في مقطع فيديو ، تداولته منصات التواصل الاجتماعي في السودان، ظهر عقيد شرطة يُعتقد أنه مدير شرطة جبل أولياء، يخاطب جنوده أثناء طابور التمام ، متحدثًا بنبرة تمزج بين الصرامة وروح الدعابة عن أهمية الالتزام بالزي الرسمي والمظهر الشرطي الذي ألفه الناس. قال: “البوت دا جبنا ليك تلبسو، نعم سخن لكن بعد شوية كراعك بتتعود عليه ، وهو بالمناسبة فيه الشفاء من تشقق الكرعين”، لقيت العبارة رواجًا واسعًا وتقديرا كبيراً.

خلف هذه العبارة البسيطة، تختبئ دلالة كبيرة تؤكد عودة الشرطة إلى الميدان مسلحة بالانضباط والالتزام و هيبة الدولة.

تزامن هذا الظهور مع بدء انتشار الشرطة في مواقع حيوية بالعاصمة الخرطوم، خلال أيام عيد الأضحى المبارك النضرة وفي مقدمتها الجسور، التي استُعيد تأمينها رسميًا من الجيش لصالح قوات الشرطة. إعلان وزير الداخلية المكلف المدير العام، الفريق أول شرطة خالد حسان محيي الدين، عن هذا التحول، يعتبر رسالة واضحة بأن المرحلة المقبلة تسير نحو تثبيت الطابع المدني، لا العسكري للسلطة. فالدولة الآن تعود من خلال مؤسساتها النظامية التي تشغل مواقعها الطبيعية وتعيد فرض القانون بطريقة تؤكد علي طمأنة المواطن واستعادة أمنه.

توجيهات وزير الداخلية للقوة الشرطية بـ”حسن التعامل مع المواطنين والتحلي باليقظة” تُقرأ كتعليمات ميدانية مستدامة ، بجانب أنها بيان سياسي يحمل مضمونًا إصلاحيًا وتأسيسا لمرحلة قادمة. فالدولة التي خرجت من فظاعة الحرب، الآن تُعيد بناء شرعيتها عبر العدالة والانضباط. وهنا تتجلى أهمية أن تكون الشرطة، داعمة لاستعادة الأمن وتحقيق السلام، و انسياب الخدمات.

في هذا السياق، بحسب “سونا “عادت غرفة المعلومات المركزية التابعة للشرطة إلى العمل من داخل العاصمة، بعد تعرضها للنهب خلال سيطرة المليشيا على الخرطوم. ومعها بدأت الأجهزة الجنائية تنفيذ حملات نوعية مثل تلك التي استهدفت سوق صابرين اول امس ، حيث تم ضبط عدد من معتادي الإجرام، في خطوة تعكس القدرة على تنفيذ مهام أمنية منعية. هذه العودة التدريجية تعبّر عن استعادة السيطرة، بجانب محاولة منهجية لاستعادة الثقة، خصوصًا أن المجتمع السوداني ما زال يداوي جراحه من انتهاكات واسعة ارتكبتها مليشيا الدعم السريع خلال الأشهر الماضية.

معالم هذه العودة الواثقة ظهرت جليًا في تقرير المنظمة الدولية للهجرة (IOM) الصادر في 6 يونيو 2025 أشار إلى عودة أكثر من 1.1 مليون نازح إلى مناطقهم في الخرطوم وسنار والجزيرة في أقل من ستة أشهر. عودة بهذا الحجم، تعني ضمنيًا أن المواطن بدأ يرى في الدولة مظلة آمنة. غير أن هذا الاستقرار الأمني بحاجة إلى جهد موازٍ على مستوى الخدمات، وهو ما بدأت بعض مؤشرات ظهوره في زيارات ميدانية لوالي الخرطوم لعدد من المرافق الحيوية، وتشغيل محطات المياه والكهرباء ، وتعهده بإعادة تشغيل المشروعات الزراعية ضمنها الجموعية الزراعي الذي يخدم عشرات القرى.

اقتصاديًا عادت الحياة تدريجيًا إلى أسواق العاصمة، رغم آثار الحرب المفجعة، ما يدل على تعافي في الدورة التجارية. ومن هنا يبرز المشروع الأكبر الذي تطمح له الدولة : تحويل مطار الخرطوم إلى مركز عبور إقليمي. هذه الرؤية التي تدعمها منظمات دولية مثل ICAO تعتبر بمثابة خطة تطوير ضمن سياق إعادة الإعمار، كما أنها رهان على موقع السودان الجغرافي الذي قد يتحول إلى مصدر قوة اقتصادية واعدة، إذا ما توفرت له بيئة آمنة وتشريعات محفزة وبنية تحتية جيدة.

لذلك في هذا المشهد، وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة لم يعد البوت مجرّد مكمل للزي الشرطي، بل أصبح رمزًا لتحوّلٍ من فوضى السلاح إلى انضباط الدولة، ومن عشوائية الميليشيا إلى هيبة القانون. إن عودة الشرطة ، تمثل بداية عبور نحو دولة ينشدها السودانيون: دولة عدلٍ ومؤسسات، تُبنى بإرادة أهل السودان و تتجاوز الجراح . ما نشهده من تحسّن أمني خلال هذه الأيام يؤكد بأن الوطن بدأ يسترد أمنه وعافيته . فالسلام كما نعلم يُصنع في الشوارع، في المدارس، في الخدمات في تفاصيل الحياة اليومية. وهكذا، يمضي السودان بخطى واثقة نحو استعادة البلاد والسيادة وهيبة الدولة ، بالفعل الوطني المتجذّر في أرضه وصلابة أهله.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الاحد 8 يونيو 2025 م [email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

“حيحا” عودة مسرحية إلى التراث المغربي بروح معاصرة

الثورة نت /..

تقدّم فرقة مسرح البساط عملها الجديد “حيحا” في عودة إلى جذور الحكاية المغربية، مع إعادة صياغتها بلغة مسرحية تستحضر الذاكرة الشعبية وتمنحها أفقاً جديداً. العرض، الذي قُدّم الأسبوع الفائت بمسرح سيدي بليوط بالدار البيضاء ضمن مهرجان الأصيل الوطني للفن والثقافة، يستلهم تراث البساط والحلقة وعبيدات الرمى، ويحوّله إلى بناء درامي يشرك المتفرج في قلب الحكاية.

تبدأ المسرحية في السوق الأسبوعي، مسرح الحكواتيين التقليدي. يصل أربعة حكواتيين ويتنازعون أسبقية افتتاح الحلقة، فيلجأون إلى طقس بسيط لحسم الخلاف: يضع كل منهم بَلْغَته (حذاء تقليدي) في كيس واحد، ويُترك لمتفرج من الجمهور اختيار واحد. بهذا الفعل العفوي، يعيد المخرج عبد الفتاح عشيق تشكيل العلاقة بين الخشبة والقاعة، ليصبح الجمهور شريكاً في صناعة الحكاية لا مجرد متلقٍّ لها.

تستعيد المسرحيةُ أسماء حكواتيين سكنت الذاكرةَ الجماعية؛ مثل: لمسيح والكريمي وزروال ولبشير. هي أسماء تنتمي إلى فضاءات بدت في طريقها إلى الأفول، من جامع الفنا إلى ساحة الهديم وساحة تارودانت، تستحضرها “حيحا” بوصف أصحابها علامات دلالية على زمن كان الحكي فيه فعلاً يُرمّم الوجدان ويمنح المعنى للمهمّشين.

من خلال أربع حكاياتٍ تتوازى في خطاباتها وتتشابك في رموزها، تبني المسرحية عالماً يتداخل فيه العبث مع النقد الاجتماعي. وفي هذا العالم، تظهر إحدى الحكواتيات التي تُمنع من تقديم رقمها، في إقصاء لصوتها، فتبقى في الانتظار على هامش الحلقة. هذا الإقصاء يفتح الباب لقراءة رمزية عميقة، فالمرأة التي تُؤجل حكايتها ليست سوى صورة لصوت مُعطَّل، لحضور يُراد له أن يُهمَّش، وكائن يترك خارج دائرة الاعتراف.

مشهد أخير يتحوّل فيه الانتظار الطويل إلى حدثٍ مفصلي

تبلغ المسرحية ذروتها في مشهدها الأخير، حين يتحوّل الانتظار الطويل إلى حدثٍ مفصلي. تُزف الحكواتية نفسها، التي ظلّت مؤجَّلة، إلى أحد الحكواتيين في عرس مغربي تراثي يستعيد الطقوس في صفائها البدائي؛ زغاريد، رقصات وإيقاعات الرمى، وأهازيج تفتح باب الفرح على مصراعيه. يتحول الختام بذلك إلى لحظة استرجاع للحق في الحكي، وكأن العرض يعلن أن الحكاية التي حاول البعض إسكاتها ستجد طريقها مهما طال الزمن.
تتشكل اللوحة بفضل أداء جماعي وسينوغرافيا بُنيت على رؤية تجعل الحلقة مركز الفعل المسرحي، تحيطها مرايا تعكس حركة الجسد والصوت، وتفتح لها ممرات محفوفة بالضوء والموسيقى التي صاغها رضى مساعد، فيما أضفت صفاء كريث من خلال الأزياء، وعبد الرزاق أيت باها من خلال الإضاءة، طبقات جمالية أثرت الفضاء الدرامي.

كل ذلك تحت إشراف عبد الفتاح عشيق، مؤلف ومخرج العمل، الذي يقول”: “حاولتُ، رفقة فريق العمل، جعل التراث يتكلّم من جديد بلغته القديمة وروحه المعاصرة، فكان. أردنا للحلقة أن تستعيد مكانها الطبيعي؛ فضاءً يُنصف الحكاية ويُعيد للإنسان حقَّه في أن يسمَع قبل أن يرى”

مقالات مشابهة

  • د.نزار قبيلات يكتب: العربية والموسيقى والشعر
  • عبر الخريطة التفاعلية.. ما أهمية المنطقة التي وقع فيها كمين تدمر؟
  • الحباشنة يكتب..مجلس النواب أمام اختبار ضبط الخطاب وحماية استقرار الدولة
  • “حيحا” عودة مسرحية إلى التراث المغربي بروح معاصرة
  • مدبولي يؤكد دعم الدولة لمختلف المشروعات الثقافية المتنوعة التي تستهدف تقديم الخدمات خاصة للشباب والنشء
  • ماذا تغير في تركيا بعد عام من بدء عودة السوريين إلى بلادهم؟
  • ماراثون مصر الخير بالأقصر.. احتفالات العيد القومي تتجمل بروح التطوع
  • د.حماد عبدالله يكتب: الاستثمار هو الحل !!!
  • عودة قوية لصناعة المركبات.. النصر للسيارات في صدارة خطة الدولة لتنشيط الصناعة وتشغيل المصانع
  • خبير سياسي: مصر الوحيدة التي تواجه المشروع الدولي لتقسيم سوريا وتفكيك الدولة