التي تواجه الأفلاج في ظل التغيرات المناخية نذكر منها ارتفاع درجات الحرارة المستمر في كل عام الذي يمكن أن يؤدي إلى زيادة استهلاك مياه الأفلاج ونقص منسوبها لدى المزارعين نتيجة تبخر المياه بشكل أسرع، كما أن تفاوت هطول الأمطار في كل عام قد يؤدي إلى نقص كميات مياه الأفلاج، مما يؤثر على الزراعة والموارد المائية، بالإضافة إلى أن الأجواء المناخية الاستثنائية قد تؤثر على الأفلاج نتيجة الأودية القوية التي قد تدمر فتحات آبار الأفلاج ومجاريها وانقطاعها، مما تتطلب مبالغ كبيرة لإعادتها إلى ما هي عليه. ولكن لا نخفي أنه على الرغم من هذه التحديات، فإننا نسعى جاهدين للمحافظة على هذه الأفلاج لما فيه مصلحة المزارعين وأيضا لاستمرارها كمقصد سياحي، وذلك بنشر الوعي بثقافة المحافظة على الأفلاج بكل ما تحمله الكلمة من معنى ومفردات».

من جانب آخر، أوضح ماجد بن ناصر الحرملي متحدثا عن ناصر بن سعيد العويسي، وكيل فلج الشارق بولاية دماء والطائيين أن «التغيرات المناخية تشمل جانبين، وهنا أركز على الأمطار القوية التي تؤدي إلى تدمير السواقي واندثارها خصوصا الأفلاج الغيلية، كما هو الحال في الكثير من الأفلاج في ولاية دماء والطائيين، ولكن الحكومة أثناء هذه التحديات تستجيب لمناداة المواطن لتضع الحلول بإصلاح الأفلاج وسواقيها المدمرة، ولكن قد تتأخر بعض الإصلاحات في الأفلاج ذات المصدر العميق، كما هو الحال في فلج الشارق الذي يقع على عمق 12 مترا، وهي تتأخر ولكن تُنجز».

ويتحدث يعقوب بن يوسف بن سعيد الحارثي، وكيل فلجَي الصغيّر ومجينين بولاية إبراء: «كان للحكومة أثر ودور كبير في هذه المسألة والوقوف عليها، فقد سنّت الحكومة تشريعات منظمة ومشروعات مرتبطة بالتغير المناخي، مثل تقنين استخدام مياه الفلج العشوائي والغمر عند سقي المزارع والتحول إلى الري الذكي، وكذلك إنشاء السدود والتي لها أثر إيجابي في المحافظة على جريان المياه، كما عملت على حفر آبار مساعدة للأفلاج وكذلك مشروع ما يسمى بالاستمطار الصناعي، وبالتالي فتتمثل مهمة وكيل الفلج في التنسيق مع المزارعين والتواصل معهم من خلال التقليل من الزراعات المستهلكة للمياه، وكذلك تشير بعض الدراسات إلى زيادة الأعاصير وتساقط كميات كبيرة من المياه، مما يؤدي إلى تآكل البنية التحتية للأفلاج، فنحن نتّجه إلى ما يُعرَف بسدود حماية الفلج والمزارع، والحد من الآبار الخاصة، وحث المزارعين على الانتقال من الري القديم إلى استخدام أساليب حديثة، وكذلك تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية المحافظة على الأفلاج والحفاظ عليها في ظل التغيرات المناخية في الوقت الحالي».

كما يضيف وكيل أفلاج بلدة الفليج بولاية إبراء علي بن عبدالله بن مسعود آل خليفين: «مياه الفلج غيلية المصدر هي الأكثر تأثرا بالتغيرات المناخية، كما هو الحال في الفلج في بلدة الأفلاج، والتي تعتمد اعتمادا كليا على السيل والأمطار، وفي هذا الوقت وفي ظل درجات الحرارة المرتفعة فإن المياه الجارية من الوادي لا تمكث في الأرض إلا عدة أيام حتى يستفيد منها الفلج وذلك بسبب انحدارها الزائد عن مستوى الفلج وقلة الأمطار على مدار السنين. والآبار الموجودة حاليا لمساعدة الفلج منسوب المياه فيها ضعيف جدا، علما بأن مياه الفلج مملوكة لناس في البلدة ناهيك عن أن الثقاب والفتحات الموجودة عند أم الفلج عمقها ثمانية أمتار وبذلك يقل مستوى المياه ويحصل الجفاف في المزارع الموجودة بالبلد».

وختاما، فإن الأفلاج تعد جزءا أساسيا من التراث الثقافي العُماني والجانب البيئي ويتطلب من الجميع الحفاظ عليها والتكاتف أفرادا ومجتمعا وحكومة؛ لمواجهة التحديات المناخية الراهنة التي تواجهها الأفلاج العُمانية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التغیرات المناخیة درجات الحرارة هطول الأمطار على الأفلاج الأفلاج فی یؤدی إلى ع مانیة

إقرأ أيضاً:

اتفاقية الشراكة الاقتصادية العُمانية - الهندية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العماني

بالنظر إلى التطورات المتسارعة في المشهد الاقتصادي الإقليمي والدولي، تبدو اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند خطوة تحمل طابعًا استراتيجيًا واسع التأثير، ليس فقط من حيث تعزيز التبادل التجاري، بل من حيث إعادة صياغة الدور الاقتصادي لسلطنة عمان على مدى السنوات المقبلة. فالمؤشرات الأولية القائمة اليوم تُظهر أن التعاون بين البلدين آخذ في النمو بوتيرة ثابتة، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية خلال العام المالي 2024-2025 ما يقارب 10.61 مليار دولار، وهو رقم يعكس علاقة اقتصادية راسخة قابلة للتوسع بمجرد تفعيل الاتفاقية المرتقبة. ويأتي ذلك في وقت تتطلع فيه سلطنة عُمان إلى اقتصاد أكثر تنوعًا، وأكثر قدرة على المنافسة، وأكثر انفتاحًا على الأسواق الآسيوية والعالمية.

وإذا ما نظرنا إلى طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين، فإن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لعُمان يمنحها نقطة قوة محورية. فالموانئ العُمانية مثل صلالة والدقم وصحار لا تُعد بوابات بحرية عادية، بل منصات إقليمية ذات قدرة عالية على خدمة التجارة الدولية وربط آسيا بأفريقيا والخليج وأوروبا. وفي حال اكتملت اتفاقية CEPA، فإن هذه الموانئ لن تكون مجرد نقاط عبور للسلع العُمانية أو الهندية، وإنما محاور لوجستية تجذب الاستثمارات الصناعية والخدمية، وتدعم حركة إعادة التصدير، وتُسهم في بناء منظومة اقتصادية تُضاعف القيمة المضافة داخل سلطنة عُمان. ومن شأن هذه المنظومة أن تُعيد تشكيل قطاعات واسعة تتعلق بالنقل والتخزين والخدمات اللوجستية والصناعات التحويلية، الأمر الذي ينعكس على توسيع فرص العمل وتحسين نوعية الأنشطة الاقتصادية.

ومع أن الاتفاقية تفتح آفاقًا واسعة أمام التجارة في الاتجاهين، إلا أن الجانب الأكثر أهمية لسلطنة عمان يكمن في تعزيز الصناعات المحلية. إذ تستهدف عُمان ضمن رؤيتها 2040 بناء اقتصاد متنوع قائم على الصناعة والتكنولوجيا والخدمات المتقدمة، وليس اقتصادًا يعتمد على سلعة واحدة. ومع الحصول على نفاذ تفضيلي إلى سوق تتجاوز قوامها 1.4 مليار نسمة، فإن مجالات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألمنيوم، الأسمنت، الرخام، المنتجات الزراعية، والمنتجات التقليدية العُمانية يمكن أن تشهد توسعًا نوعيًا في صادراتها. هذه الأسواق الضخمة لا تستوعب المنتجات فحسب، بل تحفّز أيضًا الصناعات المحلية على رفع مستويات الجودة، وتحسين سلاسل الإنتاج، وزيادة الطاقة التشغيلية، وإيجاد مساحات أكبر للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تطمح إلى التصدير.

ومن زاوية مستقبلية، يمكن اعتماد سيناريويهن لتقدير أثر الاتفاقية على حجم التجارة الثنائية: سيناريو متحفظ يفترض نموًا سنويًا بمتوسط 8%، وسيناريو تفاؤلي يفترض نمواً بمتوسط 12%، وذلك مقارنة بمعدل النمو الطبيعي للتجارة الذي يدور حول 3%. وبناء على هذه الحسابات، يمكن أن يرتفع حجم التجارة الثنائية من 10.6 مليار دولار اليوم إلى ما يقارب 15.6 مليار دولار خلال خمس سنوات في السيناريو المتحفظ، وإلى ما يتجاوز 18.7 مليار دولار في السيناريو المتفائل. ومع استمرار النمو لعشر سنوات، يمكن أن يصل الحجم التجاري بين البلدين إلى نحو 23 مليار دولار في السيناريو المتحفظ، فيما قد يصل إلى قرابة 33 مليار دولار في السيناريو التفاؤلي. وهذه القفزات المحتملة لا تأتي فقط من زيادة حجم المبادلات التقليدية، بل من توسع في الصناعات التحويلية، والاستثمار في خطوط إنتاج جديدة تستهدف السوقين معًا.

ومن شأن هذه التحولات أن تُعيد تشكيل الاقتصاد العُماني ليصبح أكثر مرونة في مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر قدرة على النمو الذاتي من خلال الإنتاج المحلي والصناعات الوطنية. ومع ازدياد النشاط اللوجستي، وتوسع المناطق الحرة، وتجدد الاستثمارات الصناعية، سيكون لعُمان موقع جديد على خارطة التجارة العالمية، موقع يعكس قدرتها على استغلال مواردها الجغرافية والبشرية والاقتصادية لبناء اقتصاد متنوع ومستدام. وإذا ما وُظفت هذه الفرص بالشكل الصحيح - عبر التخطيط، وإدارة الموارد بكفاءة، وتطوير التشريعات، وتحفيز الكفاءات الوطنية - فإن السنوات العشر المقبلة قد تشهد تحولًا جذريًا في شكل الاقتصاد العُماني وحجمه.

بينما تتعمق سلطنة عُمان في توسيع شراكاتها الدولية، تمثّل اتفاقية التجارة الحرة مع الهند نقطة تحول قادرة على إطلاق موجة جديدة من النشاط الاقتصادي الذي يترابط فيه التصنيع بالتجارة، ويُكمل فيه الاستثمار اللوجستيات، ويتقاطع فيه النمو الصناعي مع توسع أسواق التصدير. فالعلاقة مع الهند ليست علاقة تجارية عابرة، بل علاقة راسخة تستند إلى تاريخ طويل من التبادل والتداخل الاقتصادي والثقافي، ما يجعل الاتفاقية القادمة امتدادًا طبيعيًا لمسار مشترك يتطور باستمرار. ويُتوقع أن تشكل الاتفاقية حافزًا لعدد من القطاعات التي كانت تتطلع إلى الوصول إلى أسواق أكبر، وفي مقدمتها القطاعات الصناعية التحويلية التي تعتمد على المواد الأولية المتوفرة في سلطنة عُمان، وتستهدف خلق قيمة مضافة قبل التصدير.

ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جيو-اقتصادية عميقة تتجه فيها دول عديدة إلى تعزيز الاندماج الإقليمي والانفتاح على آسيا، ما يجعل توقيع الاتفاقية مع الهند خطوة تجسد فهمًا استراتيجيًا لموازين القوى الاقتصادية الجديدة. فالهند اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وضمن أكبر خمس اقتصادات عالمية من حيث الناتج المحلي الإجمالي؛ وبالتالي، فإن تأسيس شراكة اقتصادية شاملة معها يضع عُمان ضمن شبكة اقتصادية صاعدة ستعيد تشكيل مسارات التجارة خلال العقود المقبلة. ومن خلال هذه الشبكة، يمكن لسلطنة عمان أن تعمّق دورها كمركز إقليمي للتجارة والخدمات الصناعية، وأن تستفيد من الطلب الهائل في الهند على المواد الخام والمنتجات الصناعية والسلع الاستهلاكية.

وإذا ما نظرنا إلى تأثير الاتفاقية على الشركات الصغيرة والمتوسطة في عُمان، سنجد أن CEPA قد تكون فرصة تاريخية لهذه الفئة من الشركات لتوسيع آفاق أعمالها. فالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكل جزءًا أساسيًا من هيكل الاقتصاد الوطني، وتحتاج إلى بيئة تجارية تدعم منتجاتها وتمكنها من الوصول إلى أسواق جديدة. ومع تيسير الإجراءات الجمركية، وتخفيض الرسوم، وتسهيل النفاذ إلى الأسواق، يمكن لهذه الشركات أن تجد في السوق الهندية منفذًا واسعًا لتسويق منتجاتها، سواء في قطاعات الأغذية، أو المنسوجات، أو المنتجات العطرية، أو الصناعات التقليدية. وهذه النقلة يمكن أن تُسهم في خلق ثقافة تصدير أقوى، وترسيخ روح المبادرة، وتعزيز الابتكار داخل الشركات العمانية.

أما على مستوى الأمن الغذائي، فإن الهند ـ باعتبارها قوة زراعية ضخمة ـ يمكن أن تكون شريكًا استراتيجيًا لسلطنة عمان في تلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة. ومع تسهيل الاستيراد عبر CEPA، يمكن لعُمان أن تؤمن سلة غذائية متنوعة بأسعار تنافسية، ما يرفع من مستوى الاستقرار الغذائي ويعزز من قدرة السوق المحلي على مواجهة تقلبات الأسعار العالمية. وفي المقابل، يمكن للمنتجات العمانية الفريدة - مثل التمور واللبان ومنتجات الرخام - أن تجد طريقها إلى منافذ البيع الهندية بطريقة أكثر سلاسة، وهو ما يشكل مكسبًا اقتصاديًا وثقافيًا في آن واحد. ومع توسع المبادلات التجارية وتحسن كفاءة سلاسل الإمداد، ستصبح عُمان مركزًا لوجستيًا أكثر جاذبية للشركات العالمية التي تبحث عن نقطة ارتكاز بين آسيا وأفريقيا والخليج. ويمثل هذا التحول فرصة كبيرة للقطاع الخاص العماني الذي يمكنه استثمار هذا الموقع عبر إنشاء مراكز تخزين وتوزيع حديثة، وتطوير شبكات نقل، وإطلاق خدمات لوجستية متقدمة تدعم التجارة العابرة للقارات. وهذا التحسين في أداء الموانئ والمناطق الحرة سيؤدي إلى دوران اقتصادي أسرع داخل سلطنة عمان، ويُعزّز إيرادات الدولة من الأنشطة المرتبطة بالنقل والموانئ والجمارك والخدمات المساندة.

وفي ضوء هذه المعطيات المتداخلة، ومع ما تحمله المؤشرات الاقتصادية من دلالات واضحة على اقتراب مرحلة جديدة في العلاقات العمانية الهندية، تبدو سلطنة عمان أمام منعطف تاريخي يمكن أن يغيّر مسار اقتصادها خلال العقد المقبل. فكل الأرقام، وكل التوجهات، وكل السيناريوهات المستقبلية تشير إلى أن تفعيل اتفاقية CEPA لن يكون مجرد حدث اقتصادي عابر، بل نقطة انطلاق نحو دورة نمو أكثر نضجًا وجرأة وتنوعًا. ومن المتوقع، إذا ما سارت الأمور وفق الإيقاع الذي ترسمه اليوم المعطيات، أن تتضاعف التجارة الثنائية خلال سنوات قليلة، وأن تتجاوز حاجز 20 مليار دولار في منتصف العقد القادم، وربما تقترب من 30 مليار دولار خلال عشر سنوات، في حال استفادت سلطنة عمان إلى أقصى حد من مزايا التموضع الجغرافي والتكامل الصناعي مع الهند.

ولا تقف التوقعات عند حدود التجارة وحدها، بل تمتد إلى الصناعات التحويلية التي يُرجّح أن تشهد توسعًا ملحوظًا، خاصة تلك المعتمدة على المعادن والبتروكيماويات والمواد البنائية، إلى جانب فرص متنامية في الصناعات الخضراء والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الصناعية. ومع بروز الموانئ العُمانية كمراكز توزيع إقليمية، يتوقع أن تتسارع حركة الاستثمار في المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية الخاصة، بما يعيد تشكيل الخريطة اللوجستية في المنطقة، ويجعل من سلطنة عمان محطة رئيسية في سلاسل الإمداد بين آسيا والخليج وأفريقيا.

وعلى مستوى سوق العمل، تشير التقديرات المستقبلية إلى إمكانية خلق الوظائف النوعية التي يمكن أن تمنح الشباب العُماني فرصًا غير مسبوقة للاندماج في قطاعات صناعية وتقنية جديدة، وترفع من مستوى المهارات الوطنية، وتدعم مسار التوطين في القطاع الخاص. ومع اتساع رقعة التصنيع والتصدير، ستنشأ احتياجات موازية في قطاع الخدمات والتعليم والتقنية، ما ينتج دورة اقتصادية متكاملة ترفد بعضها بعضًا، وتُرسي قواعد نمو متواصل ومستقر.

أما على المدى الطويل، فإن تفعيل الاتفاقية قد يمهد لمرحلة يصبح فيها الاقتصاد العُماني أكثر قدرة على مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر استعدادًا لاستيعاب التحولات التقنية والبيئية والاقتصادية. ومع استمرار التنويع، وتوسّع الصادرات، وتعاظم دور سلطنة عمان كمركز لوجستي محوري، يمكن لعُمان أن تنتقل من موقع المنافس الإقليمي إلى موقع اللاعب الفاعل في التجارة الدولية. وقد نشهد خلال عشر سنوات اقتصادصا عمانيًا متجددًا، واسع القاعدة الإنتاجية، متصلًا بشبكات التجارة العالمية، ومتقدمًا بخطى ثابتة نحو تحقيق رؤية عُمان 2040 بوصفها رؤية طموحة لاقتصاد مرن، مبتكر، ومستدام.

من الناحية النوعية، يشير هذا النمو إلى زيادة الصادرات غير النفطية، حيث من المتوقع أن تستفيد قطاعات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألومنيوم، الأسمنت، الرخام، اللبان، والتمور من تحسن سلاسل التوريد وفتح الأسواق الهندية. النمو في هذه القطاعات، الذي بدأ يظهر بالفعل في بيانات 2025، يعكس قدرة الاقتصاد العُماني على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط. عمليا، إذا ارتفعت الصادرات غير النفطية بمعدل يتراوح بين 6% و12% سنويا نتيجة النفاذ إلى السوق الهندي وتحسين اللوجستيات، فإن هذا سيترجم إلى زيادة ملموسة في حصيلة التبادل التجاري الكلي.

تحقيق السيناريو التفاؤلي يتطلب مجموعة من العوامل التمكينية، أبرزها تسريع عمليات التصديق والتوقيع والتنفيذ للاتفاقية مع وضع آلية متابعة مشتركة لضمان تطبيق بنود التفضيل الجمركي وإزالة العوائق الإجرائية. كما يشمل تطوير البنية التحتية اللوجستية للموانئ والمناطق الحرة ومرافق التخزين والتبريد وطرق الربط الداخلي لالتقاط الطلب المتزايد.

كذلك، تعد الحوافز الاستثمارية للقطاعات ذات القيمة المضافة وبرامج التدريب الفنيّة من العناصر الأساسية لضمان استدامة النمو الصناعي. إضافة إلى ذلك، فإن إقامة تحالفات تجارية وشراكات تسويقية مع موزعين هنود يسهم في تسهيل النفاذ إلى الأسواق الهندية على مستوى المدن والمناطق، بينما تتيح حزم الدعم للصادرات الصغيرة والمتوسطة وصول المنتجات العُمانية إلى رفوف السوق الهندي بفعالية وجودة تنافسية.

بشكل عام، تشير هذه التقديرات إلى أن تفعيل CEPA يشكل فرصة استراتيجية لعُمان لتعزيز التجارة الثنائية، تنويع الاقتصاد، جذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل واسعة، ما يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتقليل الاعتماد على النفط، مع تعزيز قدرة سلطنة عمان على تأدية دور متنامٍ في التجارة الإقليمية والدولية.

مقالات مشابهة

  • تركيا تستضيف 3 قمم دولية كبرى عام 2026
  • منظمات أممية وإغاثية لـ«الاتحاد»: تحديات إنسانية غير مسبوقة تواجه السودان
  • شريف الجبلي: صناعة البلاستيك تواجه تحديات نسعى لحلها بالتعاون مع وزارة البيئة
  • البانة بعبري.. بلدة الأفلاج العريقة وواحة التاريخ والطبيعة
  • خبير سياسي: مصر الوحيدة التي تواجه المشروع الدولي لتقسيم سوريا وتفكيك الدولة
  • حملة مخاطر الأنواء المناخية وأمواج تسونامي تؤكد رفع الجاهزية للحالات الطارئة
  • قيادة عُمانية لحدث عالمي
  • اللجنة العُمانية القطرية المشتركة تستعرض مسارات تعزيز التعاون الثنائي
  • تواصل فعاليات الحملة الوطنية للتوعية من مخاطر الأنواء المناخية وأمواج تسونامي
  • اتفاقية الشراكة الاقتصادية العُمانية - الهندية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العماني