التحول العظيم في العالم ونظرية النهايات
تاريخ النشر: 24th, June 2025 GMT
نحن الآن أمام مرحلة تاريخية فارقة، قد تُقارن بتحولات كبرى شهدها التاريخ البشري مثل الثورة الصناعية أو سقوط الإمبراطورية الرومانية. كما أشار الفيلسوف المجري كارل بولاني إلى "التحول العظيم" (The Great Transformation) الذي يصف فيه كيف غيّرت الرأسمالية السوقية البنية الاجتماعية والاقتصادية التقليدية، فإن العالم اليوم يمر بتحول مشابه، لكنه أكثر تعقيدًا وشمولًا.
هناك العديد من النظريات التي تحاول قراءة هذا الواقع الجديد، بعضها يراه فوضى مستمرة كما في كتاب العالم في فوضى (The World in Disarray) لريتشارد هاس، أو تفككًا كما يراه المؤرخ نيل فيرغسون.
لكن هناك رؤية أوسع ترى أن كل هذه الفوضى ما هي إلا جزء من عملية انتقالية نحو نظام دولي جديد، وتُعرف هذه النظرية باسم "التحول العظيم"، وهي نظرية شاركت فيها مجموعة من الشخصيات الفكرية والمؤسسات العلمية العالمية.
بالتالي، نحن لا نعيش مجرد أزمات متفرقة، بل نشهد منحنًى واضحًا من الفوضى التي ستفضي إلى ولادة نظام عالمي جديد.
تيارات رئيسية لسيناريوهات التحول التيار الأول: تيار دافوس (الاستمرارية عبر التكنولوجيا)هذا التيار يسعى إلى الحفاظ على النظام القديم، لكنه يحاول إعطاءه وجهًا حديثًا باستخدام التحولات التقنية الكبرى. ويتجلى ذلك في مؤتمر دافوس، ونظرية "الثورة الصناعية الرابعة" التي طرحها كلاوس شواب، والمقرّب منه الكاتب الإسرائيلي يوفال نوح حراري.
هذا التنظير يربط بين التقدم التكنولوجي والتحول العالمي، ويرى أن البشر لم يعودوا سوى بيانات قابلة للتحليل والبرمجة من قبل الشبكات العصبية الاصطناعية. في هذا السياق، الإنسان ليس صانع القرار، بل هو كائن يتم "برمجته".
ومن وجهة نظر المنتقدين، فإن هذا التيار جزء من محاولة لتحويل الحكم إلى أيدي التكنوقراطيين الذين يتحكمون في المال والتكنولوجيا، ويميلون إلى فرض نظام عالمي واحد، موحّد، وغير متعدد الثقافات.
إعلانالدول النامية، وخاصة في الجنوب العالمي، عليها أن تتبع قواعد اللعبة الجديدة، والتي تفرض عليها الانفتاح الكامل على استثمارات الشركات الكبرى، دون اعتبار للأعراف أو الهويات الثقافية.
في هذا السياق، تُعتبر القيم مثل التنوع الثقافي، والكرامة الإنسانية، وحتى فكرة العالم متعدد الأقطاب، عقبات أمام "التمدد التقني الكبير". وهكذا، فإن الخيار الوحيد المسموح به هو إما قبول هذا المستقبل "الوردي" الذي ترسمه الشركات الكبرى، أو العودة إلى "الماضي"، وهو أمر يُصنَّف بأنه غير عملي وغير متناسب مع مسار التطور.
تيار نظرية الفوضى (تفكك النظام القديم)في المقابل، هناك تيار آخر يرى أن النظام العالمي الحالي، الذي شُكّل بعد الحرب العالمية الثانية، قد فقد قدرته على إدارة التعقيدات الجديدة، سواء كانت هذه التعقيدات ديمغرافية، بيئية، تقنية، أو حتى فكرية، فإن المنظومة الاقتصادية والسياسية القائمة لم تعد قادرة على استيعابها.
هذا التيار يشير إلى أن النظام العالمي أصبح غير طبيعي، كما ذكر عالم المستقبل زيا ساردار، وأننا نعيش حالة خلل عميقة في كل شيء: من السياسة إلى الاقتصاد، ومن البيئة إلى الثقافة.
عناوين كثيرة كالعودة إلى الغاب، أو العالم في فوضى، أو تفكك العالم، إذا تتبعت البحث عن هذه المصطلحات في Google Trends فستجد أنها تنتشر لأسباب معروفة بشكل كبير في دول أميركا اللاتينية ودول أفريقية.
مثال بارز على ذلك هو المقارنة بين حرب العراق عام 2003، حيث حرصت الولايات المتحدة وبريطانيا على الحصول على غطاء قانوني من الأمم المتحدة رغم عدم موافقتها على العملية، وبين الضربات الإسرائيلية الحديثة على إيران، حيث لم يعد القانون الدولي أو الشرعية عنصرًا في الحسابات السياسية.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه أعلن، صراحة، أنه لا يعبأ بالقوانين الدولية، وتعامل وكأنه إمبراطور لا يمكن لأحد منازعته. هذا يدل على أن النظام العالمي يفقد تدريجيًا قدرته على ضبط النفس، ويدخل في حالة من الفوضى المتسارعة، مما يستدعي إعادة نظر جذرية في مفاهيم السيادة، والقانون الدولي، والتعاون البشري.
التيار الثالث: التحول العظيمفي المقابل، سنجد مشاريع وكتبًا ودراسات وتيارات ترى أن العالم في حالة فوضى، وأن بنية النظام العالمي والاقتصادي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد قادرًا على إدراك وإدارة المتغيرات التي يشهدها العالم، سواء التحولات الكبرى (الديمغرافيا، البيئة بما في ذلك الطاقة، التقنية)، أو البنية الفكرية، ما يشمل النظريات الاقتصادية والسياسية المرتبطة بفكرة التوازن كنظرية الأقطاب والعرض والطلب، أو ما يسمى بالمنهج الاختزالي السائد في العالم بعد مدرسة فيينا التي تسربت إلى المناهج العلمية والجامعات بعد الحرب العالمية الثانية.
إسرائيل جزء من تلك المدرسة؛ ثيودور هرتزل كان من دائرة فيينا، والفكر الذي نشأ عن هذه المدرسة هو الذي أسّس لأغلب النظريات التي تُدرَّس في العالم اليوم، سواء في العلوم التطبيقية أو الإنسانية.
كل البروتوكولات التي يُكتب بها البحث في الجامعات مصدرها هذه المدرسة. كل ذلك يتفكك اليوم، ونحن نعيش في وضع غير طبيعي، كما كتب عالم المستقبليات ساردار ضياء الحق.
إعلانلذا، ما نعيشه اليوم هو خلل كبير في النظام، وعجز تام عن إدارة العالم. يمكن هنا أن نأخذ ما يحدث من عدوان إسرائيلي على إيران ونقارنه بما حدث في حرب العراق، ورغم أن الحربين تمثلان حالة من الفوضى في صناعة القرار، فإن المقارنة بينهما تبين حالة الفوضى بشكل واضح.
في حرب العراق، كان الخروج بقرار من الأمم المتحدة قضية أساسية، والتوصيف القانوني للتوجه نحو الحرب أخذ زمنًا حتى استطاعت بريطانيا أن تشكل تحالفات تقتنع بشرعية الحرب ضمن القرار رغم قرار مجلس الأمن رقم 14001.
لم يكن الأمر سهلًا من الناحية القانونية، ويقول توني بلير في مذكراته إنه، على كل حال، وُجد وجه قانوني سهّل عليهم الحصول على شرعية الحرب والوصول إلى حلفاء يمكنهم دعم شرعية المعركة.
لو قارنت ما حدث في العراق بما يحدث اليوم، فستجد أن ضرب إسرائيل لإيران وتصريحات ترامب لا تبالي بأي شيء اسمه قانون أو شرعية، بل إن رئيس الولايات المتحدة الأميركية تحدث علنًا عن الاغتيالات في انتهاك صارخ ليس فقط لسيادة الدول، بل تعامل بمنطق الإمبراطور الذي على الجميع أن يحذر من غضبه.
التحول العظيمالتيار الثالث هو الذي ينظر لكل تلك المؤشرات على أنها قوى تدفع نحو نظام عالمي جديد. بالطبع، عادة ما يخطئ كثيرون حين يتصورون أن هذا العالم الجديد متعدد الأقطاب، فيستخدمون أبجديات الماضي لرسم صورة المستقبل، وهذا يجعل الأفق يضيق والإبداع يتضاءل.
يمثل هذا التيار كتّاب من اليسار مثل هيرديت نيجري في كتابه الإمبراطورية (Empire)، أو تصورات عن نظرية الشبكة مثل أنا ماريا، مستشارة الرئيس الأميركي السابق أوباما، أو مشروع "نظرية التحول العظيم" لمجموعة من الجامعات.
هنا تكون الحرب جزءًا من التحول إذا لم تنتهِ بحالة بربرية. فالوعي، وتماثل العالم مع المعرفة الكونية، ووجود جهد لحماية البيئة، ونشأة المواطن العالمي، فضلًا عن مؤسسات تخضع للقانون وليس لمجرد قواعد عامة غير ملزمة كما هو حال النظام العالمي الحالي، قد يتطور ذلك لتحول كبير يطال كل شيء حين تكون التقنية في سياقها الصحيح، وهو دعم قدرة البشر على حل مشاكلهم بطريقة إبداعية بعيدة عن الانحيازات الثقافية والانقسامات العرقية والإثنية.
العرب والتحول العظيمهذه المسارات الثلاثة لن تتحقق بشكل تلقائي، بل سيعتمد هذا التحول على جهد الناس وقدرتهم على الدفع نحو مستقبل مشرق. لذا، فالمخاطر على الأمة الإسلامية والعربية هي أن هذه الحروب والأزمات تنتهي بها إلى حالة من الفوضى والتخلف، مما يجعل مسارها يضمن لها القعود في المقاعد الخلفية.
ومن هنا، تصبح حضارة ميتة حين تحيا دول وشعوب أخرى استطاعت أن تنفذ من حبال الإمبراطورية الأميركية، وتتقدّم نحو الأمام لتكون في مصافّها، وربما فرضت إرادتها في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم.
فكّرْ في الدول الإسكندنافية، في دول من جنوب شرق آسيا، ترَ كيف أن هذه المسارات قد تختلف من منطقة لأخرى. وهذا يعني أن مجموعة من الأفكار ستنتهي كالحداثة وما بعد الحداثة، والرأسمالية، والديمقراطية، وغيرها كثير.
فكل شيء من مخلفات الحداثة، بما فيها إسرائيل، سيكون جزءًا من الماضي عندما تنشأ دول قادرة على فرض سرديتها ومعارفها وتسريبها في المجال الأكبر، الذي تحدث عنه بنجامين برتيون في كتابه عن البرمجة والسيادة (Programming and Sovereignty). فالأولى- أي البرمجة- صارت هي المعرفة، ومن ثم ستتبعها السيادة في مجال يُسمّيه النسق أو التراكم النسقي.
إن المستقبل صار جزءًا من عملية التصميم الذي يسعى كثيرون إليه. إنه خيال وأفكار تتراكم لتكون نسقًا ينشأ عنه تحول كبير. إنه عمل لتحقيق هذه التصاميم على أرض الواقع، وعندما ينجح الآخرون في بناء نظام آخر لم نُسهم فيه، عندها سندرك كم كنّا مخطئين.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات النظام العالمی هذا التیار من الفوضى
إقرأ أيضاً:
التحول الرقمي.. قرار يصنع المصير
د. ذياب بن سالم العبري
ليست كل لحظة تمنح المؤسسات فرصةً للنجاة، ولا كل زمن يسمح بإعادة المحاولة. فبعض القرارات، حين تتأخر، لا تنتظرك النتائج؛ بل تسبقك العواقب.
في زمنٍ يُعاد فيه تشكيل المفاهيم، وتتسارع فيه الخطى نحو المستقبل، لم يعد البقاء للأقوى ولا للأكبر، بل للأذكى فهمًا، والأجرأ تحرّكًا. لم تعُد المؤسسات على خط انطلاق مشترك، بل على مفترق مصيري: إما أن تختار التحوّل الرقمي بوعي وجرأة، أو تتخلّف عن الركب دون أن تدري.
والتحوّل الرقمي لم يعد تحسينًا تقنيًا تفرضه الموجات، بل قرارًا مصيريًا يعكس نضج المؤسسة، ويكشف قدرتها الحقيقية على عبور المستقبل. وهو في جوهره، ليس مجرد إدخال أدوات رقمية على العمليات، بل تغييرٌ شامل في طريقة التفكير، ونمط تقديم الخدمات، وآلية اتخاذ القرار، بالاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتقديم قيمة أكبر للمستفيد، بكفاءة أعلى، ومرونة أشمل.
إنه ليس مشروعًا يُضاف إلى الخطط، بل عقليةٌ تتجسّد في كل إجراء، وإرادةٌ تواجه التعقيد بالشجاعة لا بالتردد.
كم من جهةٍ اقتنت أحدث الأنظمة، لكنها ظلت رهينة البيروقراطية؛ لأن طريقة التفكير لم تتغير، ولم تتجدد أدوات القرار فيها. فليست التقنية بذاتها من يصنع التحوّل، بل وعي المؤسسة بها، وجرأتها على توظيفها وتطويعها، وقيادتها بمنطق جديد وروح متجددة.
وهنا تتجلّى أهمية القيادة الواعية، القادرة لا على إدارة التغيير فحسب؛ بل على إشعاله. القائد الحقيقي لا ينتظر خارطة الطريق، بل يصنعها. يمنح الثقة، ويرسم الرؤية، ويفتح النوافذ أمام فرق العمل لتبدع وتتفوّق، بدل أن تنغلق خلف جدران اللوائح.
ومن قلب هذا المشهد المتحوّل، يبرز الذكاء الاصطناعي لا كترفٍ عصري؛ بل كأداة حيوية لإعادة تشكيل القرار المؤسسي. بقدرته على تحليل البيانات، ورصد الأنماط، وتوليد البدائل، يتحوّل إلى محرّك فاعل يعيد تعريف كفاءة الأداء، ويختصر الزمن، ويقلّص الهدر، ويمنح القرار عمقًا لم يكن متاحًا من قبل.
لم تعد المؤسسات في سباق على امتلاك الأدوات، بل في سباق على الذكاء في إدارتها، والقدرة على تسخيرها بمنطق استباقي. فما كان يُنجز في سنوات، بات يُختصر في أشهر. والسؤال: هل يليق بنا أن نُواصل السير بخوف، بينما العالم يركض بثقة نحو المستقبل؟
نحن بحاجة إلى نمط تفكير جديد، لا يرى في التحوّل الرقمي تهديدًا للاستقرار، بل فرصةً للتجديد. تفكير يُبنى على الشفافية والمعرفة، يُعلي من قيمة الموظف كشريك في الإنجاز، ويضع المواطن في قلب الأولويات، ويرى في التقنية مخرجًا ذكيًا لا عبئًا إداريًا.
السؤال لم يعد: هل نرغب في التحوّل الرقمي؟ بل: هل نمتلك الجرأة لنبدأ به فعلاً؟ هل نملك القادة الذين يُشعلون الفكرة، لا أولئك الذين يُطفئون جذوتها بالتردد؟ هل نحرّر التقنية من الأقفاص لنقود بها، لا أن نتذرع بها؟
القرار لم يعد خيارًا إداريًا مؤجلًا؛ بل أصبح اختبارًا حقيقيًا لوعي المؤسسة وشجاعتها. فنحن لا نعيش زمن الانتظار، بل زمن المُبادرة. ومن لا يملك الجرأة ليصنع قراره الآن، سيجد نفسه غدًا أسير قرارات الآخرين.
التحوّل الرقمي ليس مشروعًا من ضمن المشروعات؛ بل مستقبلٌ يُصنع الآن، ونافذة من ضوء لا تفتح مرتين. فإما أن ننهض إليه بخطى ثابتة، أو ننسحب من مشهد الغد بصمتٍ لا يسمعه أحد!