- ترجمة: أحمد شافعي

من وراء الضربات والضربات المضادة في الحرب الإسرائيلية الإيرانية الراهنة، ثمة تصادم بين عقيدتين في الاستراتيجية، إحداهما تحرك إيران والأخرى تحرك إسرائيل، وفي كلتيهما عيوب عميقة. وثمة فرصة سانحة للرئيس ترامب؛ كي يصححهما ويتيح فرصة مثلى لإحلال الاستقرار في الشرق الأوسط لعقود قادمة، فقط لو أنه قادر على ذلك.

عقيدة إيران الاستراتيجية، وقد مارسها أيضا وكيلها حزب الله محققا بها نتائج لا تقل أيضا هي العقيدة التي أطلق عليها محاولة التفوق على الخصم في جنونه. فإيران وحزب الله مستعدان دائما للمضي إلى الحد الأقصى، ظانين أنه مهما كان من رد فعل خصومهم، فإن حزب الله أو إيران سوف يفوقانهم دائما بإجراءات أكثر تطرفا.

ففي اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وفي تفجير السفارة الأمريكية في بيروت، وفي مساعدة بشار الأسد للبقاء في السلطة ترون بصمات إيران أو حزب الله - إما معا أو منفردين - من ورائها جميعا. فهما يقولان للعالم عمليا: «لن يتجاوزنا أحد في الجنون، فاحذروا محاربتنا؛ لأنكم ستخسرون. ولأننا نمضي حتى النهاية، فانصرفوا أنتم أيها المعتدون».

ساعدت هذه العقيدة الإيرانية حزب الله في إخراج إسرائيل من جنوبي لبنان. ولكنها فشلت حينما ظنت إيران وحزب الله أنهما قادران على طرد الإسرائيليين من وطنهم التوراتي. فإيران وحزب الله واهمان في هذا الصدد، وحماس أيضا. وهم لا يكفون عن الإشارة إلى الدولة اليهودية باعتبارها مشروعا استعماريا أجنبيا، بلا علاقة أصيلة بالأرض، ومن ثم يفترضون أن اليهود سوف يلقون في نهاية المطاف مصير البلجيك في الكونغو البلجيكية، أي أنهم حينما يتعرضون للضغط الكافي سوف يرجعون في نهاية المطاف إلى نسختهم من بلجيكا.

ولكن اليهود الإسرائيليين ليست لديهم بلجيكا. وهم أصليون في هذا الوطن التوراتي بقدر الفلسطينيين، بصرف النظر عن الكلام المعادي للكولونيالية الذي يدرسونه في جامعاتهم. ومن ثم، فلا يمكن التفوق على اليهود الإسرائيليين في الجنون. فإذا ما لزم الأمر هم الذي سيتجاوزونكم في الجنون.

سيلعبون وفقا للقواعد المحلية، وهي ليست بقواعد اتفاقيات جنيف. إنما هي قواعد الشرق الأوسط التي أسميها قواعد حماة ـ نسبة إلى ضربات حماة التي نفذتها الحكومة السورية في ظل حكم حافظ الأسد سنة 1982 وقمت بتغطية عواقبها. كان الأسد قد محا الإخوان المسلمين من حماة بتسوية مناطق شاسعة من المدينة بالأرض بلا رحمة وتحويل بنايات سكنية كاملة إلى مواقف للسيارات. وقواعد حماة هي أنه ما من قواعد.

ولقد ظن كل من زعيم حزب الله السابق حسن نصر الله والمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي أن بوسعهما تجاوز اليهود الإسرائيليين جنونا، وأن إسرائيل لن تحاول مطلقا أن تقتلهما شخصيا، وأن إسرائيل في النهاية مثلما كان يروق لحسن نصر الله القول «بيت عنكبوت» سوف يتفكك يوما ما بالضغط. ولقد دفع حياته في العام الماضي ثمنا لخطأ حساباته. مثل هؤلاء اليهود الإسرائيليين لن يمكن تجاوز جنونهم. فبهذه الطريقة لا تزال لديهم دولة في هذه المنطقة شديدة الصعوبة.

أما وقد قلت هذا، فإن بنيامين نتنياهو وثلته من المتطرفين الذين يديرون الحكومة الإسرائيلية اليوم واقعون أيضا في قبضة مغالطتهم الاستراتيجية، وهي التي أسميها «النهاية الحاسمة».

ليتني كنت أحصل على دولار في كل مرة أعلنت فيها الحكومة الإسرائيلية عقب هجمة قاتلة على اليهود الإسرائيليين من الفلسطينيين أو الوكلاء الإيرانيين أنها سوف تحل المشكلة بالقوة فتنهيها نهاية حاسمة.

هناك طريقتان اثنتان لإنهاء هذه المشكلة نهاية حاسمة. إحداهما أن تحتل إسرائيل الضفة الغربية وغزة وجميع إيران احتلالا دائما، مثلما فعلت أمريكا في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وتحاول تغيير الثقافة السياسية. ولكن ما من مجال لأن تحتل إسرائيل جميع إيران، وهي تحتل الضفة الغربية منذ ثمانية وخمسين عاما ولا تزال إلى الآن عاجزة عن محو نفوذ حماس هناك، ناهيكم عن نفوذ القومية الفلسطينية العلمانية. وذلك لأن الفلسطينيين أصلاء في المكان بقدر اليهود في وطنهم.

الطريقة الوحيدة للاقتراب من إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على نحو نهائي حاسم هي العمل من أجل حل الدولتين. وهو ما يأخذني إلى ما يجب على ترامب القيام به الآن في ما يتعلق بإيران. فهو يقول إنه لا يزال يرجو «أن يتم التوصل إلى اتفاق».

ولو أنه يريد اتفاقا جيدا، فعليه أن يعلن عن قيامه بشيئين في آن واحد.

الأول، أنه سوف يسلح القوات الجوية الإسرائيلية بقاذفات بي 2 والقنابل الخارقة للتحصينات التي تزن ثلاثين ألف رطل وبمدربين أمريكيين، بما يزود إسرائيل بالقدرة على تدمير جميع منشآت إيران النووية ما لم توافق إيران فورا على السماح لفرق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفكيك هذه المنشآت والوصول إلى كل موقع نووي في إيران لاستعادة جميع المواد الانشطارية التي أنتجتها إيران. وفي حال انصياع إيران بالكامل لهذه الشروط يجب السماح له بامتلاك برنامج نووي مدني بموجب مراقبة صارمة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولكن إيران لن تنصاع إلا لتهديد ذي مصداقية باستعمال القوة.

في الوقت نفسه، يجب أن يعلن ترامب أن إدارته تعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير الوطني. لكن من أجل تحقيق ذلك، لا بد أن يظهروا أنهم قادرون على تولي مسؤوليات الدولة بإنتاج سلطة فلسطينية جديدة تراها الولايات المتحدة ذات مصداقية، وملتزمة تجاه الخدمة الفعالة للمواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة وتجاه التعايش مع إسرائيل.

لا بد أن يوضح ترامب أيضا أنه لن يتسامح مع التوسع الاستيطاني السريع وواقع الدولة الواحدة الذي تخلقه إسرائيل الآن، فهو وصفة لحرب أبدية، لأن الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة لن يختفوا أو يتخلوا تخليا نهائيا حاسما عن هويتهم ومطامحهم الوطنية. (في نهاية مايو أجازت حكومة نتنياهو اثنتين وعشرين مستوطنة يهودية جديدة في الضفة الغربية المحتلة، وهو التوسع الأكبر منذ عقود، وهذا ببساطة جنون محض).

تحقيقا لهذه الغاية، يمكن أيضا أن يقول ترامب إن إدارته سوف تلتزم برعاية محادثات سلام من أجل حل الدولتين، تكون فيها خريطة السلام الترامبية ـ الموروثة من رئاسته السابقة ـ هي المسار إلى دوليتن، ويكون ذلك هو نقطة الانطلاق الدنيا لا نقطة النهاية القصوى. ويكون لزاما على الأطراف أن تتفاوض مباشرة بأنفسها.

لقد كان تجاوز جنون المجانين شرطا لازما لبقاء إسرائيل في الشرق الأوسط، لكنه غير كاف. فمثلما يتبين من حرب غزة، تولد هذه الاستراتيجية المزيد مما هو قائم. وعلى أمة محبة للسلام أن تستمر في استكشاف بدائل وتستمر في القران ما بين القوة والدبلوماسية، حتى لو أن في ذلك ظلما في بعض الأوقات، بل وحتى لو أن فيه سذاجة في بعض الأوقات. فهذه ليست السياسة المثلى لإسرائيل في مواجهة الفلسطينيين وحسب، ولكنها السياسة المثلى لإسرائيل وأمريكا من أجل عزل إيران.

وبهذا، لو أن ترامب يريد حقا أن يصوغ سلاما في الشرق الأوسط، وهذا ظني فيه، فلا بد ألا تصبح أمريكا أسيرة لدى نتنياهو أو ساذجة لدى إيران. فليست للولايات المتحدة مصلحة في تأمين إسرائيل في توسعها المشيحاني أو تأمين إيران في مشيحانيتها النووية. لا بد أن يتجاهل ترامب الانعزالية الخطيرة الساذجة التي يتبناها جيه دي فانس. ولا بد أن يتجنب رأي الجنرالات السابقين ومبشري الحزب الجمهوري الأحمق بالقدر نفسه ومفاده أن نتنياهو لا يخطئ أبدا. فكلاهما لا يخدم مصالح الولايات المتحدة أو مصداقيتها في المنطقة.

إن شروط السلام الضرورية وغير الكافية معا في الشرق الأوسط التي ستسمح لأمريكا بتقليل حضورها العسكري هناك ـ لا إنهائه ـ تتمثل في إرغام إيران على رسم حدودها الغربية رسما واضحا وتكف عن محاولة استعمار جيرانها العرب وتدمير إسرائيل بقنبلة نووية، وتتمثل في إرغام إسرائيل على رسم حدود شرقية واضحة وتتوقف عن محاولة استعمار كامل الضفة الغربية، وتتمثل في إرغام الفلسطينيين على رسم حدود غربية واضحة بين إسرائيل والأردن وتتوقف عن لغو «من النهر إلى البحر».

لقد أتاحت هذه الحرب فرصة لم تتح منذ عقود ليستعمل رجل دولة حكيم ما يصفه المفاوض العتيد في الشرق الأوسط في كتابه دينيس روس «مدخل متقدم إلى فنون الدولة» بـ«الدبلوماسية القسرية». فهل يقوى ترامب على هذا؟ أنا بحق لا أعرف، لكننا سنكتشف ذلك عما قريب.

توماس فريدمان كاتب عمود رأي في الشأن الخارجي في نيويورك تايمز

خدمة نيويورك تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الیهود الإسرائیلیین فی الشرق الأوسط الضفة الغربیة إسرائیل فی حزب الله لا بد أن من أجل

إقرأ أيضاً:

إلغاء قانون قيصر.. توقيع ترامب ينهي سنوات من خنق الاقتصاد السوري ليبدأ التعافي

في لحظة سياسية فارقة تعيد رسم موقع سوريا على الخريطة الإقليمية والدولية، صوّت مجلس النواب الأميركي على إلغاء "قانون قيصر" الذي شكّل طوال ستة أعوام أحد أكثر أدوات الضغط الصارمة على الاقتصاد السوري. 

ومع انتقال المشروع إلى مجلس الشيوخ تمهيداً لتوقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل نهاية العام، تتجه الأنظار إلى مرحلة جديدة قد تُنهي سنوات من الخنق الاقتصادي، وتفتح باب الأسئلة حول فرص التعافي وقدرة الحكومة السورية الجديدة على استثمار هذه التحولات.

يأتي القرار في سياق إقليمي ودولي متغير، وبعد عام من التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا إثر سقوط نظام الأسد وصعود حكومة انتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ومع ذلك، يبقى السؤال الأبرز: هل يكفي رفع العقوبات لتبدأ سوريا رحلة النهوض، أم أن الطريق لا يزال طويلاً ومليئاً بالتحديات المعقّدة؟

قانون قيصر

أقِرّ "قانون قيصر" عام 2019 خلال ولاية ترامب الأولى، مستنداً إلى صور مسرّبة وثّقت انتهاكات واسعة في السجون السورية. فرض القانون عقوبات مشددة طالت مؤسسات الدولة وقطاعات الطاقة والبناء والمالية، ومنع التعامل مع جهات حكومية أو شركات مرتبطة بالنظام السابق. وعلى مدى سنوات، شكّل القانون أحد أعمدة العزلة الاقتصادية التي عمّقت الانهيار البنيوي في سوريا.

أما التغيير الجوهري فجاء في ديسمبر 2024 حين أطاحت قوات المعارضة بنظام الأسد، ليفرّ الأخير إلى روسيا، وتبدأ مرحلة سياسية جديدة بدعم أميركي. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، بدأت سياسة إعادة تقييم شاملة للعقوبات، وصولاً إلى مسار الإلغاء الذي نشهده اليوم.

تفاصيل مشروع الإلغاء وشروطه الرقابية

رغم أن القانون يلغي العقوبات فعلياً، إلا أنه يستبدلها بآلية رقابية دورية تُلزم البيت الأبيض بتقديم تقارير إلى الكونغرس كل 90 يوماً ثم كل 180 يوماً لمدة أربع سنوات، تتضمن:

مكافحة الإرهاب والجماعات المتشددة.حماية حقوق الأقليات الدينية والإثنية.إبعاد المقاتلين الأجانب من المناصب العليا.الامتناع عن أي عمل عسكري غير مبرر ضد الجوار.التقدم في تنفيذ اتفاق 10 مارس 2025 مع "قسد".مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والمخدرات.ضمان تمثيل عادل في الحكومة والبرلمان.ملاحقة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان.

هذه الشروط غير ملزمة قانوناً لإبطال الإلغاء، لكنها تشكل آلية ضغط سياسية وأمنية على الحكومة السورية الجديدة.

هل يبدأ النهوض الاقتصادي؟

ترفع خطوة الإلغاء الكثير من القيود، لكنها لا تُطلق العنان للتعافي بشكل مباشر. فالأضرار التي ألحقها العقد الماضي بالاقتصاد السوري ضخمة؛ تقديرات الأمم المتحدة والبنك الدولي تتحدث عن حاجات إعمار تفوق 216 مليار دولار، إضافة إلى نظام مصرفي مضطرب، وسيولة شبه معدومة، وسوق موازية تتحكم بتعدد أسعار الصرف.

ويرى خبراء الاقتصاد أن رفع العقوبات يمثل شرطاً لا بد منه لكنه غير كافٍ. فالدخول في مرحلة الإعمار يحتاج:

تحديثاً تشريعياً شاملاً.استعادة الثقة بالقضاء والمصرف المركزي.بيئة أعمال شفافة تستقطب المستثمرين.إعادة ربط البنوك السورية بمنظومة "سويفت".ضمانات أمنية وسياسية.

ويتوقع اقتصاديون انتقالاً من الانكماش إلى نمو إيجابي محدود خلال الأعوام الثلاثة المقبلة في حال أُنجزت الإصلاحات.

التحديات المعيشية.. طريق طويل قبل التحسن

يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، ما يجعل أي إصلاح اقتصادي محفوفاً بتكاليف اجتماعية قصيرة الأمد، أبرزها:

تحرير تدريجي للأسعار.إعادة هيكلة الدعم.ارتفاع مؤقت في تكاليف المعيشة.

لذلك، تحذر المؤسسات من أن التعافي لن ينعكس سريعاً على الأسر إلا بوجود برامج حماية اجتماعية فعّالة.

إلغاء "قانون قيصر" يمثل بداية مرحلة لا نهايتها. صحيح أنه يفتح الباب أمام انفراج اقتصادي محتمل، لكنه يضع سوريا في مواجهة اختبار أكبر: القدرة على تنفيذ إصلاحات عميقة، وبناء دولة شفافة تستعيد ثقة شعبها وشركائها الدوليين. فالطريق إلى التعافي لن يُرسم في واشنطن وحدها، بل يبدأ من دمشق قبل أي مكان آخر.

طباعة شارك قانون قيصر سوريا العقوبات الأمريكية على سوريا إلغاء قانون قيصر

مقالات مشابهة

  • ترامب ينهي وضع «الحماية المؤقتة» لدولة إثيوبيا
  • "التعاون الإسلامي" تدين خطط الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية
  • إلغاء قانون قيصر.. توقيع ترامب ينهي سنوات من خنق الاقتصاد السوري ليبدأ التعافي
  • “التعاون الإسلامي” تدين خطط الاستيطان الإسرائيلية الجديدة في الضفة الغربية
  • منظمة التعاون الإسلامي تدين خطط الاستيطان الإسرائيلية الجديدة في الضفة الغربية
  • تفادياً لحرب مباشرة مع إسرائيل.. تقرير أميركي يكشف: هكذا تستغل إيران حزب الله
  • إسرائيل تستعد لسيناريو هجمات عبر أذرع إيران وجنوب سوريا
  • على صلة بحزب الله وايران.. اليكم آخر المعلومات عن ناقلة النفط التي احتجزتها أميركا في الكاريبي
  • لبنان يرفض دعوة طهران.. هل هجمات إسرائيل على حزب الله مقدمة لهجوم جديد على إيران؟
  • ‏إسرائيل توافق على بناء نحو 800 وحدة سكنية في 3 مستوطنات بالضفة الغربية