تهميش النخب في الأردن: إقصاء العقول وتعطيل المستقبل
تاريخ النشر: 12th, June 2025 GMT
#تهميش_النخب في #الأردن: #إقصاء_العقول و #تعطيل_المستقبل
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
يمر الأردن اليوم بلحظة حرجة في تاريخه السياسي، تتقاطع فيها التحديات الاقتصادية والاجتماعية مع أزمة صامتة، لكنها عميقة وفاعلة: أزمة تهميش النخب وإقصائها من المشهد العام. هذه الأزمة، التي تتجذّر بصمت منذ سنوات، باتت تعرقل إمكانية الإصلاح الحقيقي، وتغلق نوافذ التحديث، وتعمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والمواطن، وبين الخطاب والواقع.
لقد أدت السياسات المتراكمة إلى تغييب النخب السياسية والفكرية التي تمتلك رؤية وطنية نقدية ومسؤولة، نخب كان بإمكانها أن تقود المجتمع في لحظات التحول، وأن تسهم في تشكيل وعي جمعي ناضج، يعيد الثقة بالعملية السياسية. إلا أن تلك النخب وجدت نفسها، عبر آليات مقصودة، خارج دائرة الفعل، تُستبعد من مواقع القرار، وتُقصى من الحضور الإعلامي، وتُهمّش في التشريع والتنفيذ، حتى غدت بلا دور، أو أُجبرت على الصمت أو الانسحاب.
مقالات ذات صلةفي المقابل، جرى تمكين نخب بديلة لا تحمل بالضرورة كفاءة سياسية أو فكرية، وإنما تمتلك مواصفات الولاء، وتُجيد البقاء في الظل دون مساءلة أو طموح في التغيير. وهذا التحول البنيوي لم يكن عبثيًا أو عرضيًا، بل جاء نتيجة لتراكمات قانونية وإدارية، أبرزها النظام الانتخابي الذي صُمّم بشكل لا يتيح للتيارات الوطنية المنظمة أن تصل إلى البرلمان، ولا يسمح للقيادات الحقيقية أن تعبّر عن قواعدها الاجتماعية بصورة حرة وفاعلة. فبدلًا من أن يكون البرلمان منبرًا للنقاش السياسي وإنتاج السياسات العامة، تحوّل إلى ساحة للمصالح الفردية والمناطقية، وغابت عنه روح المصلحة الوطنية.
إن تهميش النخب لا يعني فقط إبعاد أشخاص عن مواقعهم، بل يعني قبل كل شيء تعطيل العقل السياسي الوطني، وتفريغ الدولة من طاقتها النقدية، وكفاءتها المؤسسية. الدولة الحديثة لا تُبنى بالمجاملات ولا تدار بالشعارات، بل تحتاج إلى رجال دولة حقيقيين، وإلى مفكرين يحملون مشروعًا، لا مجرد موقع. النخبة ليست فئة متعالية أو معزولة عن المجتمع، بل هي الطبقة الواعية التي تُعبّر عن وجدان الناس، وتملك أدوات التفكير الاستراتيجي، وتُحسن صياغة المستقبل بعيدًا عن التكتيك اللحظي وضغوط اللحظة.
غياب هذه النخب عن مواقع التأثير أدى إلى حالة من الشلل السياسي، حيث تتكرر الأزمات دون حلول، وتتفاقم المشاكل دون مساءلة، ويُعاد إنتاج الفشل بصيغ مختلفة. المواطن فقد الثقة، ليس فقط في العملية السياسية، بل في جدوى المشاركة برمتها، لأن الخيارات المتاحة لا تُمثله، ولا تُشبهه، ولا تعبر عن طموحه في العدالة والكرامة والتنمية. نحن لا نعاني من نقص في الكفاءات، بل من تغييب مُمنهج لها، ومن إقصاء كل من يمتلك الجرأة على التفكير المستقل، أو الطموح في بناء وطن مختلف.
إن استمرار هذه السياسات لا يؤدي إلا إلى مزيد من التكلس، ومزيد من العزلة، ومزيد من الاحتقان الصامت الذي لا يلبث أن يتحول إلى سخط عام. لا يمكن أن نبني دولة قانون ومؤسسات، أو نُنجز إصلاحًا حقيقيًا، دون أن نعيد الاعتبار للنخب الوطنية، ودون أن نمنحها المساحة الآمنة والعادلة للمشاركة والتأثير. التغيير يبدأ بإعادة الاعتراف بقدرة العقول لا العناوين، وبجدارة الفكر لا المجاملات، وبأن الاستقرار الحقيقي لا يأتي من إسكات الأصوات، بل من إشراكها في صياغة المستقبل.
اللحظة الراهنة تستدعي وقفة جادة مع الذات، ومراجعة شجاعة لخياراتنا السياسية، فالدول لا تُقاس فقط بعدد الطرق والمشاريع، بل بنوع النخب التي تديرها، وبمدى احترام العقل والكفاءة والاختلاف. ولعل أول الطريق يبدأ من الاعتراف بأن النخب التي أُقصيت عن المشهد لم تكن عبئًا، بل كانت فرصًا ضُيّعت في لحظة كان الوطن أحوج ما يكون إليها.
???? عن الكاتب:
أ.د. محمد تركي بني سلامة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك، وباحث متخصص في شؤون الإصلاح السياسي والحوكمة في الأردن. له العديد من المؤلفات والأبحاث المحكمة التي تناولت التحول الديمقراطي، المشاركة السياسية، ومأزق النخب في السياق الأردني، ويُعد من أبرز الأصوات الأكاديمية الناقدة للسياسات العامة في المملكة.
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
إسرائيل على حافة الانفجار السياسي
"حلّ الكنيست بأمر من كبار الحاخامات".. جملة قالها وزير الإسكان الإسرائيلي مؤخرًا، لكنها دوّت كطلقة تحذير وسط مشهد سياسيّ مشحون.
في إسرائيل، حيث السياسة تُدار على الحافة دائمًا، كان هذا الإعلان بمثابة تذكير جديد بأن الأزمات هناك قلّما تجد لها حلولًا مستقرة.
ورغم صخب التصريحات الرسمية، يدرك العارفون بخفايا اللعبة الإسرائيلية أن الصورة الحقيقية لا تُرسم تحت أضواء قاعة الكنيست، بل في كواليس غارقة بالتسويات، حيث تُطبخ الاتفاقات على نار هادئة، بينما يتسابق الوسطاء لشراء الوقت وتفادي الانفجار.
الساعات الأخيرة شهدت مشهدًا دراماتيكيًا: من جهة تهديدات متكررة بحلّ الكنيست والدعوة لانتخابات مبكرة؛ ومن جهة أخرى تسريبات عن "أجواء إيجابية" ومفاوضات محمومة يقودها يولي أدلشتاين، رئيس لجنة الخارجية والأمن، في محاولة يائسة لوقف الانهيار.
وسط هذه الأجواء، تبدو إسرائيل وكأنها تمارس رقصة توازن مستحيلة بين أطراف ائتلاف هشّ، وبين مجتمع حريدي يتوجس من دفع أثمان سياسية أمام قاعدته لو اضطر إلى التنازل.
التهديدات.. من يخاطب مَن؟حين رفع وزير الإسكان راية حلّ الكنيست، كان يدرك جيدًا أن جمهوره الحقيقي ليس بين جدران الحكومة، بل في أوساط القواعد الحريدية التي تراقب كل خطوة.
إعلانهذه القواعد تطالب بحماية الامتيازات التاريخية وفي مقدمتها الإعفاء من الخدمة العسكرية، الذي يُعدّ بالنسبة لها مسألة هوية وكرامة دينية.
في المقابل، الشارع الإسرائيلي يشهد تصاعدًا غير مسبوق في الضغوط المطالبة بفرض التجنيد الكامل على الجميع.
وقد جاء قرار المحكمة العليا الأخير ليُضفي مزيدًا من التعقيد على هذا الملف الحارق. هكذا، وجدت الأحزاب الحريدية نفسها عالقة بين خيارين كلاهما مُرّ: القبول بتسوية تُعرّضها لانتقادات قاعدتها الصلبة، أو دفع البلاد نحو انتخابات مبكرة في توقيت شديد الحساسية.
لكن الصورة أبعد عمقًا مما تبدو عليه. فقيادات بارزة داخل الأحزاب الحريدية، كما أشار الصحفي شاحار غليك وآخرون، تُدرك أن الانتخابات المبكرة قد تهدد وجودها السياسي ذاته، وتُربك حساباتها في مشهد يتغير بسرعة.
أدلشتاين.. وسيط على حبل مشدودوسط هذه التعقيدات، برز يولي أدلشتاين كرقم صعب في المعادلة. ليس مجرد رئيس لجنة في الكنيست، بل وسيط سياسي بين الحريديم، ودوائر القرار في حزب الليكود.
مصادر عبرية مطّلعة تحدثت عن مفاوضات مكثفة يقودها أدلشتاين، وسط انفتاح حذر من قادة "يهدوت هتوراة" لقبول تسوية تحفظ ماء الوجه.
رهان أدلشتاين واضح: تمرير صيغة تُجنّب حلّ الكنيست في اللحظة الأخيرة، دون إثارة غضب الشارع العلماني، أو كسر تعهدات الحريديم لجمهورهم.
لكن مهمته ليست سهلة، بل محفوفة بالألغام السياسية. فالحاخامات باتوا يمارسون إشرافًا مباشرًا على مسار المفاوضات، مما يعقّد كل خطوة، ويُصعّب أي محاولة للوصول إلى تسوية مرضية لجميع الأطراف.
لماذا الآن؟في عمق الأزمة الراهنة يكمن سؤال جوهري: إلى أي مدى يمكن للمجتمع الحريدي الاستمرار في فرض معادلاته على دولة تعاني انقسامات داخلية حادة؟
ليس توقيت هذه الأزمة محض صدفة. فملفات مثل الإصلاح القضائي والتجنيد الإجباري أعادت رسم خطوط الصدع داخل الحكومة، وكشفت عمق الهوة بين مكونات الدولة.
إعلانالحديث عن حلّ الكنيست ليس مجرد أداة ضغط تكتيكية هذه المرة. بل هو انعكاس لصراع أشمل بين الهوية الدينية للدولة وبين مؤسساتها المدنية، صراع بلغ ذروة جديدة قد يكون من الصعب احتواؤها.
تسوية أم انفجار؟رغم المؤشرات الإيجابية التي رشحت مؤخرًا عن تقدم في المفاوضات، فإن الخطر لم يزُل. الحريديم بحاجة إلى مخرج مشرّف أمام جمهورهم. أدلشتاين يسابق الزمن لصياغة تسوية تُبقي الحكومة قائمة.
أما نتنياهو، فهو كعادته يناور بين الجميع، مدركًا أن تفكك الائتلاف في هذه اللحظة قد يُربكه سياسيًا في ظل بيئة داخلية وإقليمية مضطربة.
السيناريو الأكثر ترجيحًا؟في ساعات فجر اليوم، ذكرت القناة 14 الإسرائيلية أن مقترح حلّ الكنيست الذي تقدّمت به قوى المعارضة لم ينجح في الحصول على الأغلبية المطلوبة، إذ صوّت ضده 61 نائبًا.
هذا بعدما أعلنت الكتل الدينية المتشددة (الحريديم) معارضتها مشروع القرار، وذلك في ضوء ما أعلنه رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، يولي إدلشتاين، بشأن التوصّل إلى تفاهمات أولية تتعلق بمسودة قانون التجنيد الإجباري.
ومع ذلك فإن هشاشة المعادلة السياسية لن تختفي، بل ستُرحّل إلى الجولة القادمة من الصراع.
دروس من التاريخما يحدث اليوم يعيد إلى الأذهان أزمات مشابهة في تاريخ السياسة الإسرائيلية. لعل أبرزها أزمة 1990 التي أطاحت بحكومة الوحدة الوطنية.
آنذاك، كان ملف السلام هو محور الخلاف؛ أما اليوم، فالهوية العميقة للدولة هي التي تهتز أمام أعين الجميع.
وإن كان ثمة درس ثابت في المشهد الإسرائيلي، فهو أن الائتلافات المتجانسة ليست بالضرورة "متجالسة" ، إذ لا تنعم باستقرار طويل الأمد.
بل تعيش حالة دائمة من الهشاشة تحت ضغط الملفات الكبرى والصراعات الداخلية.
أسئلة مفتوحةهل تستطيع الأحزاب الحريدية مواصلة سياسة الابتزاز السياسي بلا ثمن؟
حتى الآن، نعم، لكن يبدو أنها تقترب من سقف القدرة على ذلك.
إعلانلقد لعبت الأحزاب الحريدية لعقود دور "بيضة القبان" في الحكومات الإسرائيلية.
لكن المعادلة تتغير: الشارع العلماني أكثر تنظيمًا واحتجاجًا، المحكمة العليا مصممة على فرض التجنيد، والجيش نفسه بات يُضغط باتجاه إنهاء الإعفاءات الجماعية.
كل جولة ابتزاز تكلّف الأحزاب الحريدية جزءًا من شرعيتها.
والسؤال: متى ستضطر الأحزاب الكبرى – وربما الليكود ذاته – إلى القبول بتحالفات جديدة لا تشمل الحريديم؟
ما مدى قدرة أدلشتاين على الاستمرار كوسيط فعّال؟
اليوم، أدلشتاين في ذروة نفوذه السياسي. هو شخصية مرنة تحظى باحترام واسع في الليكود، وغير محسوب بالكامل على نتنياهو. لكن هذه القدرة ليست أبدية.
لو تصاعد الصراع واضطر الحاخامات إلى تصعيد علني، قد يُتهم أدلشتاين بأنه "يتلاعب بالمقدسات"- تهمة ثقيلة في الشارع الحريدي. أي ورقته قوية الآن، لكنها قد تحترق سريعًا لو فشلت التسوية.
هل ستبقى ورقة "حلّ الكنيست" مجرد تهديد؟ حتى اللحظة، نعم.
الحريديم لا يريدون انتخابات مبكرة، وهم يدركون أن مثل هذه الانتخابات قد تُضعف مكاسبهم.
لكن هذا التهديد قد يتحول إلى واقع في حال واحدة: إذا فُرض التجنيد بقوة تشريعية صارمة لا يستطيعون تبريرها أمام جمهورهم.
عندها، سيكون حلّ الكنيست آخر ملاذ، رغم كلفته الباهظة.
في نهاية المطاف، دولة بلا ترف الاستقرار
نحن أمام معركة مفتوحة بين قوة الحاخامات وحسابات السياسة.
قد ينجو الكنيست من الحلّ، لكن الكلفة كانت وستبقى باهظة: المزيد من الهشاشة في ائتلاف هشّ بطبيعته.
ورقة "حلّ الكنيست" ما تزال مرفوعة على الطاولة. الجميع يشهرها، لكن لا أحد يريد أن يُطلق النار أولًا.
في هذا المشهد المتقلب، لا تملك إسرائيل ترف الاستقرار. كل تسوية اليوم مؤقتة، وكل تهديد قد يتحول إلى واقع في أي لحظة.
ويبقى السؤال معلقًا: إلى متى تستطيع الدولة أن توازن بين قوة التوراة وصوت البندقية دون أن تنفجر؟
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline