تبدو المدن للوهلة الأولى عبارة عن عمارات إسمنتية وزجاجية واختناقات مرورية لا تنتهي، ونصب تذاكرية لا معنى لها. لكن هذه النظرة تبدو نمطية جدا وظالمة ولا تعطي الحقيقة. عندما نتعمق في المدن نستطيع اكتشاف صورة أخرى مختلفة تماما عن تلك الصورة التي أتينا بها من القرية التي تحولت هي الأخرى إلى مدينة بصورة أو بأخرى دون أن ندري لكثرة ارتباطنا العاطفي بها.
تتحول المدينة بعد لحظات من التأمل إلى مجموعة من الطبقات التاريخية التي يقود بعضها إلى فهم بعض، وإلى مجموعة من الحكايات والمتناقضات الفكرية، وإن شئنا، إلى مجموعة من الرغبات والصدمات. وهن، أعني المدن، بهذا المعنى لسن مكانا عابرا أو مؤقتا للعيش ولكنهن نصا مفتوحا يحتاج إلى تأويل.. وفكرة أن المدن تقرأ كما تقرأ الكتب ليست استعارة مفهومية ولكنها حقيقية يمكن أن تكون مدخلا معرفيا لفهم هذا العالم عبر تمفصلاته المكانية وعبر تناقضاته الطبقية.
كانت الصورة الكلاسيكية لأدب الرحلات تصنف المدن بناء على عجائبها، وتحاول النصوص الرحلية وصف تلك الغرائبية، وكان هذا الأمر ذروة الإثارة السردية في تلك النصوص الكلاسيكية لكن الأمر بدأ مختلفا في العصر الحديث الذي شهد ثورة معلوماتية أتاحت للجميع مشاهدة تلك الغرائبية بشكل مباشر إلى درجة أنها أي كتابة عنها تكاد تفقد الدهشة أمام الصورة المتحركة المباشرة. هذا الأمر حول النصوص الرحلية إلى نصوص تفاعلية مع المكان ومع تاريخه وما شهده من تحولات سواء على مستوى بنية المكان أو بنية الإنسان نفسه.
وعندما بدأت أحاول الكتابة عن المدن التي أزورها بطريقة مختلفة كنت أكتشف جانبا سرديا في كل مدينة.. وجانبا وجدانيا لا يبدو ظاهرا من الوهلة الأولى.
باريس، على سبيل المثال، عصية على التلخيص، لا تُؤتى من بابها، بل تُقرأ مداورة، لا من معالمها بل من غيابها؛ من الطريقة التي يهبط بها الغروب على نافذة مقهى في الحي اللاتيني، أو من كيف تحتفظ زقاق مرصوفة بصدى خُطوة منسية لفيكتور هيجو، أو بقايا فنجان قهوة لسارتر. لا يمكن فهم باريس بزيارة برج إيفل، بنفس الطريقة التي لا يمكن عبرها فهم رواية لمجرد قراءة عنوانها. تستطيع فهم باريس عندما تقرأ تاريخها المخزون في متاحفها، أو ذلك الإيمان المنقوش في سقوف كنائسها، أو عبر المطر المنهمر في ساعات الفجر الأولى وأنت تسير إلى جوار نهر السين في محاولة لسماع قصصه عن التاريخ وتحولاته والسياسية ودسائسها.
أما قرطبة فهي التي تقرؤك، هي التي استوعبت كل الفلاسفة والمفكرين والشعراء واللغويين الذين مروا في طرقاتها ورحلوا.. ورغم ما تعنيه قرطبة في تاريخنا إلا أنني لم أستطع ممارسة فعل الحنين، ليس الحنين للأندلس وحدها ولكن للحالة الحضارية التي استطاعت أن تصنعها الأندلس على مدى قرون طويلة.
ولذلك فإن ما وجدته في قرطبة وغرناطة وأشبيلية وطليطلة لم يكن مجرد سرد عظيم للتاريخ الذي ما زال شاخصا في المخطوطات وفي العمارة الإسلامية وفي المنارات والشرفات والشبابيك ولكن في ذلك المزج الغرائبي بين الضوء والحجر الذي يشعرك أنك في مكان آخر مختلف عما يمكن أن تجده في مكان آخر. وذلك المزج بين الجامع والكاتدرائية.. لم أستطع أن أرى في ذلك أثرا ولكن نصا تأمليا كتب بصياغتين متناقضتين.
أما القاهرة فأمرها مختلف تماما، إنها مدينة ألف ليلة وليلة، لا تكاد قصتها تنتهي في الصباح الصادق عند حافة الذروة السردية حتى تبقى في شوق لتستكملها في المساء القادم. مدينة تملك كل سحر الشرق وغرائبه، وفي كل مرة تزورها تجد نفسك تكتشفها من جديد، تكتشف شوارعها ومعالمها وروائحها.
السؤال إذا ليس كيف نكتب عن المدينة، بل كيف نصغي لها، كيف نقرأ توقفاتها وهوامشها. كل مدينة لها سردها الخاص، شوارعها، ومتاحفها، ومخطوطاتها.. وحكايتها الحقيقية تكمن بين السطور، وبين الأزقة، وفي رائحة المطر أول الفجر. تكمن حقيقة المدن في الالتفافات والأزقة وليس في الطرق المستقيمة والمزينة بأنوار النيون، تكمن أيضا في التعثر، والغياب، وربما في التشرد أحيانا في الطرق الخلفية حيث طبقة أخرى من البشر لا نستطيع رؤيتهم في الواجهات الأولى وتحت الأضواء.
هذه هي المدن، أكبر بكثير من كونها كتابا، إنها مكتبات، أو أرشيفات لسرديات متداخلة ومتضادة ومتناقضة. وهذا لا يمكن اكتشافه من المرور العابر في المدن، ذلك المرور الذي نحاول اختزاله في صورة كاميرا الهاتف، أو في أفضل الأحوال صورة كاميرا بعدسة طويلة.. تحتاج المدن أن نقرأها في سياق زمن مختلف، وهذا يحتاج بعبارة أخرى أن «نتسكع» فيها، نجرب عمقها بشكل بطيء جدا، وهادئ ومتمرد أيضا.. وهذا قد يتحقق عندما تمشي فيها بلا وجهة، يعني أن تفتح المدينة أمامك كأنها نص يعيد كتابة نفسه مع كل خطوة تخطوها ومع كل دهشة تشعر بها، ومع كل متعة تواجهك وأنت تحاول العودة إلى مربعك الأول.
ولهذه القراءة ما يمكن أن يكون سياسة؛ فبعض المدن كُتِب عليها بالعنف، بالإقصاء الطبقي، بالنسيان المتعمَّد، وبعضها نسي عند هامش التاريخ، وبعضها بقي عند عتبته الأولى.
والمدينة النيوليبرالية تتحدث بلغة العقار والعرض البصري، وتمحو لهجات من سبقوها. والمدينة التاريخية تتحدث بلغة المخطوطات، والمدينة التوثيقة تتحدث بلغة المتاحف.. وبعض المدن مرعبة وبعضها على هيئة أنثى تتلوى حولك كلما اقتربت منها.
أن تقرأ المدينة بعمق، هو أيضا أن تقاوم تحويلها إلى سلعة، أن تُصرّ على أن الحي ليس مجرد موقع، بل صوت وذاكرة، وأن الجدار ليس مجرد بناء، بل أرشيف.
وهناك أخلاقيات أيضا.. أن تقرأ مدينة بعناية، هو أن ترفض تسطيحها، كما لا نختزل رواية في حبكتها، يجب ألا نختزل المدينة في برنامج زيارتها. المقهى الذي تجلس فيه فتاة حسناء كل صباح، والمقعد الذي همس فيه طفل بسرّ لغريب، ومصباح الشارع الذي يومض قبل الفجر، كل هؤلاء يشكلون وجه المدينة، تلك التي نتورط في قصتها ولا نستطيع سردها.
في النهاية، لا أعتقد أننا نزور المدن.. المدن هي التي تزورنا، تبقى معنا بعد أن نغادرها، وتعود لنا في أحلامنا تراودنا أن نزورها مرة أخرى، ونشمها في رائحة التوابل، أو في هندسة الظل.. المدن التي تكسننا لا يمكن أن نحملها معنا على هيئة تذكارات ولكن تبقى معنا كهوامش على أطراف ذواتنا لا نستطيع أن نفك منها أبدا.
أن تقرأ مدينة، إذا، هو أن تسمح لها بإعادة كتابتك. وهذا، ربما، هو الرحلة الوحيدة التي تستحق أن تُخاض، ثم تكتب.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة «عمان»
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الإضاءة الاصطناعية تطيل عمر النباتات في المدن
في المدن التي لا تنام، لا تنام النباتات أيضا. هذا ما تكشفه دراسة علمية جديدة نشرت يوم 16 يونيو/حزيران في مجلة "نيتشر سيتيز" حيث رصد فريق من الباحثين تغيرا لافتا في سلوك النباتات داخل المدن الكبرى، سببه الضوء الاصطناعي وحرارة العمران المتزايدة.
وخلصت الدراسة إلى أن موسم النمو في المناطق الحضرية بات أطول بنحو 3 أسابيع مقارنة بالمناطق الريفية، وهو فارق زمني كبير يحمل دلالات بيئية واقتصادية لا يستهان بها.
الدراسة التي غطت 428 مدينة في نصف الكرة الشمالي، من نيويورك إلى بكين، ومن باريس إلى طهران، اعتمدت على تحليل صور الأقمار الصناعية وبيانات دقيقة حول درجات الحرارة القريبة من سطح الأرض وشدة الإضاءة الليلية، إلى جانب مؤشرات نمو النباتات خلال الفترة ما بين عامي 2014 و2020.
تقول الباحثة الرئيسية في الدراسة "لين مينج" -أستاذة علوم الأرض والبيئة في جامعة فاندربلت الأميركية- إن نتائج الفريق أظهرت أن "الإضاءة الليلية الصناعية ليست مجرد مسألة جمالية أو أمنية في المدن، بل باتت عاملا بيئيا يغير من إيقاع الحياة النباتية".
وتوضح الباحثة في تصريحات لـ"الجزيرة.نت" أن النباتات في المدن تبدأ موسم النمو أبكر بـ12.6 يوما في المتوسط، وتنهيه متأخرا بـ11.2 يوما مقارنة بالريف، ما يعني فعليا أن النباتات الحضرية تنشط نحو 3 أسابيع إضافية سنويا.
وبحسب مينج، فإن التأثير الأوضح للضوء لم يكن في تسريع النمو فحسب، بل في تأخيره للتوقف. "ما أدهشنا هو أن نهاية الموسم في المدن تتأخر بصورة ملحوظة، ما يطيل الفترة التي تنمو فيها الأوراق ويستمر فيها التمثيل الضوئي، وهذا له آثار تراكمية على البيئة".
لم تكتف الدراسة برصد التأثير الزمني، بل قاست قوة الإضاءة الصناعية وتوزيعها الجغرافي، ووجدت أن شدة الإضاءة تتزايد كلما اقتربنا من مراكز المدن، مما يعزز تأثيرها على النبات بشكل تدريجي.
إعلانورغم أن المدن الأميركية كانت الأشد سطوعا، فإن بداية موسم النمو كانت أبكر في المدن الأوروبية، تليها الآسيوية، ثم الأميركية. وتشير الدراسة إلى أن نوع المناخ يلعب دورا في هذه الفروق، إذ كان تأثير الضوء الصناعي في تسريع النمو واضحا في المناطق ذات الصيف الجاف أو الشتاء البارد دون فترات جفاف.
تفتح هذه النتائج الباب على أسئلة لم تكن تطرح من قبل عند تصميم البنية التحتية للمدن. هل يمكن أن تتداخل الإضاءة الليلية مع النظام البيئي للنباتات؟ وهل يجب علينا إعادة التفكير في طريقة إضاءة شوارعنا وحدائقنا العامة؟ وفقا للمؤلفة الرئيسية للدراسة.
ترى "مينج" أن الجواب نعم، وتضيف: "يجب ألا نغفل أن أنظمة الإضاءة الجديدة -خصوصا مصابيح LED التي أصبحت معيارا عالميا- تبعث أطيافا ضوئية أقرب إلى الطيف الذي تستشعره النباتات، ما يجعل تأثيرها البيولوجي أقوى مما كنا نعتقد".
وتوصي الدراسة بأن يأخذ مخططو المدن في الاعتبار الآثار البيئية للإضاءة، سواء من حيث شدتها أو نوعها، بحيث يتم تطوير تقنيات أكثر "حساسية نباتيا" توازن بين الأمان البشري وسلامة البيئة الحضرية. الأمر لا يتوقف على الحدائق فقط، فمواسم النمو الطويلة قد تعني أيضا تغيرات في أنماط الحساسية لدى البشر، وامتداد فترات انتشار بعض الحشرات، وربما حتى تغيرات في جودة الهواء.
ورغم أن الدراسة ركزت على نصف الكرة الشمالي، فإن نتائجها تكتسب أهمية عالمية، خصوصا مع استمرار التوسع العمراني في الجنوب العالمي، حيث تتزايد كثافة المدن وينتشر الضوء الصناعي بوتيرة سريعة. وفي ظل غياب تخطيط بيئي دقيق، قد تتكرر آثار "الليل المضيء" التي رصدت في باريس وبكين، في مدن مثل لاغوس والقاهرة ونيودلهي.