يمانيون / تقرير/ يحيى الربيعي

في تحول جيوسياسي استثنائي، باتت الجمهورية اليمنية محوراً لقصة صمود أسطورية، تتكشف فصولها في مياه البحر الأحمر وسماء الشرق الأوسط، لتعيد صياغة مفهوم القوة في القرن الحادي والعشرين. لم يعد اليمن مجرد طرف في صراع إقليمي، بل أصبح لاعباً استراتيجياً ذا تأثير عميق، يمتلك زمام المبادرة، ويرغم أعتى القوى العسكرية والاقتصادية، ممثلة بالولايات المتحدة والكيان الصهيوني، على إعادة تقييم مواقفها وتكتيكاتها، ليتحول الخوف إلى نصيبهم بعد أن كانوا يرهبون العالم.

لقد بدأت القصة، كما تُروى في كواليس الاستخبارات العالمية، بـ “قاذفات نووية وطائرة شبحية نفاثة وثلاث من أعتى حاملات الطائرات الأمريكية”. لم تكن تلك “حرباً عالمية ثالثة”، بل مواجهة “لم تصنعها واشنطن ولم ترسمها تل أبيب”. اجتمعت كل تلك القوة لـ “ردع حركة مسلحة ظهرت من أفقر بلدان العالم”، ويقصدون اليمن. لكن الطلقات الأولى من اليمن لم تكن مجرد صواريخ، بل “صفارات إنذار تدوي في قلب تل أبيب”، معلنةً بداية فصل جديد في هذه المواجهة الحاسمة. 

شريان العدو يختنق وقوة اليمن تتفوق

الضربات البحرية اليمنية في البحر الأحمر وباب المندب، التي أُعلنت بوضوح وفاعلية رسائل تحذيرية في عمليات استراتيجية محكمة ألحقت خسائر اقتصادية كارثية بالكيان الصهيوني. لم يقتصر الأمر على عرقلة الملاحة، بل امتد ليلامس صلب الشرايين الاقتصادية للعدو، ليجد نفسه أمام شلل غير مسبوق.

تلك الأيام التي كانت فيها الرحلات البحرية تستغرق 8 أيام فقط بين النقاط التجارية باتت ذكرى بعيدة. فاليوم، يجد الشحن البحري نفسه مضطراً لقطع مسافات تستنزف 45 يوماً كاملة، في تحول غير مسبوق أدى إلى شل حركة التجارة وأربك سلاسل الإمداد العالمية للكيان الصهيوني بشكل غير مسبوق. ومع كل يوم إضافي في البحر، كانت التكاليف تتضخم، لتنعكس مباشرة على أسعار السلع الواردة، التي ارتفعت بأكثر من خمسة أضعاف. هذا الارتفاع الجامح بالإضافة إلى كونه أرقاماً في تقارير اقتصادية، أصبح شعوراً م يومياً يثقل كاهل المستوطنين، ويكشف عن ضعف اقتصادي داخلي لم يكن الكيان الصهيوني يتوقعه، فصار الاقتصاد الإسرائيلي يتهاوى تحت وطأة هذه الإرادة اليمنية الصلبة.

ويقف ميناء إيلات، الذي يمثل 10% من اقتصاد الكيان في قطاع السيارات. هذا الميناء، الذي كان يعتبر شرياناً حيوياً، لم يكتفِ بإعلان “إغلاق غير معلن” في البداية، بل وصل إلى إغلاق كامل، ليجد أكثر من 10000 موظف أنفسهم فجأة بلا عمل. لقد كان هذا التكتيك اليمني، الذي استهدف نقطة ضعف حيوية بدقة متناهية، بمثابة ضربة قاصمة، تركت العدو في حيرة من أمره أمام هذا الشلل التام لأحد أهم موانئه.

الخسائر لم تتوقف عند هذا الحد. فتقديرات وزارة مالية العدو، بالتعاون مع مراكز أبحاثهم، كشفت أن الخسائر المباشرة وغير المباشرة تجاوزت 4.7 مليار دولار خلال أربعة أشهر فقط. هذا الرقم المهول فاق كونه إحصائية تضاف إلى رصيد الخسارة العامة، ليمثل صرخة استغاثة حقيقية من اقتصادٍ يتهاوى تحت وطأة الإرادة اليمنية.

ومع كل تصعيد، كانت شركات التأمين البحرية ترفع سقف المخاطر. فارتفعت تكلفة التأمين البحري بنسبة 500%، وهو ما أجبر شركات شحن عالمية عملاقة مثل “ميرسك” و”MSC” على اتخاذ قرار غير مسبوق بتحويل مسار سفنها نحو رأس الرجاء الصالح. هذا القرار، الذي يكلفها تريليونات إضافية من المال والوقت، هو بمثابة اعتراف صريح بفعالية الحصار اليمني، وقدرته الفريدة على فرض معادلات جديدة في حركة التجارة العالمية، بل وفي ميزان القوى الاقتصادي.

سماء العدو تحت السيطرة

لم تقتصر قصة الحصار اليمني على خنق شرايين التجارة للكيان الصهيوني في البحر، بل امتدت لتلامس الأجواء، حيث باتت المطارات الحيوية للعدو تعيش حالة من الشلل غير المسبوق، وتكشف حجم الخسائر التي تتكبدها القوى الكبرى في مواجهة إرادة يمنية لا تلين. فبعد أن ألقت العمليات اليمنية بظلالها الثقيلة على الملاحة البحرية، تحول التركيز ليعلن عن فصل جديد من السيطرة، هذه المرة في الأجواء.

في هذا الفصل الجديد، كان مطار بن غوريون، الشريان الجوي للكيان الصهيوني، هو الهدف الأبرز. لم تكن الصواريخ اليمنية تحتاج لضربات مباشرة دائمة، بل كانت صفارات الإنذار التي أطلقتها أجهزة الاستخبارات الجوية للعدو كافية لإحداث “تعطيل غير مباشر ومتوقع” لحركة الطيران المدني. وتحولت شاشات المطار المزدحمة إلى لوحات عرض لـ أكثر من 700 رحلة جوية ملغاة منذ بدء الحظر الجوي اليمني. هذا الشلل كان له أثر فوري، حيث ألغت 27 شركة طيران أوروبية رحلاتها إلى الكيان، تاركةً خلفها أكثر من 300 ألف تذكرة طيران غير مستخدمة.

ولعل من أبرز النتائج المدوية، هبوط عدد المسافرين عبر المطار من 60 ألفاً إلى 20 ألف مسافر يومياً، مما يعني أن 70% من المطار بات في حالة شلل تام. ويمتد التأثير ليشمل قطاع السياحة الذي تعرض لضربة قاصمة، حيث هبطت الحركة السياحية في تل أبيب بنسبة 80%، مخلفةً وراءها خسائر بلغت 3.4 مليار دولار. هكذا، حول اليمن سماء العدو من ممر آمن إلى ساحة حرب اقتصادية، كاشفاً عن هشاشة دفاعاتهم الجوية وقدراتهم على استيعاب الضربات.

مرونة وذكاء تكتيكي يتجاوز الضربات

في المقابل، وعندما وجه العدو غاراته المكثفة نحو موانئ ومطارات اليمن، بدا وكأنه يضرب في الفراغ، ليكشف عن مراوغة تكتيكية يمنية مدهشة في مواجهة العدوان. ميناء الحديدة، على سبيل المثال، الذي قصف بأكثر من 70 قنبلة أحفورية و90 غارة جوية، لم يتأثر بشكل كبير بقدرته التشغيلية. لماذا؟ ببساطة، لأن الميناء كان يعمل بنسبة 10% فقط قبل الهجمات الأخيرة، حيث تعرض لتدمير كامل في عدوان التحالف السعو-اماراتي. وقد كشفت تقارير، مثل ما نشرته صحيفة واشنطن بوست، أن الضربات الأمريكية-الصهيونية لم تهدف إلا إلى تدمير “بنى تحتية تم ضربها وتحييدها تكراراً ومراراً من العدوان السعو-اماراتي”.

أما مطار صنعاء الدولي، فرغم تقدير الخسائر التي لحقت به بنحو 500 مليون دولار، وشملت صالة الركاب، مبنى التموين، أجزاء من المدرج، وحتى ست طائرات مدنية (منها ثلاث تابعة للخطوط الجوية اليمنية، بالإضافة إلى تدمير آخر طائرة مدنية كانت تمتلكها في صنعاء)، إلا أن تأثير ذلك على الحركة الجوية المدنية يكاد يكون معدوماً. فالجمهورية اليمنية تعيش تحت حصار منذ عشر سنوات، ولا يوجد في أجوائها حركة جوية تذكر إلا للمنظمات والرحلات العلاجية المحدودة إلى الأردن. هذا الصمود لم يبرز القدرة على التحمل فحسب، بل هو ذكاء تكتيكي يمني في حماية البنية التحتية الحيوية، والحفاظ على القدرة على العمليات الأساسية حتى في أقسى الظروف.

أمريكا.. من شرطي العالم إلى حارس هارب

كان الدور الأمريكي في هذه المواجهة هو الأكثر كشفاً عن التغير في موازين القوى، وكيف أن القوة العظمى باتت ترتعد أمام صمود يمني لا يلين. فبعد أن أطلق الرئيس ترامب تهديداته بـ “الجحيم”، بدأت الولايات المتحدة في 15 مارس 2025 حملة جوية مكثفة ضد أنصار الله، مستخدمة أعتى قنابلها الخارقة للتحصينات من طراز GBU-57 التي تزن 27000 رطل، وطائراتها الشبحية B-2 وF-35 وF-18، وثلاث حاملات طائرات بقطعها الحربية. لكن النتائج كانت صادمة لواشنطن نفسها:

استشهاد أكثر من 600 مدني جلهم من الأطفال والنساء، ليس لدقة الضربات، وإنما بسبب “ضعف الاستخبارات الأمريكية في تحديد الأهداف وتوجيه الضربات”. مما جعل هذا الرقم يعكس فشلاً استخباراتياً ذريعاً كلف أمريكا ثمناً باهظاً في الأرواح البريئة والسمعة الاستخباراتية وفيما تدعيه من حماية لحقوق المدنيين. خسرت أمريكا مقاتلتين من طراز F-18، وتكبدت حاملات طائراتها أضراراً جسيمة، مع خسائر تشغيلية قدرت بـ مليار دولار. هذه الأرقام، التي كشفها البنتاغون نفسه، تؤكد حجم الثمن الذي دفعته واشنطن في محاولة يائسة لردع اليمن. الأبرز كان إسقاط 23 طائرة مسيرة أمريكية من طراز MQ-9 Reaper، والتي تقدر تكلفتها الإجمالية بنحو 769 مليون دولار. هذه الأرقام تؤكد أن التقنيات اليمنية المتطورة، التي لم تكن في حسبان الأمريكيين، باتت تشكل تهديداً حقيقياً لأغلى طائراتهم المسيرة، ونسفت أسطورة تفوقها الجوي. قدرت صحيفة نيويورك تايمز، نقلاً عن البنتاغون، أن إجمالي الخسائر الأمريكية في عهدي بايدن وترامب بلغ سبعة مليارات دولار. هذا الرقم المهول يؤكد حجم الاستنزاف الذي يواجهه أكبر جيش في العالم أمام قوة اليمن الصاعدة.

أمريكا تجبر على الانسحاب المهين

الولايات المتحدة، التي اعترفت بأن “الحوثيين يمتلكون سلاح دفاع جوي وصفته بالخطير”، واجهت حقيقة صدمتها في اليمن، كاشفة عن تفوق تسليحي يمني لم يكن في حسبان أحد. فبينما كان فخامة المشير مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى، يعلن أنهم لم اليمن لم تخسر سوى 1% فقط من قدراتهم العسكرية.

وفي حقيقة تكشف عن براعة الهندسة الدفاعية اليمنية وتفوقها على أحدث التقنيات الغربية، جاء التأكيد الروسي، على لسان ضابط الاستخبارات ألكسندر ميخائيلوف، بأن مخازن أسلحة يمنية تقع في عمق 1000 متر تحت الجبال، وأن أقوى القنابل الأمريكية لا يمكنها اختراق سوى 60 متراً.

لكن الصدمة الأكبر كانت في إشارة ميخائيلوف إلى أن الكيان الصهيوني كان على وشك خسارة طائرة F-35 الشبحية، فخر الصناعة الأمريكية، لولا أن الطيار نجا بأعجوبة بإطلاقه بالونات حرارية. هذه الحادثة شكلت كابوساً، فضلاً عن كونها مثلت دليلاً قاطعاً على أن سلاح الدفاع الجوي اليمني أصبح يشكل قوة شديدة الخطورة على التفوق الجوي الأمريكي لاسيما وقد أصبح قادراً على اختراق أعتى الطائرات الشبحية.

وكما ذكر ميخائيلوف، “لو سقطت [الـ F-35] لسقط سعرها في الأسواق العالمية وأصبحت أمريكا أضحوكة”. هذه الحقيقة المرة هي التي دفعت أمريكا إلى “الانسحاب من حرب اليمن والتنازل عن أقرب حلفائها”، لأن اليمن بات “مستنقعاً يستنزف موارد أمريكا في الوقت الخطأ”، وهي شهادة رسمية على قوة الإرادة اليمنية وقدرتها على هزيمة قوى الهيمنة، ودفعها إلى خانة الخوف بعد أن كانت تخيف العالم.

اعتراف أمريكي.. “المعركة ضد اليمن علّمت واشنطن الكثير”

في أحدث فصول هذه المواجهة المثيرة، نقلت صحيفة بيزنس إنسايدر الأمريكية عن القائد البحري كاميرون إنغرام، قائد المدمرة الأمريكية يو إس إس توماس هودنر، اعترافًا صريحًا بأن “المعركة ضد اليمن علّمت واشنطن الكثير”. وصف إنغرام الصراع مع القوات اليمنية في البحر الأحمر بأنه “أشبه بمعركة سكاكين داخل كشك هاتف”، في إشارة إلى ضيق الجغرافيا البحرية والفعالية غير المتوقعة للضربات اليمنية الدقيقة التي أربكت الأسطول الأمريكي وأرهقته.

وفي إقرار بفشل البحرية الأمريكية في التعامل مع التكتيكات العسكرية اليمنية، أشار إنغرام إلى أن “العمل بالقرب من الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون كان صعبًا للغاية”، مضيفًا أن الجغرافيا والتهديدات المستمرة خلقت بيئة قتالية شديدة التعقيد فاقت توقعاتهم. وأوضحت الصحيفة أن البحرية الأمريكية استخدمت هذا الصراع كفرصة لاختبار منظوماتها الدفاعية، خاصة نظام “إيجيس” القتالي الذي يعتمد على الحوسبة والرادار لتتبع واعتراض التهديدات الجوية. لكن هذا الاختبار جاء بثمن باهظ، حيث تم إنفاق مفرط لصواريخ بملايين الدولارات لاعتراض طائرات مسيّرة لا تتجاوز قيمتها آلاف الدولارات، ما أدى إلى استنزاف المخزون الأمريكي من الذخائر الحرجة.

 

وأقرت الصحيفة أن المواجهة مع اليمن وضعت البحرية الأمريكية تحت ضغط غير مسبوق، حيث خاضت السفن الأمريكية اشتباكات جوية متواصلة مع مئات الصواريخ والطائرات المسيّرة اليمنية منذ أكتوبر 2023. هذا الضغط أثقل كاهل أطقم السفن واستنزف قدراتها اللوجستية، واضطرت بعض السفن للانسحاب لإعادة التزود بالصواريخ من موانئ بعيدة.

وهو ما تراه البحرية الأمريكية “خطرًا قاتلاً” في أي مواجهة محتملة مع قوة بحجم الصين، خاصة وأن المعركة البحرية، بحسب وصفهم، استنزفت الذخائر الحيوية، وأدت إلى مشاركة خمس حاملات طائرات في هذه العمليات التي اختبرت للمرة الأولى فعالية نظام “إيجيس” القتالي بشكل مكثف. وفي مقارنة لافتة، حذر القائد الأمريكي من أن أي مواجهة مقبلة مع الصين ستكون “أكثر تعقيدًا”، نظرًا لقدرات بكين التقنية العالية ومنظومتها الاستخباراتية المتطورة، مشيرًا إلى أن البحرية ستخوض حينها معركة “على مدى أبعد، وباستخدام صواريخ أدق، وفي بيئة أكثر تحديًا”، في اعتراف ضمني بأن ما واجهوه في اليمن كان مجرد لمحة أولى عن حروب المستقبل.

ذكاء يمني يفوق التقنية الأمريكية ويصنع التفوق

لم يقتصر الإنجاز اليمني على الميدان العسكري، بل امتد ليلامس عالم حرب المعلومات المعقد، ليثبت تفوقه في هذا المجال الدقيق والمراوغة في المواجهة. فبينما كانت الأقمار الصناعية للعدو الصهيوني والأمريكية تحلق بلا كلل لرصد تحركات القوات اليمنية ومراكز القيادة، نجحت وحدات إلكترونية يمنية، بذكاء فائق، في اختراق كاميرات مراقبة في منشآت حساسة تابعة للكيان الصهيوني في ميناء أسدود وقواعد أمريكية في جيبوتي.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فقد تم تسريب بيانات حساسة حول تحركات بحرية أمريكية، استُخدمت من قبل القوات اليمنية ببراعة ودقة متناهية في هجماتها، مما دفع الولايات المتحدة لاتهام روسيا بالوقوف وراء هذه الاختراقات، وهو ما يكشف عن مدى التكتيكات المتطورة لليمن في حرب المعلومات وقدرته على الوصول إلى معلومات استخباراتية دقيقة، مما يعزز من قدراته على المباغتة والمراوغة في مواجهة العدو.

لقد أصبح اليمن، بما يمتلكه من إرادة صلبة، وقدرات عسكرية وتكتيكية متطورة، وتفوق تقني لافت، قصة تروى عن شعب قلب الموازين وغير المعادلات. لم تعد القوى التي اعتادت على تخويف العالم هي من تملي شروطها، بل باتت تعيش اليوم حالة من الخوف والترقب، بينما يواصل اليمن مسيرته في ترسيخ مكانته كقوة إقليمية ذات تأثير استراتيجي حاسم. هذا التحول بات مؤشر يعيد رسم خريطة القوى في المنطقة، ويحدث انهياراً تدريجياً في أسس الهيمنة القديمة التي ارتكزت على الترهيب والعدوان.

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: البحریة الأمریکیة للکیان الصهیونی الکیان الصهیونی أمریکیة فی غیر مسبوق فی البحر أکثر من لم تکن

إقرأ أيضاً:

الهيمنة الثقافية وتفاهة الشر، لماذا لم تُقاوِم الخرطوم/المركز مذابح الهامش؟

 

الهيمنة الثقافية وتفاهة الشر، لماذا لم تُقاوِم الخرطوم/المركز مذابح الهامش؟

حين تُقاس الضمائر: درس كلفورنيا في حماية الديمقراطية وتاريخ النخب السودانية من الجرائم ضد الهامش

6/12/2025 خالد كودي، بوسطن

بين صورة الذات وصمت الضمير:

“ليس الشر في كونه استثنائيًّا؛ بل في كونه عاديًّا، مسموحًا به، مقبولًا، مألوفًا.”- هانا آرنت، “تفاهة الشر”

كثيرًا ما نُردد في أحاديثنا العامة وفي الإعلام أن السودانيين “أطيب شعوب الأرض”، “أهل سلام وكرم ونخوة”، “لا نرضى بالظلم ولا نسكت عن الضيم”… الخ،

هذه صورة جميلة ومريحة لضميرنا الجمعي، لكنها تصطدم بواقع مؤلم لا يمكن إنكاره.

ففي البلد الذي يحب أن يفاخر بكرم أهله، قُتل وشُرّد مليوني سوداني من جنوب السودان، ثلاثمائة ألف من دارفور، ومئات الالاف من جبال النوبة، والنيل الأزرق، على مدى عقود طويلة.

ملايين من أهلنا يعيشون حتى اليوم في معسكرات النزوح واللجوء، منذ سنوات، بل منذ عقود!

والأدهى أن هذا الحال لم يتغير تحت الحكومات المتعاقبة، عسكرية كانت ام مدنية منتخبة بما في ذلك حكومة ما بعد ثورة ديسمبر، التي رفعت شعارات “حرية، سلام، وعدالة”، لكنها فشلت في وقف القتل أو إعادة الكرامة للنازحين واللاجئين، اوليس ثمة خطآ فادح؟

نفاخر بأننا “شعب الثورة”، لكن هذه الثورة لم تتحول إلى واقع ذات معني ضد استمرار التهميش، الموت والتشريد.

وهنا يحضر قول والتر بنيامين: “كل وثيقة حضارة تحمل وجهًا بربريًا.”

فمن يرفع القناع عن هذا الوجه؟ ليس القانون وحده، ولا النخب وحدها؛ بل الجماهير – في مدى قبولها أو مقاومتها لهذا القبح الذي يُلبَس قناع الضرورة.

في مجتمعات ما بعد الاستعمار، كما بيّن فرانز فانون، تكمن إحدى أخطر المعضلات في استمرار إنتاج وعي استعماري داخلي معكوس: حيث تنسج نخب المركز هويّتها على قهر “الآخر الداخلي”، باسم “الحضارة والتمدين” و “الوحدة الوطنية”، أو “الأمن”، أو “التفوق الاثني والديني” ومااليه.

أما الديمقراطية – كما تذكّرنا الكثير من الدراسات- لا تُختبَر في طقوس صناديق الاقتراع وحسب، بل في موقف المجتمع من المظلومين. الديمقراطية لا يُقاس صدقها في نصوص الدستور، بل في قدرة المجتمع على أن يقول “لا” حين يُسحق الآخر أمام عينيه. وهنا لا مفر من أن نُقارن بين مشهد الحراك المدني في كاليفورنيا، الولاية الاغني في امريكا هذه الايام، حيث تخرج الحشود دفاعًا عن مهاجرين بلا أوراق، وبين صمت معظم الجمهور السوداني في مدن المركز حين كانت قرى الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق تُباد، والنساء تُغتصب، والأطفال يُهجّرون الي معسكرات الذل…

كيف نوفّق بين هذه الصورة التي نرسمها عن أنفسنا كأهل نخوة وسلام، وبين تاريخ الصمت العميق أمام واحدة من أكبر مآسي بلدنا بل والعالم؟

كيف يمكن أن نبني “سودانًا ” دون مواجهة هذا التناقض المؤلم في ضميرنا الجمعي؟

هذا المقال ليست وعظًا. إنها دعوة إلى تفكيك المهاد الثقافي والأخلاقي الذي سمح بهذا الصمت.

وهي تذكير بأن أي مشروع ديمقراطي في السودان القادم لا يمكن أن يقوم إلا على قاعدة الاعتراف بهذا الصمت، ومقاومة إعادة إنتاجه، وهذا ماقد يسمي بعملية عدالة تاريخية.

فالحرية لا تولد من مؤسسات معطاة؛ بل من جماهير ومجتمعات تعرف أن الحرية تُنتزع كل يوم، وأن الصمت – كما يقول ليفيناس – ليس براءة، بل تواطؤ عميق مع الجريمة.

بين ضمير الجمهور الأمريكي المنتفض وصمت الجمهور السوداني حينما كانت الحرب في مكان اخر:

بينما تنتفض شوارع كاليفورنيا اليوم دفاعًا عن مهاجرين بلا أوراق، علينا نحن السودانيين أن نواجه سؤالًا مؤجلًا: لماذا لم تتحول شوارع الخرطوم، ولا مدن السودان الأخرى، إلى ساحات احتجاج واعتصام حين كانت آلة الحرب المركزية تمطر الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق بالنار؟

لماذا لم تُغلق طرق الموت أمام قطارات الجنود؟

لماذا لم تُنشأ “مدن ملاذ” تحمي أبناء الهامش من القتل والنزوح واللجؤ، كما تفعل اليوم مدن أمريكية مع المهاجرين؟

ولماذا بقيت النخب السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية – بل حتى النقابية – في غالبيتها صامتة، متواطئة، أو شريكة في تبرير تلك الجرائم، تحت شعارات مثل “وحدة الدولة”، “أمن الوطن”، “سيادة القانون”، أو “تنظيف المدن من الوجوه الغريبة”؟

ما جرى – وما يزال يُعاد إنتاجه – هو تجلي “الوعي الاستعماري المعكوس” كما اشرنا، وقد اعادت نخب المركز ممارسة قمع المستعمر ضد شعوب الهامش، وغلفت القمع بخطاب قومي زائف.

والأخطر أن هذا الخطاب لاقى قبولًا ضمنيًا لدى قطاع واسع من الجمهور، الذي ظل غير معني بمصير ملايين السودانيين في الأطراف وفي أحزمة الفقر المحيطة بالمدن.

ماذا نتعلم من المشهد الأمريكي؟

في المقابل، حين واجهت كاليفورنيا حملات الاعتقال والترحيل، لم تصمت.

من المدن إلى الأرياف، من الجامعات إلى النقابات، من الكنائس إلى منظمات المجتمع المدني، من المحامين إلى الصحافيين – الجميع انتفض دفاعًا عن كرامة الإنسان

ظهرت “مدن ملاذ”، بات المحامون يبيتون في المطارات، والصحافة تشن حملات متواصلة لفضح الانتهاكات.

لم يكن هذا الدفاع بلا كلفة، لكنه جسّد وعيًا عميقًا: أن السكوت في وجه الظلم هو خيانة مباشرة للمواطنة وللديمقراطية.

جرائم في صمت: سجل النخب السودانية وثمن الغفلة:

في السودان، على مدى عقود، قُتل وهجر الملايين – لا في حرب سيادة، بل في حرب هوية: حرب استهدفت الإنسان لأنه من الهامش، مختلفٌ في اللون، اللغة، والجهة، وربما الدين.

وأمام هذا الجُرم، ماذا فعلت نخب السودان؟

في أفضل الأحوال، صمت بارد؛ وفي كثير من الحالات، تبرير وتواطؤ صريح. حتى الأفعال المحدودة والكلمات القليلة التي قيلت لم تلامس فداحة الجريمة ولا عُمق الدم المسفوح. لم تكن بحجم ماكان يجري في السودان. وكانت النتيجة الحتمية: فقد الجنوبيون الثقة في نخبة المركز، واختاروا الانفصال، محمّلين ضمير الأمة نصيبه من المسؤولية الأخلاقية والعار الازلي، وواصل بقية المهمشين نضالهم.

الغفلة المؤسِّسة: من وهم الاستثناء إلى امتداد الحريق:

لم يكن الخطر الأكبر في ما وقع من جرائم قبل الانفصال، بل في ما تلاها من إنكار وتراكم أخلاقي مدمّر.

فبعد ذهاب الجنوب، تبنّى كثير من السودانيين – نخبًا وجمهورًا – سردية مريحة مفادها أن “الحرب انتهت”، وأن “المشكلة كانت هناك فقط” وذهبت مع ذهاب الجنوب.

ولم يدرك هؤلاء أن أسباب الحرب ما زالت قائمة في بنية الدولة نفسها: في التهميش، والتمييز، والإنكار المتواصل لحقوق الشعوب المهمّشة – في الظلم والفساد والاستبداد.

لكن الخطير أن هذا الإنكار لم يقتصر على النخب، بل شمل شرائح واسعة من الجمهور الذي آمن بوهم “الاستثناء الآمن”، أي أن الخرطوم، ومدني، وبورتسودان، وغيرها من مدن المركز، في منأى عن النيران ما دامت مشتعلة في دارفور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق.

وهكذا، بُنيت “الطمأنينة الكاذبة” على مأساة غيرهم، وجرى تجاهل أن النار التي لا تُطفأ في الهامش، لا تلبث أن تصل إلى القلب، وقد كان.

لكن كما تقول الحكمة القديمة: “أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض.”

وما لم يُدفَع من ثمن آنذاك، يُدفَع اليوم للأسف – مضاعفًا في شوارع المدن التي لم تكترث حين أُضرمت النار في ديار غيرها… وها هو الدمار الشامل طال ويطال الجميع!

وكما تحذر الحكايات الإفريقية القديمة:

“إن لم تحتج اليوم على ظلم جارك، فغدًا سيحين دورك، ولن تجد من يدافع عنك”

جورج أورويل عني:

“الحرية تعني الحق في قول ما لا يريد الآخرون سماعه. والصمت هو أول انتصار للسلطة القامعة.”

وفي السودان، انتصر الصمت حين احترق الهامش.

لم تُغلق شوارع الخرطوم. لم تُعلَن “مدن ملاذ”. لم تنهض النقابات، لم تتحرّك الجامعات كما ينبغي . لم تُبنَ مقاومة شعبية توقف آلة القتل الذي استمر لأكثر من ثلاث عقود.

واليوم، حين وصلت النيران إلى قلب المركز، لم يكن ذلك “انفجارًا مفاجئًا”، بل النتيجة الطبيعية لذلك التاريخ الطويل من الصمت واللامبالاة.

الحرب التي تعصف بالسودان اليوم ليست بداية الحكاية، بل خاتمة تأخّرت – لكنها لم تكن لتغيب.

لهذا، فإن المعيار الأخلاقي ليس فيما تقوله النخب اليوم، بل فيما صمتت عنه بالأمس.

ومن لا يعترف بجرائم الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة حين وقعت، لن يكون قادرًا على بناء وطن جديد – حتى وإن صار هو نفسه اليوم ضحية في دورة العنف التالية!

وقد قيل: “من واجبنا الأخلاقي أن نمنع إضفاء طابع العادي على ما هو غير مقبول.” وقيل

“من لا يستطيع البكاء على ضحايا الأمس، سيصفق لجلادي الغد.” !

في مواجهة عنف الدولة الحديثة سواء كان عاريًا أو مقنّعًا بلغة القانون والسيادة – لا تُقاس شرعية النظام بما تقرّه الدساتير أو صناديق الاقتراع وحدها، بل أولًا بشرعية الضمير العام.

فالسلطة القمعية لا تحتاج إلى تبرير دائم بقدر ما تحتاج إلى جمهور يصمت، أو يشيح بوجهه، أو يتواطأ.

وهنا تكمن مأساة الشعوب: ليس فقط في فقدان الحقوق، بل في اللحظة التي يُمحى فيها “وجه الآخر”، كما يقول ليفيناس، من الفضاء الأخلاقي العام، ويُعاد تقديمه كـ”خطر”، أو “عبء”، أو “تهديد للوطن”.

من هنا، فإن بناء دولة ديمقراطية في السودان لا يمكن أن يبدأ بمجرد تعيين رئيس وزراء وان كان دمية للعسكر او بتعديلات دستورية جديدة أو شعارات فارغة؛ بل يجب أن يبدأ بتحرير الضمير الجمعي من ثقافة الصمت، والتواطؤ، والتطبيع مع القمع والدم.

فلا يمكن لجمهورية عدالة أن تُقام على ذاكرة صامتة تجاه مذابح الجنوب، واغتصابات دارفور، وحرق قرى جبال النوبة والنيل الأزرق.

لهذا بالضبط تكتسب رؤية السودان الجديد التي تبناها تحالف “تأسيس” للعدالة التاريخية قيمتها الجوهرية اليوم.

فالعدالة هنا ليست مجرد تصفية ملفات الماضي، بل هي شرط تأسيسي لبناء وطن جديد.

وهي ليست تعويضًا رمزيًا للضحايا، بل إعادة تعريف لما تعنيه المواطنة في السودان: أن لا يُعاد إنتاج “مواطن من الدرجة الثانية او مادونها”، ولا يُبرر القمع ضد أي مجموعة باسم “وحدة الدولة” أو “أمنها”…

بدون هذا الاعتراف العميق بالجرائم التاريخية، وبدون إعادة الاعتبار الكامل للضحايا ماديا ومعنويا كشرط للمواطنة المتساوية، لن يكون مشروع الدولة الجديدة إلا قشرة قانونية تخفي استمرار القمع بثياب جديدة.

إن مشروع تحالف “تأسيس” في طرحه للعدالة التاريخية يُذكّرنا بحقيقة بديهية أخلاقية:

أن من لا يعترف بجراح الأمس، لن يُنتج سوى مزيد من الضحايا غدًا.

وأن من لم يُدن بصوت واضح ما ارتُكب في الجنوب ودارفور وجبال النوبة، والنيل الازرق لن يكون أهلاً للمشاركة في تأسيس وطنٍ يتساوى فيه الجميع أمام القانون والكرامة.

النضال مستمر والنصر اكيد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الوسومالجرائم ضد الهامش الهيمنة الثقافية وتفاهة الشر تاريخ النخب السودانية حماية الديمقراطية خالد كودي درس كلفورنيا لماذا لم تُقاوِم الخرطوم/المركز مذابح الهامش؟

مقالات مشابهة

  • صعود مفاجئ في أسعار الدواجن الان بالاسواق
  • أسطورة الزمالك: سأشجع الأهلي في كأس العالم للأندية.. وهذه أوراقه الرابحة أمام ميسي
  • 440 جنيها.. صعود صاروخي للجنيه الذهب الان.. اعرف وصل كام؟
  • مفتي الهند يدعو لاحترام سيادة الدول ورفض كل أشكال الهيمنة
  • صعود سعر الذهب مساء اليوم الجمعة 13-6-2025
  •  عيد الغدير في اليمن : تجليات الولاء وتجذر الارتباط الإيماني في وجدان القبيلة اليمنية
  • في يوم الغضب المليوني .. اليمن يحذر الأنظمة العربية من العقوبة الإلهية ويتوعد الطغيان الصهيو أمريكي
  • الهيمنة الثقافية وتفاهة الشر، لماذا لم تُقاوِم الخرطوم/المركز مذابح الهامش؟
  • ترامب: كميات كبيرة من الأسلحة الأمريكية الأكثر فتكا في العالم في طريقها إلى إسرائيل