العقل والروح.. طه عبد الرحمن وسؤال الأخلاق في مشروع النهضة (2)
تاريخ النشر: 12th, June 2025 GMT
"إذا لم يكن الفكر متخلِّقًا، فهو آلة في يد المستبدّ" ـ طه عبد الرحمن
في تسعينيات القرن الماضي، كنت طالبًا شغوفًا بين مدرجات جامعتي القاضي عياض بمراكش ومحمد الخامس بالرباط، أتنقّل بين النصوص الأدبية والمباحث اللغوية، وأصغي بلهفة إلى أساتذة كانوا بدورهم منخرطين في النقاش العربي الكبير حول شروط النهضة ومعناها.
وقد سمح لي وجودي داخل الجامعة لا فقط بمتابعة هذا الجدل من موقع القارئ المهتم، بل بالانخراط المباشر فيه، من خلال النقاشات الفكرية داخل قاعات الدرس، وبين الزملاء، وفي هوامش الكتب التي كنا نقرؤها بشغف. كنت، ككثيرين من جيلي، مأخوذًا بدهشة الاكتشاف: بين الجابري الذي يزيل الغبار عن طبقات العقل العربي، وطه الذي يذكّرنا بأن هذا العقل لا يكتمل بدون قلبٍ ينبض بالقيم. وبين الإثنين، كانت الأسئلة تتكاثر، وتتعمق: هل مشكلتنا مع العقل أم مع الروح؟ مع التراث أم مع الحداثة؟ مع المعرفة أم مع الأخلاق؟ وكنت أشعر ـ في لحظات كثيرة ـ أن الجواب لا يكمن في أحدهما دون الآخر، بل في المسافة الخصبة التي تفصل بين رؤيتيهما.
واليوم، بعد مرور ما يكفي من الزمن، أعود إلى تلك المرحلة لا باعتبارها مجرد ذكرى طلابية، بل بوصفها لحظة تأسيس، شكّلت وعيي الفكري ووجهت اهتمامي إلى سؤال النهضة لا كمطلب سياسي أو ثقافي فحسب، بل كسؤال وجودي عميق: كيف نفكر؟ وبأي روح؟ ومن أين نبدأ ترميم هذا الإنسان العربي الذي أنهكته الأنساق وأعياه الفراغ القيمي؟
من نقد العقل إلى تزكية الفكر
بعد أن مررنا مع الجابري في نفق التفكيك النقدي لبنية العقل العربي، نصل الآن إلى ضفة أخرى من المشروع النهضوي، أكثر روحانية وأخلاقية، يمثلها المفكر المغربي طه عبد الرحمن.
في مقاربته، لا تكمن الأزمة في غياب العقل النقدي فحسب، بل في تفريغ العقل من بُعده القيمي. فالعقل الذي يُفكر دون تزكية، وينتج دون ضمير، يظل ـ في رأيه ـ عقلًا ناقصًا، قابلًا للاستلاب، بل وربما للعدمية.
يرى طه عبد الرحمن أن معظم مشاريع النهضة العربية ارتكزت على استيراد نماذج عقلانية غربية دون مساءلة "الأساس الأخلاقي" الذي يفترضه أي مشروع فكري. ولذلك فهو يدعو إلى ما يسميه "فلسفة الائتمان"، حيث لا يكون العقل منفصلاً عن الأخلاق، بل يكون مؤتمَنًا على المعنى، ومسؤولًا أمام الله والمجتمع، لا مجرد أداة لإنتاج المعرفة أو تبرير السلطة.
بين الجابري وطه.. العقل في ميزان القيم
بعكس الجابري، الذي مارس نقدًا عقلانيًا لبنية التراث، يذهب طه إلى ما هو أعمق:الجابري يفتش في الأنظمة المعرفية، وطه عبد الرحمن يفتش في النية، في المقصد، وفي البعد الروحي والأخلاقي للعقل.
في نقده للحداثة الغربية، لا يرفض طه أدواتها، بل يرفض فلسفتها النفعية وميلها إلى فصل الإنسان عن مصدر المعنى. فالحداثة كما يراها، جردت الإنسان من الروح، وحوّلت العقل إلى أداة حسابية مفرغة من أي التزام أخلاقي.طه لا يطرح بديلاً متزمتًا عن العقلانية، بل يقدم ما يسميه "العقل المؤيد"، وهو عقل لا يكتفي بالبرهان المنطقي، بل يستنير بالبصيرة، ويتغذى من قيم روحية تجعل من التفكير فعلًا أخلاقيًا مسؤولًا، لا مجرد تمرين ذهني أو تنظير محايد.
نقد الحداثة الغربية.. أزمة في المعنى
في نقده للحداثة الغربية، لا يرفض طه أدواتها، بل يرفض فلسفتها النفعية وميلها إلى فصل الإنسان عن مصدر المعنى. فالحداثة كما يراها، جردت الإنسان من الروح، وحوّلت العقل إلى أداة حسابية مفرغة من أي التزام أخلاقي. بينما في الفلسفة الإسلامية كما يتصورها، هناك وحدة عضوية بين الفكر والعمل، بين العقل والقلب، بين الحقيقة والقيمة.ولهذا، فإن مشروعه لا يسعى إلى تحديث سطحي، بل إلى نهضة جوهرية تُعيد تأسيس الحداثة على قاعدة أخلاقية وروحية متجذرة في الذات.
العلاقة مع التراث.. التجديد من الداخل
طه عبد الرحمن لا يُقدّس التراث، لكنه يرى أن كل تجديد لا ينبع من داخل المنظومة القيمية للأمة يبقى غريبًا، وعاجزًا عن التجذر أو الإقناع.
يدعو إلى:إعادة فهم المفاهيم الإسلامية الكبرى (مثل الحرية، العقل، الحكم، المسؤولية) من جذورها الفلسفية واللغوية الأصيلة. ورفض القطيعة مع التراث دون الوقوع في أسره.إنه يميز بوضوح بين "التقليد الأعمى" و"الاجتهاد الأصيل"، معتبرًا أن الاستنارة الحقيقية تأتي من تفعيل العقل في ضوء الأخلاق، لا من تقليد أنساق معرفية جاهزة.
نقد المشاريع الحداثية العربية
مارس طه عبد الرحمن نقدًا حادًا لبعض أعلام الفكر العربي المعاصر ـ وعلى رأسهم الجابري ـ معتبرًا أن كثيرًا من هذه المشاريع تعامل مع الدين كمعطى معرفي محض، وأفرغه من روحه التزكوية.وهنا تتجلى نقاط قوته: يرفض عقلنة الدين كما فعل بعض الحداثيين.ويرفض تديين السياسة دون تأسيس أخلاقي وروحي عميق.
طه لا يقبل بعقل منفصل عن الإيمان، ولا بإيمان بلا مسؤولية عقلية. إنه يقدم منظورًا توحيديًا يرى الإنسان كائنًا روحيًا وعقليًا معًا، ويعيد للفكر العربي بعده الوجودي الذي افتقده طويلًا.
هل يمكن تأسيس عقل أخلاقي؟
في زمن الأزمات السياسية والاقتصادية، قد تبدو دعوة طه عبد الرحمن أقرب إلى "ترف نظري" في أعين البعض. لكن الحقيقة أن أزمة الإنسان العربي اليوم لا تكمن فقط في بنى الحكم أو الاقتصاد أو المؤسسات، بل في بنية الضمير.
يرى طه عبد الرحمن أن معظم مشاريع النهضة العربية ارتكزت على استيراد نماذج عقلانية غربية دون مساءلة "الأساس الأخلاقي" الذي يفترضه أي مشروع فكري. ولذلك فهو يدعو إلى ما يسميه "فلسفة الائتمان"، حيث لا يكون العقل منفصلاً عن الأخلاق، بل يكون مؤتمَنًا على المعنى، ومسؤولًا أمام الله والمجتمع، لا مجرد أداة لإنتاج المعرفة أو تبرير السلطة.ولعل أعظم ما يقدمه مشروع طه هو هذا الوعي العميق بأن النهضة ليست مجرد مسألة تقنية أو إدارية، بل مسألة إنسانية تتطلب إعادة بناء الإنسان في عمقه: عقله وروحه معًا.
طه عبد الرحمن لا يمنحنا أجوبة جاهزة، بل يفتح أمامنا ورشة فكرية شاقة، تتطلب إعادة النظر في مفاهيمنا ومواقفنا وأسئلتنا الكبرى. مشروعه لا يسبح في التجريد، بل يضعنا أمام مرايا صادقة: هل نحن نفكر بعقولنا فقط؟ أم بأخلاقنا أيضًا؟ هل نريد نهضة تقنية؟ أم نهضة إنسانية شاملة؟
وهكذا، من تفكيك العقل عند الجابري، إلى تزكية الفكر عند طه، نكتشف أن الأزمة أعمق مما نظن، وأن التحرر لا يكون فقط من قيود الماضي، بل من فقر المعنى الذي يخنق حاضرنا.
وهكذا، من بين جدل العقل والروح، ومن بين سطور النقد والتزكية، نستعيد وعينا بسؤال النهضة لا بوصفه مشروعًا فكريًا وحسب، بل بوصفه محنة وجودية يعيشها الإنسان العربي في رحلته نحو المعنى. فإذا كان الجابري قد قادنا إلى عمق البنية، وطه عبد الرحمن قد نبهنا إلى نبل المقصد، فإن ما بينهما ليس صراعًا، بل حوار خصب يمكن أن يؤسس لمسار أكثر اكتمالًا.
ومن هناك، من غروب الوطن العربي، حيث انطلقت شرارة هذا التوتر الخلّاق، نمدّ أبصارنا نحو مشرقه، وتحديدًا إلى قطر، حيث يبرز اسم الدكتور نايف بن نهار، مفكرًا شابًا لا يقلّ حيوية ولا طموحًا، يُعيد مساءلة السلطة والمعرفة والدين في آن. في مشروعه، تنبض الأسئلة ذاتها، لكنها تُطرح في سياق مختلف، وعبر أدوات جديدة، تستدعي استكمال هذا المسار الفكري، لا بصفته حنينًا إلى الماضي، بل بحثًا مستمرًا عن الإنسان: عقله، وضميره، وحقه في المعنى.
في المقال المقبل، سنعبر إلى هذا الأفق، حاملين معنا تراث السؤال، ومترقبين كيف يتقاطع العقل والسلطة والدين في خطاب نايف بن نهار، لنواصل ـ بأمل ويقظة ـ هذا البحث العميق عن نهضة لا تبدأ من الأنظمة، بل من الإنسان ذاته.
المراجع:
ـ طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي
ـ طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق
ـ طه عبد الرحمن، روح الحداثة
ـ حوارات ومقالات منشورة
ـ دراسات نقدية حول مشروعه (انظر: رضوان السيد، سعيد شبار، عبد المجيد الصغير)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير العربي النهضة رأيه عرب رأي نهضة أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة طه عبد الرحمن
إقرأ أيضاً:
القصير: حزب الجبهة الوطنية سيكون صوت العقل والحكمة تحت القبة
أكد، السيد القصيرالأمين العام لحزب الجبهة الوطنية، أن حداثة تأسيس الحزب لا ينبغي أن تكون معيارًا للحكم عليه، موضحًا أن الحزب، رغم كونه حديث النشأة، يضم في هيئته التأسيسية 64 عضوًا من أصحاب الخبرات المتراكمة في مجالات متعددة، من بينهم وزراء سابقون، ورئيس سابق للبرلمان، وقيادات تنفيذية وتشريعية ذات تاريخ طويل في العمل العام.
وأضاف القصير، خلال حواره مع الإعلامي محمد شردي في برنامج “الحياة اليوم” على شاشة قناة الحياة، أن ما يميز حزب الجبهة الوطنية هو تكوينه النوعي وتعدد خبراته، التي اجتمعت لتقديم رؤية جديدة ومتكاملة للحياة السياسية، مشددًا على ضرورة أن يُقيَّم الحزب من خلال مضمونه ومخرجاته، لا من خلال عمره الزمني فقط.
وأشار إلى أن الحزب حرص منذ انطلاقه على عقد لقاءات موسعة وتحضيرية مع مختلف فئات المجتمع، بهدف أن تنبع برامجه من احتياجات المواطنين، وأن تعبّر عن مشكلاتهم وتطلعاتهم، لافتًا إلى أن الحزب استفاد من مخرجات الحوار الوطني ودمجها في مبادئه وأولوياته السياسية.
وأوضح القصير أن الحزب يتبنى نهجًا واضحًا يهدف إلى الإسهام في بناء حياة سياسية مستقرة، تقوم على تقديم حلول واقعية وتشريعات جادة تمس حياة المواطنين وتسعى إلى بناء مستقبل أفضل. وأكد أن حزب الجبهة الوطنية سيقدم نموذجًا محترمًا تحت قبة البرلمان، مشددًا على أن مشاركته البرلمانية تستهدف التأثير الإيجابي، وليس المغالبة.
وتابع: “قررنا منذ البداية أن نتحرك تدريجيًا ونشارك بعدد مدروس من المقاعد، لأن هدفنا هو تقديم نماذج ناجحة تُكسبنا ثقة الشارع، وتبرهن على قدرتنا على التعبير عن المواطن، وتقديم حلول عملية للقضايا الشائكة”، لافتًا إلى حرص الحزب على التنسيق مع الأحزاب والقوى السياسية المختلفة للوصول إلى أرضيات مشتركة.
وأشار الأمين العام إلى أن مشاركة الحزب ضمن القائمة الوطنية من أجل مصر، التي تضم 12 حزبًا بالإضافة إلى تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، تأتي من منطلق تغليب المصلحة الوطنية على الاعتبارات الحزبية الضيقة، مؤكدًا أن الحزب سيطرح من خلال تلك القائمة وجوهًا برلمانية تمثل الشارع المصري وتعبر عنه بجدية.
وأكد القصير أن الحزب لن يترك نوابه بمفردهم بعد الفوز، بل سيدعمهم من خلال 43 أمانة مركزية تضم كفاءات متنوعة وخبرات تراكمية، ستسهم في تمكين النائب من أداء دوره التشريعي والرقابي بكفاءة، مضيفًا: “سنعمل تحت قبة البرلمان كصوت للعقل والحكمة، وسنكون قريبين من الناس، وملتزمين بالتعبير عن تطلعاتهم”.