خبر قصير مكتوبا أو مرئيا، قد لا يستغرق نصف دقيقة، لكننا نبقى معه طويلا؛ ففي سرعة الإعلام إغراء للتروي في الكتابة؛ ففي الأدب عمق خاص يؤثر فينا طويلا؛ فقد يصير الخبر رواية أو فيلما أو مسرحية.
مفارقة صادمة، سواء كانت جبرا أو طوعا! بالرغم من تغني الأدب والفن بالأوطان، وحبها والبقاء فيها والدفاع عنها، إلا أن المواطن الذي يتأثر بذلك، سرعان ما يكفكف دموعه ويرحل! غرق عشرات المهاجرين قبالة سواحل اليمن، قبل بضعة أيام، لا يعيدنا فقط الى حوادث غرق الآلاف من قبل، بل إلى إنقاذ المستقبل من الغرق.
هي القصص والروايات من حياتنا، من حياة الشعوب. لذلك تنافس كتب التاريخ، بل لعها تكون أكثر صدقا؛ ذلك أن للمؤرخ أن ينحاز لزمنه وسلطات ذلك الزمن، فيما يكتب الأدب ما يعيشه.
لربما ودّ الشباب ممارسة السباحة والترفيه عن النفس، كما يعيش أمثالهم، على البرّ وعلى البحر؛ لكن حينما يطردهم البرّ، فإنهم يغامرون بل يهربون، فيصير أيّ مركب مركبا للهجرة والرحيل، لا للصيد والتجارة، لذلك يصطادهم البحر، كما اصطادهم تجار الحروب.
لم يذكر الخبر القادم من اليمن (بلاد العرب السعيدة) جنسية الغرقى، ربما لتدخل ما في تحرير الخبر، تماما كما يفعل محررو الأخبار في حوادث مشابهة، حتى لا يوحي الخبر بأن أهل البلد يهاجر مغامرا متعرضا لاحتمال الغرق حتى لا يتعرض لغرق محقق في بلاده؛ فما أصعب هذا كله! لعل باحثا يختار موضوع "الهجرة" يستعرض الهجرة الطوعية غير الرسمية التي تتم بالتسلل عبر البحار، خارج حدود الأوطان، من خلال الروايات أو القصص، أو من خلال الروايات الشفوية، أو من خلال السينما أو المسرح، راصدا مآلات المهاجرين موتا في الأمواج أو ذلا في البلاد الجديدة، أو مصائر مختلفة.
ماذا يقول من يركب القوارب في أول إبحار؟ سيقول ما يقوله مكفكفا دموعه على أمل العودة للوطن وقد اغتنى، أو "سحب" أسرته إليه هناك في منفاه الاختياريّ: ليتني بقيت هناك! إنها دعوة عميقة للبقاء في الوطن، لكن تتنازعها فكرة تأمين متطلبات الحياة، في زمن التحولات الذي لم يرحم أحد.
هو المهاجر الذي اختار الخلاص الفردي، وهي دعوة للكتابة فيما يتفق فيه وعليه المثقفون، وهي مختلفة عما اختلف الساسة عليه في البلد الواحد.
تصبح الكتابة واجبا تدفع المواطنين، للبحث عن خلاصهم الفردي والجمعي في أوطانهم.
هنا، لا مجال إلا للربط بين ما هو شخصي واجتماعي وسياسي، من الخلاص الشخصي؛ بمعنى أن إنفاق الوقت خارج الوطن للحصول على ورق رسميّ، ودخل مقبول، هو وقت مضاعف للوقت الذي يمكنه فيه تحقيق ذاته على تراب وطنه.
في عالم السينما، صورت الأفلام الهجرات يأساً، معمقة حب الوطن، وعلى حضوره، حين يصير التضامن الإنساني سائداً خلال الحياة، لا خلال الرحيل الخائف فقط.
في عالم السوشيال ميديا، ينقسم الشباب من متبرم بالحال، وبين من يقبله مزينا الحال، كون لا يشكو مما يشكو المتبرمون منه.
في الإعلام الحال ملتبس، خاصة في الإعلام الرسمي، لذلك فإن الأدب من قصص وروايات، ويوميات هو الأكثر قدرة على التعبير عن عالم الهجرة والمهاجرين.
أجنحة للطائرات، ومثلها رمزيا لكل المراكب والنفوس المغتربة التي تجد حلّ الاغتراب داخل الوطن بالاغتراب خارجه.
وهي أجنحة كلمات، لا لتلحق بالمهاجرين لتعيدهم الى الوطن، بل لتكون أجنحة نطير بها داخل أوطاننا حتى نضمن ألا يهرب الناس للبحر.
لم يهاجر أحد خارج وطنه إلا وندم، فيما لم يندم من بقي في الوطن، أما المال فيذهب ويروح، ولعل مثال غزة الفلسطينية اليوم دليل حيّ، وهو ما يظهر في كلمات الكتاب والمواطنين عن البقاء، بالرغم من تعرض الباقين للتجويع والموت.
هنا تتجلى رسائل الأدب الحقيقي النابع من عمق الإنسان والمنتمي له، حين يسافر الكاتب فينا، يستجلي ما نفكر به ونشعر به، وحيث يدفعنا برفق وذكاء إلى تأمل مكاننا في الوطن، وبأنه دوما لنا مكان في أوطاننا؛ فلنا من نقدمه ولنا ما نأخذه.
ذلك هو السفر الحقيقي حين نتصالح مع ذواتنا، فنبقى هنا، كل في وطنه، في هذا الوطن الكبير، عندها فإن كل باق في الوطن، في أي قطر منه، سيقوينا جميعا.
حين نشر الطب صالح رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" عام 1966 فإنها سرعان ما صارت واحدةً من أفضل مائة رواية في القرن العشرين على مستوى الوطن العربي، بل نالت استحسانا وقبولاً عالميا، وعلمت أن هناك نية بتحويلها الى إلى فيلم سينمائي.
ولأن الهجرات عادة ما كانت في بلادنا الة الغرب، أو الشمال الغربي، فإنه يمكن رؤية الرواية كعمل أدبي يتحدث عن العلاقة بين الشرق والغرب. وهي التي اختطت طريقا في الأدب. المختلف خلال 59 عاما هو أن الهجرة كانت تتم بشكل رسمي عن طريق السفر العادي المؤقت الذي يتحول الى هجرة طوعية، أو عودة خائبة مصدومة.
منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومرورا بالقرن العشرين، والربع الأول من القرن الواحد والعشرين، ونحن نعيش حالة من الترابط ما بين الهجرة وأحوال بلادنا، خاصة أواخر العهد العثماني، حيث كانت الهجرات بحثا عن الخلاص. ولم يكد القرن التاسع عشر ينتهي، حتى أصبحت الهجرات ظاهرة خاصة في بلاد الشام التي أوجد الكتاب المهاجرون أدبا خاصا بموضوعها، جمعتهم رابطة أسموها بالرابطة القلمية، استمرت منذ عام 1920 الى عام 1932، عام رحيل جبران خليل جبران أحد أبرز المؤسسين. ما نعرفه أن جبران اختار أن يعود للوطن للعيش فيه، فتأخر، فعاد ولكن ليحتضنه تراب وطنه.
لم تتوقف الهجرات، لا في أواخر العهد العثماني-التركي، ولا في عهد الاستعمار، ولا في عهد الاستقلال، لكنها تزايدت آخر عقدين من خلال الهجرات غير القانونية، في إشارة كان المفروض وقتها أن تكون ناقوسا يدق للتحذير من وصول بلادنا إلى أوطان طاردة لأبنائها خصوصا جيل الشباب.
منظمة نشترك فيها جميعا من السياسي إلى الاقتصادي إلى الثقافية لتقوية بقاء العربي على أرضه؛ فكل ومجاله، وكل بما وهب، حتى نعيد ثقة الشباب بأنفسهم، وبأمل تحقيق الذات هنا في الوطن.
لعل الكلمة، واللحن، والخط واللون، والمشهد البصري الدرامي، تقوم بأداء أكثر الرسائل نبلا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الوطن من خلال
إقرأ أيضاً:
قصة الغواص وسام الزهراني الذي فُقد بشاطئ أبحر في جدة
جدة
تتواصل جهود فرق حرس الحدود والغواصين المتطوعين بلا توقف للعثور على جثة الغواص وسام منصور الزهراني التي فقدت قبالة شاطئ أبحر ، وسط تضامن واسع من المجتمع، وتفاعل كبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المحلي.
وقال براء العمودي، أحد أقارب وسام الزهراني، أن رحلة الغوص انطلقت مساء الأحد 3 أغسطس 2025، من شاطئ منتجع شمال جدة، بمشاركة وسام وصديقه فهد، ومع حلول المساء، فُقد الاتصال بهما بشكل مفاجئ، مما أثار القلق وبدأت على الفور عمليات بحث أولية، انتهت بالعثور على جثمان فهد عرفات على الشاطئ، بينما لا يزال مصير وسام مجهولًا حتى الآن.
أضاف العمودي أن وسام وفهد في العقد الرابع من العمر، ويتمتعان بخبرة كبيرة في مجال الغوص. ولفت إلى أن وسام تحديدًا هو مدرب محترف، وينتمي إلى عائلة محترفة في الغوص، مشيرًا إلى احتمالية أن يكون تجمع أسماك القرش في الموقع سببًا في الحادثة. وسام الزهراني، هو أب لثلاثة أبناء، ويُعرف بحُسن الخلق واحترافية عالية في الغوص. وهو شقيق طلال الزهراني، عضو هيئة الاتحاد السعودي للإنقاذ والسلامة المائية.